السرطان والإهمال الحكومي يفتكان بالعراقيين مع الارتفاع الباهظ لتكاليف العلاج
قلة تجهيز أدوية السرطان للمشافي وقلة التخصيصات المالية الحكومية لتوفير الرعاية اللازمة لمرضى السرطان يساهمان بارتفاع نسبة الوفيات بين صفوف المصابين بالمرض ممن يشكون الفقر والفاقة.
البصرة – الرافدين
طالبت مصادر طبية عراقية السلطات الحكومية بالالتفات إلى مرض السرطان الذي صار يحصد ضحاياه بمعدلات مخيفة، تكشف العجز الطبي في تقديم العلاجات المطلوبة للمرضى.
وحذرت المصادر الطبية من أن وباء السرطان يفتك بالعراقيين أكثر من أي بلد في العالم، في ظل شحة الأدوية وانعدام الرعاية الطبية وارتفاع تكاليف العلاج.
وتباع أدوية الأمراض السرطانية في العراق بأسعار باهظة، وتكلف المصابين المضطرين إلى شرائها من خارج المستشفيات أثمانًا كبيرة وسط التعويل على وزارة الصحة لإدراجها ضمن تعاقداتها مع الشركات وتأمينها للناس.
ويعد مرض السرطان أحد مسببات الوفيات العشر الأولى في العراق وفق دراسات طبية دولية، فيما تزعم أرقام وزارة الصحة في حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني بأن الإصابة بالأمراض السرطانية في العراق دون 80 حالة لكل 100 ألف عراقي في العام الواحد.
ويوجد في العراق أكثر من 30 ألف مصاب بأمراض سرطانية وفقًا لإحصائيات حكومية يشكك فيها مختصون يرون أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير من الرقم المعلن، وسط نقص كبير في المراكز المتخصصة والتقنيات المتطورة والعلاج الحديث، وهو ما دفع الآلاف من المرضى إلى السفر إلى خارج البلاد من اجل تلقي العلاج.
وتقدم وزارة الصحة خدماتها، في أربع مراكز لعلاج الأورام السرطانية للأطفال أحدهم في البصرة، وخمسة مراكز للعلاج الإشعاعي، وثلاث وعشرون مركزًا للعلاج الكيميائي في عموم العراق، وهو ما يراه أطباء ومختصون غير كافٍ.
ويطالب هؤلاء الأطباء بوضع خطط قصيرة وطويلة المدى، للوقاية من السرطان عبر تقليل المسببات، فضلًا عن الاهتمام بالمصابين من خلال توفير العلاجات والأدوية والأجهزة المطلوبة بدلًا من تحميل ذوي المرضى تكاليفها الباهظة.
ويؤشر رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، حاجة البلاد الى أجهزة متطورة في التشخيص وضرورة تغطية النقص الحاد في العلاج الاشعاعي بالعديد من المراكز الطبية، بسبب ارتفاع أعداد المصابين، كما يؤكد وجود شحة كبيرة في علاجات الأمراض السرطانية والبيولوجية وارتفاع تكاليفها.
وأضاف شنكالي أن “الحكومة خصصت 200 مليون دولار في موازنة العام 2023 لشراء الأدوية السرطانية، كما خصصت قرابة 250 مليون دولار لتغطية بعض المتطلبات من خلال النفقات الحاكمة وهذه المبالغ غير كافية، ولا ترقى لمعاناة الناس وحاجاتهم مقابل حجم الاصابات المتزايد”.
ولفت إلى أن شركات الصناعة الدوائية المحلية لاتسد سوى 15 بالمائة من الحاجة للأدوية السرطانية، وذلك جراء “الخسائر التي تكبدتها تلك الشركات مثل شركة سامراء للأدوية التي خسرت خلال أول 10 أشهر من عام 2022 ما مجموعه 31 مليار دينار”.
ويضطر ذوو المصابين إلى مراجعة الصيدليات الخاصة للحصول على غالبية الأدوية والعلاجات، بسبب عدم مقدرة المشافي الحكومية على توفيرها بكميات كافية، كما ان تلك المشافي متهالكة المرافق الخدمية ومراجعوها يعانون من تأخر تقديم العلاجات، بحسب عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي، الذي يقول إن “نسبة ما توفره الدولة من علاجات للأمراض السرطانية في الوقت الحالي لا يتجاوز الـ 10بالمائة.
ومع أن الدولة ملزمة بتوفير بيئة طبية مناسبة للمصابين بالسرطان، إلا أن الواقع المأساوي كما يصفه الغرابي يجبر الكثيرين للجوء إلى المشافي الأهلية، وعدد غير قليل منهم يتخلى بعد فترة عن متابعة جلسات العلاج في تلك المشافي لعدم قدرته على تحمّل تكاليف الاستشفاء غالية الثمن فيها “لتعقبها انتكاسة صحية للمرضى يصعب التعافي منها”، يضاف الى ذلك كله “الغلاء الفاحش في أسعار علاجات الأمراض السرطانية” وفقًا للغرابي.
ويضيف أنه مع سريان العمل بقانون الضمان الصحي الذي تم اقراره في الدورة البرلمانية السابقة، والذي ألزم الدولة على تحمل ما نسبته 70 بالمائة من علاجات مرضى السرطان، إلا أن موازنة وزارة الصحة لعام 2023 لم تبلغ سوى 10 تريليونات دينار، خصص منها تريليون و600 مليار دينار لمختلف العلاجات بما فيها السرطانية”. وهذه الأرقام المحدودة تعني أن الدولة تتحمل ما نسبته 30 بالمائة فقط من قيمة العلاجات تلك، ويدفع المرضى أو ذووهم ما يتبقى من نفقتهم الخاصة”.
وتزايدت، نسبة الإصابة بالسرطان في مدن البلاد التي تعرضت لعدوان عسكري قادته الولايات المتحدة مع تحالف ضم أكثر من 30 دولة بين عامي 1991-2003 وما تلاها من عمليات عسكرية استمرت منذ عام 2003 وحتى نهاية عام 2016، في وقت تعاني فيه مستشفيات علاج السرطان من شح العلاجات اللازمة.
وسجلت معدلات الإصابة بمرض السرطان في العراق، ارتفاعًا بعد عام 2003، وذلك بسبب تفاقم مشاكل التلوث البيئي والمخلفات الحربية والأسلحة المحرمة دوليًا التي استخدمتها القوات الأمريكية في احتلال العراق وخلال عملياتها العسكرية.
وتسبب التلوث والإهمال الحكومي، بانتشار لافت لمرض السرطان في محافظات نينوى والبصرة والانبار وميسان وذي قار وبابل والقادسية والمثنى.
ويعيش دواي ناجي من محافظة البصرة جنوبي العراق، في دوامة من القلق على مصير والدته المصابة بسرطان الدم والراقدة منذ أسابيع بمستشفى الصدر التعليمي، فهو يخشى أن تلتحق بشقيقته الصغرى وابن شقيق له، اللذين توفيا بالسرطان سنة 2014.
ويعتقد ناجي (45 عامًا) بأن انبعاثات الحقول النفطية هي السبب ويتابع قائلًا إن “شعلة غاز لمنشأة استخراج نفط لا تبعد عن منزلنا في دور معمل الورق بمنطقة الدير شمالي البصرة، سوى 1000 متر فقط وبسببها صار سكان المنطقة عرضة للإصابة بمختلف أنواع الأمراض بما فيها السرطان”.
ويشير إلى عدم توفر الكثير من الأدوية السرطانية الأساسية والساندة في مركز الأورام بالمحافظة.
ويبدي قلقه من ضعف المستلزمات والعلاجات وشكوكه في أن التباطؤ في إعطاء الجرع الكيماوية قبل عشر سنوات لشقيقته وأبن شقيقه بوقت مبكر ما عجل في وفاتهما، الأمر الذي دفعه لأخذ والدته إلى ايران في رحلة علاج شهر كانون الثاني عام 2023.
وخضعت هناك، لخمس جلسات علاج بالجرعات الكيميائية على ثلاث مراحل وسلسلة من العلاجات التي استلزمت انفاق مبلغ مالي مقداره 15 ألف دولار أمريكي، “إلا أن وضعها لم يتحسن” كما يقول.
وعاد دواي ناجي بوالدته إلى العراق ليستكمل علاجها في مركز الأورام السرطانية في مستشفى الصدر التعليمي بالبصرة وخضعت فيها منذ ذاك الحين إلى أحد عشر جلسة لتلقي الجرعات الكيميائية.
ويقطع ناجي 45 كم أسبوعيًا رفقة والدته من المنزل الى مركز الاورام السرطانية، ليحصل لها على الجرعة الكيميائية، وبسبب الزحام هناك يضطران للانتظار بين 8 إلى 10 ساعات في كل مرة.
ويقول بشيء من الاستياء إن “عدم توفر العلاجات في المركز يضطرني لشرائها من الصيدليات الخارجية بمبلغ خمسون الف دينار (30$)، كما أضطر لشراء حقن المناعة بمبلغ 35 الف لكل حقنة واجراء فحوصات PET Scan في منطقة بريهة بمبلغ 700 الف دينار (450$) بسبب وجود جهاز واحد فقط في مركز الأورام ويستقبل 10 حالات يوميا فقط وفي الكثير من الأوقات يتوقف عن العمل”.
قصة والدة دواي، واحدة من بين مئات القصص المشابهة في البصرة، لمصابين بأمراض سرطانية بلغت أعدادهم بين عامي 2004 و2022 عشرات الآلاف، تربط مصادر طبية وبيئية وبرلمانية اصاباتهم بتأثيرات النفايات الاشعاعية والمخلفات الحربية وملوثات العشرات من منشآت استخراج النفط التي لا تراعي المتطلبات البيئية.
ويبين أبو أحمد الشغانبي وهو موظف في دائرة كهرباء البصرة، بأنه فقد ثلاثًا من أفراد عائلته نتيجة الاصابات السرطانية.
ويغالب الشغانبي دموعه وهو يستعيد ذكراهم، إذ توفي ابنه أحمد سنة 2013 متأثرًا بورم سرطاني خبيث في رأسه.
وتوفيت ابنته رقية التي كانت تبلغ من العمر ست سنوات بذات المرض في سنة 2019 وفي السنة نفسها توفي ابنه حسن وهو بعمر ثلاث سنوات بسرطان أصاب رأسه كذلك.
ولم تنتهِ قصة الشغانبي المأساوية عند هذا الحد فقط، إذ تبين في شباط 2024، أن ابنته حميدة ( 5 سنوات) مصابة بسرطان الغدد اللمفاوية وهي تخضع للعلاج حاليًا في مستشفى الوارث بمحافظة كربلاء، وأكتشف بعدها بأسابيع إصابة طفلته الصغرى أم البنين وهي بعمر سنتين فقط، بتورم في الغدة النخامية.
وتأخذه لحظة شرود قبل أن يؤكد خضوع ابنته حميدة لخمسة عشر جلسة تلقي جرع كيميائية في مستشفى الوارث، ويوضح “تتلقى حقن كيميائية على مدى أربعة ايام في الأسبوع وبعدها تمنح استراحة لمدة اسبوع ومن ثم يعطونها حقنًا أخرى، وام البنين كذلك ترقد في ذات المستشفى وتتلقى العلاج”.
ويتهم الشغانبي السلطات في البصرة وفي بغداد بالتقصير، لعدم توفيرهما العلاجات الأساسية في المراكز السرطانية، وإهمال ذوي المصابين.
ويقول إن “الكثير من المرضى وعائلاتهم اضطروا إلى بيع منازلهم وكل ما يمتلكونه لتغطية تكاليف معالجة مرضاهم”.
بدورها تشكو رغد مجيد من مدينة البصرة وهي مصابة بسرطان الثدي، من تأخر حصولها على جرعة الكيماوي بسبب عدم توفرها في صيدلية مركز الأورام بالبصرة، على الرغم من أنها كانت قد حصلت بالفعل على عدد من الجرعات في المركز قبل ذلك.
وتبين رغد (39 عامًا) أن زوجها هجرها فور علمه بإصابتها بالمرض، وهي تعتمد على المساعدات المالية الخيرية لتوفير علاج أمريكي يبلغ سعر العلبة الواحدة منه 900 دولار، وتعتمد في البعض الآخر من علاجها على مناشئ محلية ومستوردة من إيران، والأخيرة علاجات بجودة أقل وأحيانًا تكون “غير فاعلة” وفقا لما سمعته رغد من أطباء مختصين.
انحسار الأدوية السرطانية في مركز سرطان البصرة، يؤكده محمد المنصوري رئيس منظمة (أهل الخير) التي تتبنى توفير بعض علاجات مرضى السرطان، والذي يؤكد ارتفاع اسعار العلاجات ما يصعب حصول المرضى الفقراء ومحدودي الدخل عليها.
وبحسب المنظمة، فإن بعض العلاجات متوفرة في مركز الأورام بمستشفى الصدر التعليمي، لكنها لا تكفي لسد حاجة المصابين في المحافظة، فيحصل تأخير في تجيز المرضى ما يضطر بعضهم لشرائها من الأسواق.
ويوضح المنصوري بأن بعض المرضى يحتاجون يوميًا إلى ما لا يقل عن أربعة حقن مناعة سعر الواحدة منها 35 الف دينار، وبعض العلاجات تتراوح اسعارها من 600-900 دولار، فيضطرون للجوء الينا “فنعمل على تأمينها عن طريق تبرعات المحسنين”.
وسبق أن كشف تقرير لصحيفة واشنطن بوست، عن تردي نظام الرعاية الصحية في العراق الذي وصلت آثاره إلى مستشفى سرطان الأطفال في البصرة الذي تم إنفاق مائة مليون دولار على تجهيزه.
وأصبح المستشفى ضحية لنظام رعاية صحية مليء بالفساد والإهمال.
ونقلت عن مسؤولين عراقيين قولهم إنه “بعد عقود من الحروب والعقوبات الدولية التي ضربت القطاع الطبي، يقوم اليوم جيش من المحتالين بسرقة تطلعات العراقيين إلى حياة صحية”.
وقال مسؤولون حاليون وسابقون، تحدثوا لصحيفة “واشنطن بوست” شريطة عدم الكشف عن هويتهم خوفًا من الانتقام، إن الفساد مستشر و”الأموال المخصصة لكل شيء، بدءًا من شراء الأدوية إلى بناء المستشفيات، يتم إهدارها من قبل مسؤولين ورجال أعمال، وأفراد من جماعات سياسية أخرى”.
ونقلت الصحيفة عن عاملين حاليين وسابقين في مستشفى سرطان الأطفال قولهم إن الفساد المالي يحول دون شراء أدوية السرطان وصيانة الأجهزة الطبية الحيوية.
وقال موظفو المستشفى السابقون إن بعضًا من السياسيين “راقبوا عملية الشراء وسعوا لتأمين عقود لحلفائهم وعندما حاول موظفو المستشفى خفض تكاليف العقد، تم الإبلاغ عن ذلك لممثلي الشخصيات السياسية القوية”.
وقال مسؤول سابق بالمستشفى “شعرت أنني كنت بين نارين كنت أرغب في خدمة هؤلاء الأطفال، ولكن من ناحية أخرى، كنت أحارب الأشخاص الفاسدين الذين يريدون سرقة أموالهم وحياتهم”.
وتؤثر الحالة النفسية لمرضى السرطان بشكل كبير في تعافيهم لكن في محافظة المثنى المجاورة لمحافظة البصرة تبدو الأمور أكثر صعوبة من البصرة؛ فقلة الخدمات ونقص الدواء يفاقمان تراجع الصحة النفسية لمرضى السرطان في المحافظة لاسيما وأنهم يضطرون لقطع مسافات طويلة والتوجه لمحافظات أخرى بحثًا عن العلاج.
وبحسب سجاد الحداد، رئيس مؤسسة كرم الزهراء الإنسانية في محافظة المثنى، فإن العدد الأكبر من آلاف المصابين بالأمراض السرطانية في محافظة المثنى يتوجّه إلى المحافظات الأخرى لتلقي العلاج.
وقال الحداد، إن وحدة صغيرة توجد في أحد مستشفيات المحافظة لمعالجة مرضى السرطان “لكنها متهالكة ولا تتوفر فيها أدنى متطلبات العلاج من الأجهزة والتقنيّات أو العلاجات، وغالبا ما تُحيل المصابين إلى المحافظات الأخرى”.
وأضاف أن “تكاليف علاج الأمراض السرطانية كبيرة جدًا، ولا يتمكّن منها المواطن الفقير وأن أغلب المصابين لا يملُكون حتى أجور التنقل؛ وهناك مرضى توفوا لعدم توفّر العلاج في المحافظة، وليست لديهم تكاليفه المالية”.
بدوره يضطر علي كريم إلى قطع مسافة تتجاوز المئة كيلومتر من محافظة المثنى حتى النجف، الواقعة على بعد نحو 180 كيلومترا إلى الجنوب من العاصمة بغداد، ليعالِج والدته المصابة بالسرطان فمحافظته، التي تعد الأكثر فقرًا في العراق، تفتقر إلى مركز متخصص في علاج هذا المرض؛ وحاله كحال الكثيرين من أبناء المحافظة.
ويشكو كريم (40 عامًا) الفاقة وضيق العيش؛ بينما تكلفه رحلة العلاج الشهرية نحو 200 دولار؛ ويقول إن مرضى السرطان “يعانون ألمين؛ ألم المرض من جهة، وتعب وإرهاق السفر من جهة أخرى، إذ نضطر للقيام بهذه الرحلة شهريًا”.
ويؤكد أن الحالة النفسية لوالدتي بدأت بالتراجع؛ الأمر الذي يؤثر كثيرًا في حالتها المرضية، إذ بدأ المرض يتفاقم بشكل كبير يومًا بعد آخر وأنا في طريقي إلى فقدها، لكن ليس باليد حيلة فأنا مجبر على السفر”.