الطائر العراقي الأخضر يحلق بجناح مكسور
المحسوبية والترهل الوظيفي وتولي غير المختصين مسؤولية إدارة الخطوط الجوية العراقية يغرق الشركة بمشاكل معقدة يصعب حلها في ظل استمرار الحظر الأوروبي على الشركة منذ نحو عقد من الزمن.
بغداد – الرافدين
انتقد مسافرون ومتخصصون بقطاع النقل الجوي والطيران الخدمات المقدمة على متن الخطوط الجوية العراقية في ظل ما تعانيه الشركة من فساد وإهمال جراء عقدين من صراع الأحزاب عليها كونها تمثل مصدرًا مهما للمال والنفوذ.
ويرى المتخصصون أن الخطوط الجوية العراقية سقطت في مستنقع الإهمال الحكومي المتواصل والإدارات الفاسدة، مما جعلها تتراجع كثيرًا في ظل سيطرة أشخاص من غير الاختصاص في النقل الجوي على مقاليد الأمور فيها، بل وتسجيل تدخلات غير مسؤولة من مسؤولين متنفذين.
وتداول عراقيون على نطاق واسع في الأيام الأخيرة مقطعًا مصورًا سجله اليوتيوبر العالمي جوش كاهيل، المعروف بتقييمه لرحلات الدرجة الأولى حول العالم، تضمن انتقادات لاذعة للخطوط الجوية العراقية بعد تجربته معها.
واشترى كاهيل، تذكرة من الدرجة الأولى بقيمة 2400 دولار أمريكي، واصفًا تجربته بأنها “مخيبة للآمال” وأن الشركة لا تقدم أي خدمات تليق بالمبلغ المدفوع.
وأكد كاهيل في مقطع الفيديو الذي نشره على قناته في يوتيوب التي يتابعها نحو مليون ونصف المليون متابع، أن أي شركة تطلب مبالغ عالية من الزبائن يجب أن تقدم خدمات متناسبة مع تلك الأسعار”.
وتابع “لكن الأمر مختلف على متن الخطوط الجوية العراقية التي ليس لديها شيء حرفيًا”.
وأوضح في مقطعه الذي حظي بمئات الآلاف من المشاهدات أن “الرحلة خلت من سماعات أذن، قائمة طعام، وسائد، وحتى خدمة الإنترنت”.
كما انتقد كاهيل سوء خدمة الزبائن من قبل طاقم الطائرة، مشيرًا إلى كسله في التعامل مع المسافرين.
وأضاف أن الوجبات المقدمة كانت من مستوى الدرجة الاقتصادية، على الرغم من أنه دفع أموالًا مقابل التمتع بخدمات الدرجة الأولى.
واستقل جوش كاهيل في رحلته طائرة “دريم لاينر” الجديدة التابعة لشركة الخطوط الجوية العراقية، حيث أشاد بتفاصيل الطائرة الجديدة، لكنه أكد أن الخدمة السيئة أفسدت تجربته على متن الطائرة الحديثة.

وبعيدًا عن تاريخها الممتد إلى نحو ثمانية عقود وعلى رغم من كونها أحد أقدم خطوط الطيران في المنطقة، فإن إغراق الشركة بموظفين لا حاجة لها بهم، جعلها تعيش أسوأ ظاهرة بطالة مقننة في تاريخها، إذ وصل عددهم إلى ما يزيد على 5500 منتسب، وهو ما يضع عراقيل أمام محاولات علاج المشكلات أو النهوض بها.
ويقدر متخصصون حاجة شركة الخطوط الجوية العراقية إلى ألفي موظف فقط في أعلى تقدير، لكن الإدارات فيها تدرك أن قرار تقليص عدد المنتسبين لا يمكن تحقيقه من دون قرار من الدولة، كونها لا تملك صلاحية إخراج الفائضين عن حاجتها، ومعظمهم عينتهم الأحزاب النافذة والمحاصصة السياسية التي تشهدها البلاد، فمع كل وزير جديد لحقيبة النقل يرسل قائمة بموظفين جدد يجري تعيينهم من دون اختبارات مسبقة تحدد مدى صلاحيتهم للعمل في قطاع النقل الجوي.
وفي هذا السياق يؤكد مدير الخطوط الجوية العراقية السابق كفاح حسن جبار، أن “مشكلة الخطوط الجوية العراقية مرتبطة بالأزمة العامة في الإدارة والتعينات الكيفية التي تفرض على الشركة على رغم أنها مؤسسة ينبغي إدراك عملها النوعي الحساس المتعلق بالنقل الجوي الذي يحتاج لطاقم نوعي، يجري اختياره واختباره بدقة عالية، لكن الواقع لا يمت بصلة لمهمة الشركة وعملها بإخضاعها لتغيرات مستمرة، بل وإقصاء الإدارات الكفؤة فيها حين يعترضون على التجاوزات الفنية والإدارية”.
وبحسب جبار، فإن نظام المحاصصة الحزبية والسياسية فرض تعيينات بين الحين والآخر حتى غرقت الشركة في بحر من الموظفين يقدر بـ 5500 موظف فرضوا عليها من خارج حاجتها الفعلية الكاملة سواء في الإدارة والتسويق، في حين أن حاجتها الفعلية لا تزيد على نصف هذا العدد من المنتسبين النوعيين ومن الكفاءات المشهود لها في هذا المجال الحيوي مع إخضاعهم أولًا لاختبار كفاءة.
وقال، “أذكر مرة حين كنت أتولى إدارة الشركة في عام 2017 وردني كتاب من وزارة النقل بتعيين 1500 موظف جديد، لا أحتاج لهم مطلقًا ولم أطلب تعيينهم، ولا دراية لهم بعلوم النقل الجوي، لكن لم يكن لي حق الاعتراض لأنهم معينون من جهة عليا”، على حد قوله.
ويرى مدير الخطوط الجوية العراقية السابق أن الشركة تواجه منافسة شديدة من شركات طيران نظيرة تمكنت من توظيف الخبرات الدولية والموازنات المفتوحة، بل وتطير لأماكن عمل الخطوط العراقية داخلياً وخارجياً، والإدارات فيها ذات صلاحية ومرونة عالية تفتقدها خطوطنا بسبب كونها تخضع لمعايير حكومية روتينية لا تتناسب ومهمتها السريعة التي تحتاج القرار والصلاحية الكاملة في البيع والشراء والتسويق.
لكن ومع هذه النظرة السلبية يرى كفاح حسن جبار أن الحل يبدأ بإلغاء مفهوم “الناقل الوطني” فشركات الطيران في العالم خرجت من عباءة القطاع العام الحكومي، بسبب المنافسة المستمرة وتغيرت صيغ العمل التي استدعت السرعة والفورية في حل المشكلات، بوجود إدارات كفؤة وقادرة على اتخاذ القرارات وبصلاحيات كاملة، وتفكر دومًا في المنافسين وسبل تطوير عملها يوميًا، وتراعي سوق المنافسة والتسويق والعمل التجاري ونظام الترويج والإنفاق المستمر على تواصل النجاح، وتخطي مفاهيم باتت بالية في التعيينات لأشخاص غير مؤهلين ولا يملكون خبرات في علوم الطيران، والتدريب المستمر للطواقم، وتحسين مستوى التعامل مع الركاب.
وقال جبار، إن خريطة التطوير السابقة تتطلب إنفاقًا مستمرًا لا تقدر عليه الشركات الحكومية الخاضعة للروتين الطويل الموروث من القرن الماضي، إذ لا تزال تتعامل بالورق وتخلفت عن “الأتمتة” التي سرعت العمل في العالم كله وجعلته مواكباً لإيقاع العصر، فقطاع النقل يجب ألا يخضع لمعايير المحاصصة السياسية والحزبية كما هو مفروض حاليًا، بل يجب أن يخضع لكفاءة مجلس إدارة كفء ومقتدر علميًا وفنيًا يملك الصلاحية والقرار السريع لمصلحة إنجاح عمل الخطوط، ويحقق لها الأرباح في تقليص الطاقم وفق حاجته الفعلية، ويعمل بمرونة عالية وثقة كي يتمكن من النجاح بعيداً من الروتين المتبع تحت الإدارة الحكومية الرسمية.
وتكتفي الحكومات المتعاقبة بتغيير شكلي للموظفين أو إدارات الشركة بعد أي فضيحة أو سخط شعبي، في خطوة لا تغير من واقع الشركة ولا خدماتها شيئًا.
ومع هذه الأوضاع الصعبة باتت اعتراضات المؤسسات الدولية المتخصصة على عدد المنتسبين والتوظيف الكمي تزيد الطين بلة، وفي نهاية المطاف قادت هذه الظروف مع تجاوزات أخرى الخطوط الجوية العراقية إلى دخول دائرة الحظر أميركيًا وأوروبيًا منذ عام 2015.
ويؤكد الخبير في مجال الطيران، فراس الجواري، أن “الحظر حصل نتيجة عدم تطبيق شركة الخطوط العراقية، إجراءات سلامة تفرضها الوكالة الأوروبية، على كل الشركات التي تحلق فوق أوروبا، ومستمر لقرابة 10 سنوات أي من 2015 لغاية اليوم”.
ويلفت الجواري إلى، أن “الوكالة الأوروبية تعقد خلال شهري أيار وكانون الأول من كل عام، اجتماعًا لرؤية مدى تلبية شركات الطيران لشروط السلامة والمتطلبات الأساسية لرفع الحظر وأن آخر اجتماع توصل إلى أن الخطوط الجوية العراقية أو فلاي بغداد لم تلبيان المتطلبات الدولية لرفع الحظر”.
ويؤكد الجواري، أن “الحظر الأوروبي على العراق أخذ وقتًا كثيرًا بمعالجته على الرغم من أنه يعد من أبجديات السلامة والتي من المفترض أن تشترطها السلطات المحلية على شركات العاملة لديها”.
ويوضح، أن “مدير الخطوط الجوية العراقية عقد مؤخرًا اجتماعًا مع منظمة الاياتا (الاتحاد الدولي للنقل الجوي)”.
ولفت إلى أن” هذه اللجنة قدمت للعراق عامي 2016، و2019، والمشاكل التي طرحت خلال الاجتماع الأخير مكررة ومعادة”.
وتابع “لو تمكنا من تنفيذ وتطبيق هذه التوصيات لما بقى الحظر لغاية الآن، وهو ما أدى لإجراء تعاقد جديد مع الاياتا، على أساس وضع خارطة طريق أمدها 15 شهرًا لخروج الخطوط الجوية من أزمتها الحقيقية”.
وأكد الخبير في مجال الطيران “وجود تخوف من أن تكون هذه التوصيات حبر على الورق ومحفوظة في أدراج المكاتب”.
وتوقع “عدم رفع الحظر خلال الاجتماع المقبل، والذي سيعقد في شهر كانون الأول من العام الحالي لأن الشركة تحتاج إلى وقت أكثر ودراسة وتوصيات تطبق على أرض الواقع”.
بدوره قال متخصص في الخطوط الجوية العراقية، إن “الحظر الأوروبي المفروض على الخطوط الجوية العراقية منذ عام 2015 كسر ظهر المؤسسة، بعد أن رصد المراقبون الدوليون المعنيون بجودة وكفاءة الخدمة أكثر من 280 ملاحظة فنية سلبية ترتبط بأداء وأسلوب عمل الشركة ولا تتوافق مع المعايير الدولية شديدة الحساسية، التي تحتاج إليها الشركات المماثلة”.
وتابع المتخصص الذي رفض الكشف عن اسمه أن “المعنيين والمسؤولين عن الشركة لم يبادروا إلى تجاوز هذا الواقع السيء وتحسينه بعد أن ورثت الشركة تركة من المشاكل الفنية والإدارية”.

وخصصت الحكومات المتعاقبة موازنات مالية ضخمة للخطوط الجوية العراقية، إلا أنها لم تسهم في تطور وضع الناقل الوطني العراقي، حيث تظهر أرقام رسمية تخصيص مبالغ تراوحت بين 161 إلى 550 مليار دينار عراقي بين السنوات 2019 و2024، للتطوير.
وعلى الرغم من هذه الأموال الضخمة تعاني نصف طائرات الخطوط العراقية البالغة 52 طائرة من أجيال مختلفة أعطالًا أخرجتها من الخدمة.
ويؤكد أحد العاملين في الخطوط الجوية العراقية أن الأعطال أصابت نصف طائرات الشركة البالغة 52 طائرة من أجيال مختلفة، أي إن 25 طائرة خرجت من الخدمة بسبب نقص قطع الغيار الاحتياطية الضرورية خصوصًا المحركات.
وأرجع الموظف الذي طلب هو الآخر عدم ذكر اسمه ومنصبه غياب قطع غيار الطائرات المعطلة إلى عدم توفر الأموال لشراء المحركات.
وضرب مثلًا بمشكلة حدثت مؤخرًا مع شركة تركية تعاقدت معها الخطوط العراقية لتوفير محركات لتشغيل الطائرات المتوقفة لكن لم يجرِ الدفع فامتنعت عن توفير المحركات.
وسبق أن أعلنت هيئة النزاهة عن مؤشرات خطيرة حول أعطال الطائرات وعددها وتكاليف إصلاحها، ضمنتها في تقرير لها عن الخطوط الجوية العراقية فضلًا عن أرقام صادمة من الديون في ذمتها.
وبينت هيئة النزاهة في تقريرها قيام الشركة بإبرام 3 عقود تشغيل مشترك ليست ذات جدوى مع شركاتٍ أجنبية ومحلية، مبينة أنه تم منح الشركة الأولى حق بيع السلع والبضائع على متن طائراتها، فيما تم التعاقد مع الشركة الثانية لتقديم خدمات الشحن الجوي لتشغيل رحلات القطاعين العام والخاص بنسبة أرباح 74 بالمائة لمصلحة الشركة ناهزت ملياري دينار، ونسبة 26 بالمائة للخطوط الجوية بلغت ما يقارب 750 مليون دينار.
وقالت هيئة النزاهة إن العقود الموقعة بين شركة الخطوط الجوية العراقية وشركة منزيز البريطانية يشوبها فساد كبير.
وأوضحت الهيئة أن العقد يشمل تقديم الخدمات الأرضية لمطاري بغداد والموصل، كبد شركة الخطوط الجوية خسائر بلغت أكثر من 36 مليون دولار، فضلًا عن منح الامتياز الحصري للشركة الإنجليزية لمدة 10 سنوات ما يضاعف الخسائر ومما أدى إلى حرمان الخطوط من فرصة تصحيح التعاقد أو إبرام عقد مع شركات أخرى.
وكشفت الهيئة أن حجم الديون المستحقة على شركة الخطوط بلغت 356 مليار دينار فيما بلغت الفوائد والقروض 67 مليار دينار.