مناطق الانبعاثات النفطية في البصرة تخنق السكان بغازاتها السامة
ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في البصرة ينذر بمستقبل قاتم في ظل تجاهل الحكومة للمخاطبات والجهود الحقوقية والبيئية للتخفيف من آثار الملوثات على سلامة السكان.
البصرة – الرافدين
حذر مختصون بشؤون البيئة في البصرة من مخاطر ارتفاع معدلات التلوث البيئي في ظل عجز حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني عن معالجة التخلف البيئي المتفاقم في العراق والذي تسبب بتفشي الأمراض المزمنة لاسيما السرطانية منها فضلًا عن تهديد السلامة العامة للعراقيين.
وانتقد المختصون انعدام التخصيصات المالية الكافية لمعالجة مشاكل البيئة في العراق، مشيرين إلى أن حكومة السوداني تخالف برنامجها في القضايا البيئية التي لها تأثير مباشر على صحة الناس.
وأرجعوا التلوث البيئي في المدينة الغنية بالنفط إلى عدد كبير من العوامل، أبرزها الغازات المنبعثة من حقول استخراج النفط ومحطات تكريره، فضلًا عن محطات إنتاج الطاقة الكهربائية.
وتتستر حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني على إعلان الإحصاءات الرسمية لحجم التلوث البيئي، إلا أن تصريحات سابقة لوزارة البيئة تؤكد أن الملف البيئي يعد من الملفات الصعبة، حيث إن هناك ملوثات كثيرة داخل المدن وخارجها، ناتجة عن أسباب متعددة مبينة عجز الوزارة عن تحجيم التلوث بسبب قلة التخصيصات المالية.
وسبق أن حذر مسؤولون في وزارة الصحة من تزايد الإصابات بالسرطان في كل المحافظات والمناطق النفطية، بسبب الانبعاثات الملوثة وأكدوا أن معدل الإصابات بسرطان الثدي والقولون والقصبات والغدد اللمفاوية والمثانة تزداد بنسبة 10 بالمائة سنويًا في البصرة.
ويعزو رئيس الهيئة العراقية للسيطرة على المصادر المشعة الدكتور كمال حسين الربيعي، أسباب ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان إلى مخلفات البحث وإنتاج النّفط الخام كمتطلبات المسوحات والاستكشافات وحفر الآبار وحقن التربة الذي تصاحبه بعض الغازات السامة كالغاز الحامضي وغيره الذي يعد من الغازات الخطرة على صحة الانسان لاحتوائه على نسب عالية من الكبريت”.
ويستعرض الربيعي أبرز أنواع أمراض السرطان المنتشرة ومن بينها “سرطان الرئة الناجم عن استنشاق الهواء الملوث بالمواد المشعة، وسرطان الكِلية والأمعاء الذي يحصل عبر دخول اليورانيوم إلى داخل الجسم عن طريق تناول بعض الأطعمة والخضار المزروعة في أماكن ملوثة، إضافة إلى أنواع أخرى ناتجة عن ابخرة الاستخراجات النفطية، كبخار الزئبق والمغنيسيوم، وابخرة المعادن والكبريت القاتلة، والأتربة الملوثة المستخرجة من الآبار”.
وينبه إلى أن سكان المنازل القريبة من الحقول النفطية “هم أكثر الناس عرضة للإصابة بمخاطر تلك الغازات”.
وفي 21 آب 2023 اتهم ديوان الرقابة المالية في تقرير له، شركات أجنبية مسؤولة عن استخراج النفط بتسببها بزيادة أعداد الإصابات السرطانية في البصرة ومدن أخرى، نتيجة ارتفاع تراكيز الهايدروكاربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد بحقول البصرة بشكل يتجاوز الحدود المسموحة.
وجاء في التقرير أن “العمليات الاستخراجية النفطية تطرح في الهواء ملوِّثات بيئية ناجمة عن حرق الغاز المصاحب للوقود الأحفوري المستخرج، إذ أحرقت شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول في المحافظة ما نسبته (54،52،53) بالمائة من الغاز المصاحب في السنوات (2019، 2020، 2021).
وينبه إلى أن ذلك أدى إلى إطلاق مركبات كيمياوية خطرة في الهواء وبتراكيز عالية، تسببت بإصابات سرطانية بين السكان ولاسيما في مركز المحافظة التي تتصدر أعداد الإصابات بمعدل 76.3 شخص لكل 100 ألف في العام 2020.
ويكشف التقرير عن أن المناطق الأعلى تلوثًا هي الزبير ثم القرنة، وفقًا لدراسة بحثية منشورة في عام 2021 أجرتها جامعة ميسان عن “تأثير ملوِّثات الهواء بالهايدروكاربونات ماعدا الميثان، على زيادة أعداد المصابين بالأمراض السرطانية، لاسيما سرطان الرئة والمثانة”.
ويبين التقرير أن “ارتفاع تراكيز الهايدروكاربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد بحقول نفط البصرة بشكل يتجاوز الحدود المسموح بها وفق المحدد الوطني البالغ (0.24 PPM لكل 3 ساعة)، إذ وصلت في حقل الرميلة الجنوبي إلى (2.058 PPM لكل 3 ساعات”.
ويشير التقرير الى عجز في عمليات قياس التلوث، يتمثل في توقُّف جميع محطات مراقبة نوعية الهواء وأجهزة قياس ملوِّثات الهواء الحقلية التابعة لمديرية بيئة البصرة والبالغة 17 محطة منذ العام 2019 و7 أجهزة أخرى منذ العام 2013 “ما أثر سلبًا في تشخيص الواقع البيئي وتحديد تراكيز الملوثات”.
ويوصي بإحالة ملف التلوث البيئي إلى رئاسة الوزراء لعدم التزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة بأحكام المادتين (9 و21) من قانون حماية وتحسين البيئة، والعمل على استثمار الغاز المصاحب ووقف حرقه للاستفادة من مردوده الاقتصادي وتقليل التلوث الناتج عنه إضافة إلى إلزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول وحسب بنود عقود الخدمة النفطية، بتجهيز جميع محطات الحقول بمشاعل وعازلات وقانصات حديثة وكفوءة، مع إلزام المشغِّل الأجنبي بتوفير المعالجات المقلِّلة للتلوث.
وأكد تقرير ديوان الرقابة وقوع العراق ضمن الدول العشر الأكثر تلوثاً للهواء، نتيجة لانبعاث الملوثات الغازية الناجمة عن عمل الحقول النفطية، وما ينتج عنها من آثار سلبية على صحة المجتمع، إذ سجلت تقارير مجلس السرطان العراقي ارتفاعًا مستمرًا بنسب الإصابات بالأمراض السرطانية سنويًا، إذ ارتفعت من 73.3 إصابة في سنة 2015 إلى 81.34 إصابة في سنة 2019 لكل مئة ألف نسمة.
إلى ذلك يشخص مدير بيئة البصرة كريم عبد رخيص، ما يسميها بـ “الفجوة الكبيرة بين بنود عقود شركة نفط البصرة وشركات التراخيص الأجنبية وبين ما يحدث على أرض الواقع”.
وبين رخيص أن “هنالك مايزيد عن 600 مشعل تحيط بالبصرة تمثل مصادر تلوث”.
وتظهر وثيقة صادرة في 16 كانون الأول 2018 عن دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة في وزارة النفط، مطالبتها لشركة نفط البصرة بالإيعاز إلى هيئة تشغيل حقل غرب القرنة/2 لاتخاذ ما يلزم لتخفيف الآثار الناتجة عن الانشطة النفطية في الحقل “واتباع الطرق الحديثة في كل مراحل انتاج النفط الخام ومعالجة المخلفات الناتجة، والالتزام بخفض الانبعاثات الملوثة الناتجة عن الانشطة النفطية”.
وتثبت وثيقة صادرة عن وزارة البيئة في آب 2019 ارتباط الملوثات الغازية بارتفاع نسب السرطان في البصرة.
وتؤكد تاثير ملوثات (مجموع الهيدروكرونات THC، والهيدروكربونات عدا الميثان NMHC) على الرئتين والمجاري التنفسية، مبينة انها تكون سامة جدا، وقد تسبب أمراض سرطانية عند التعرض لها لفترات طويلة.
وفيما يتعلق بأكاسيد النتروجين NOx، فهي أيضا غازات خطرة جدًا على الصحة، بحسب ما ورد في الوثيقة، وتسبب التسمم عند استنشاقها وتهيج الاغشية المخاطية للمجاري التنفسية، والتهابات في الرئة، وتهيج في العين، وتؤدي الى حدوث الامطار الحامضية، بالإضافة إلى تأثيرها بشكل سلبي على طبقة الأوزون.
وفي آب 2021 تبنت المنظمة الألمانية لحقوق الانسان في محافظة البصرة، مقاضاة الشركات النفطية الأجنبية العاملة شمالي البصرة ومنها شركة (لوك أويل الروسية)، وقد رفعت 54 دعوى قضائية في هذا الصدد
ويكشف رئيس المنظمة سعد الجبوري أن “الملف سرعان ما أغلق في محكمة استئناف البصرة بسبب تهديدات مسلحة تعرض لها فريق المحاماة”.
وتتعرض منطقتا (المدينة والقرنة) لملوثات محصورة بثلاث شركات نفطية أجنبية، هي شركة (لوك أويل) الروسية وشركة (إكسون موبيل) الامريكية ، بينما تعمل شركة (بي بي) البريطانية في حقول الزبير والرميلة والشعيبة غربي البصرة .
وأظهرت وثيقة إنذار صادرة من كاتب العدل بمنطقة الجمعيات في البصرة مؤرخة بتاريخ 6 نيسان 2021، إلى شركة (لوك أويل الروسية) تقدم بها 6 أشخاص متضررين من السرطان، عبر المحامي صلاح عبد الحسن الامارة، مطالبا الشركة بدفع مبلغ تعويضي لكل شخص من هؤلاء مقداره مليار و500 مليون دينار عراقي.
وحمل الإنذار الموجه للشركة، مسؤوليتها عن إصابة عدد من سكنة البصرة بالأمراض السرطانية ووفاة بعضهم جراء التلوث البيئي نتيجة احتراق النفط بسبب العمليات الاستكشافية وحفر للآبار في حقل غرب القرنة/1 وغرب القربة/2 بدون اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة، وهو ما يتعارض مع قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009.
وعجزت جميع تلك الجهود الرسمية والحقوقية فضلًا عن مخاطبات عديدة لنواب في البرلمان عن تحقيق تحرك حكومي فاعل لإنهاء أو تخفيف مصادر التلوث ووقف الخروقات الحاصلة للقوانين البيئية والصحية وللعقود الموقعة مع الشركات النفطية، كما لم يحصل تحرك جدي لمساعدة ضحايا الأمراض السرطانية، حتى بات خطر الموت بالسرطان يلاحق كل البصريين ويثير رعبهم بنحو دائم، وفقًا لأطباء وناشطين حملوا الحكومة مسؤولية المألات الخطيرة لإهمال هذا الملف.
ويرى عضو نقابة الأطباء عامر البياتي أن زيادة عدد المصابين بالسرطان في المناطق النفطية في محافظات البصرة وغيرها بأنها “خطيرة، وتتطلب حلولًا عاجلة”.
وقال البياتي إن “النقابة تتلقى شكاوى ومناشدات من الأهالي، وتعمل لإيصالها إلى الجهات المسؤولة”.
وانتقد “عدم وضع حلول للمناطق التي زادت الإصابات فيها، واستمرار الحراك الحكومي دون المستوى المطلوب.
وأضاف عضو نقابة الأطباء أن “الانبعاثات النفطية لا تزال تغطي عددًا من مناطق البصرة التي تتصدر المناطق في أمراض السرطان المسجلة، ومن الضروري أن تشكل الحكومة خلية طوارئ لمتابعة الملف ووضع حلول عاجلة”.
بدوره انتقد الناشط البيئي فراس الفلاحي “عدم الجدية في معالجة ملف التلوث البيئي التي يسبّب أمراضًا مختلفة وخطيرة في مناطق عدة”.
وقال الفلاحي إننا “لا نسمع من الأجهزة المسؤولة إلا تحذيرات، وإعلان تشكيل فرق ولجان متابعة، لكنها لا تقدم حلولًا واقعية تتناسب مع حجم المخاطر الناجمة عن التلوث البيئي”.
وتابع “من الضروري وضع خطط مناسبة لإنقاذ مناطق معينة من الانبعاثات النفطية الناتجة عن محطات الكهرباء ومصانع النفط، والتي بلغت مستويات خطيرة قرب مناطق مكتظة بالسكان”.
وشدد على “ضرورة تضمين الموازنات المالية خططًا لمعالجة التلوث وتداعياته في المحافظات”، محمّلًا الحكومة مسؤولية ما ينتج عن الملوثات من أمراض خطيرة.
وسبق أن سلطت “قناة الرافدين” الفضائية الضوء على تصاعد معدلات الإصابات السرطانية في مناطق محافظتي البصرة والمثنى، والعجز المزمن عن مساعدة الضحايا بتوفير المستلزمات العلاجية والأدوية الأساسية لهم في تقرير سابق حمل عنوان (السرطان والإهمال الحكومي يفتكان بالعراقيين مع الارتفاع الباهظ لتكاليف العلاج) والمنشور في موقعها الإلكتروني بتاريخ 17 آب 2024 والذي استعرض جانبًا من معاناة المرضى ورحلتهم المريرة لتلقي العلاج.