الفساد والتحايل على القانون أطواق نجاة للمتاجرين بالمخدرات
مصادر حقوقية وأمنية تكشف عن تزايد نشاط ما بات يعرف بالشبكات المتخصصة في التلاعب بالأدلة وتعطيل الإجراءات داخل وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية وداخل مفاصل القضاء تمهيدًا للدفع بما يفضي إلى إفلات المتاجرين بالمخدرات من العقاب والملاحقة القانونية.
بغداد – الرافدين
تتسع رقعة انتشار المواد المخدرة وتعاطيها في العراق وسط تكرار حالات إفلات كبار تجّارها من العقاب من خلال التلاعب بمجريات التحقيق الأمني مع تنوع الكيفية التي تجري فيها عمليات إطلاق سراحهم عند إلقاء القبض عليهم، مقابل صفقات تجري بين مهربي المخدرات من جهة والجهات الأمنية والقضائية من جهة أخرى.
وتشهد تجارة المخدرات وتعاطيها في العراق تصاعدًا كبيرًا ومستمرًا، وتشير مصادر أمنية إلى تجارة بمئات الأطنان بوجود ملايين المتعاطين في البلاد جلهم من الشباب، وعشرات الآلاف من المتاجرين.
وينجح العديد من التجار في الإفلات من الملاحقة الأمنية، من خلال التلاعب بالأوراق التحقيقية وتغييرها بما يضمن الإفراج عنهم بدءًا من مراكز التوقيف، وانتهاءًا في محكمة التمييز وفقًا لمصادر حقوقية.
وتؤكد محامية من محاكم استئناف بغداد الرصافة أن “ضباط التحقيق يتواصلون مع عائلات المتهمين، ويعرضون عليهم المساعدة للإفراج عنهم من خلال تأخير المتهم ثلاثة أيام في مركز التوقيف قبل سحب عينة الدم أو الإدرار حتى تختفي المادة المخدرة من جسده، ومن ثم تكتب إفادته بتاريخ لاحق دون احتساب وقت اعتقاله الحقيقي، وإذا رفضت عائلة المتعاطي دفع المبلغ المالي المطلوب يتم عرض المتهم على قاضي الخفر بشكل مباشر”.
وبشأن تجار المخدرات الكبار تشير المحامية التي رفضت الكشف عن اسمها، إلى أن “بعض ضباط التحقيق يتفقون مع عائلة التاجر أو المحامي الخاص به على اتلاف كمية المخدرات داخل مركز التوقيف أو استبدالها بمادة غير مخدرة، قد تكون مادة الشب أو الملح أو أي مادة أخرى مشابهة، وبعد إرسالها إلى مختبرات الطب العدلي يتبين أن المادة غير مخدرة وبالتالي يتم الإفراج عن المتهم حال عرضه على القاضي لعدم كفاية الأدلة”.
وتنبه أيضًا إلى ثغرة قانونية يستغلها تجار المخدرات ومن يتعاون معهم من ضباط ومنتسبي الاجهزة الأمنية للإفلات من العقاب، تتعلق “بالمبارز الجرمية أثناء عمليات الاعتقال، إذ لا يتم ذكر نوع المادة المخدرة اثناء كتابة التقرير الأولي، بل تكفتي المفارز الامنية بكتابة عبارة (مادة غير معلومة او مجهولة) في حقل المبرز الجرمي”.
وتعد هذه الفقرة هي الثغرة الأبرز في مساعدة تجار المخدرات على الإفلات من العقاب، لأن تلك المواد (غير المعلومة على الورق) تستبدل بمواد غير مخدرة قبل وصولها إلى مراكز التوقيف، وتصبح دليلًا لا يعتد به.
وتتابع “بعدها يجري الطعن بقرارات إدانة تجار المخدرات في محكمة الاستئناف ثم أخيرًا التمييز بعد تنسيق سري يجري بين بعض المحامين مع بعض القضاة هدفه تخفيف الأحكام أو حتى الإفراج عن موكليهم من تجار مقابل مبالغ مالية كبيرة تدفع للمشاركين في الصفقة”.
ويؤكد مصدر أمني تكرار حالات استبدال المواد المخدرة بالشب والملح داخل مراكز التوقيف التابعة لمكاتب مكافحة المخدرات أو الجريمة المنظمة مبينًا أن تلك الحالات ليست منفردة بل كثيرة، وهي تجري بالتنسيق بين ضابط الدعوى وأهل المتهم.
ويبين المصدر الأمني الذي فضل عدم ذكر أسمه لأنه غير مخول بالتصريح أن الكلفة المادية لتمرير صفقة الاستبدال أو تقليل كمية المواد المضبوطة أو تغيير عينات الدم والادرار، تكون حسب كمية المادة المخدرة المضبوطة ومكانة التاجر أو المتعاطي.
ويذكر على سبيل المثال إلقاء القبض على تاجر مخدرات في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار سنة 2017 وكان بحوزته أكثر من 100 الف حبة مخدرة، ليحكم على إثر ذلك بالحبس 15 عامًا، قبل أن يخفف الحكم إلى خمس سنوات بعد تدخلات وصفها بالمؤثرة من جهات نافذة، كما أن عائلته دفعت مبلغ 100 ألف دولار كرشوة في مرحل التحقيق الأولى.
ويضيف المصدر “بعد استكماله لخمس سنوات من محكوميته خرج من السجن، وعاد مرة أخرى لمزاولة تجارة المخدرات، وألقي القبض عليه مرة أخرى، وحوكم بـ15 سنة، ثم انتحر داخل السجن لفشل عائلته في تخفيف محكوميته للمرة الثانية”.
ويكشف المصدر عن محاولات لعرقلة عمل الأجهزة الأمنية المختصة يمارسها متنفذون في مكاتب مكافحة المخدرات أو الجريمة المنظمة تتمثل “بعدم التعاون في تزويدهم بالمعلومات عن الأهداف الأمنية أو أحيانًا التواصل مع المتهم وتحذيره قبل المداهمة للقبض عليه”.
بدورهم يمارس بعض المحامون أدورًا محورية في صفقات الإفراج عن المتاجرين بالمخدرات، خارج نطاق مهامهم المفترضة، بعد دخولهم في تعاملات مشبوهة مع عائلات مهربي المخدرات بما يسمح بإطلاق سراحهم أو تخفيف الأحكام التي تصدر بحقهم لقاء مبالغ مالية كبيرة قد تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات.
ووفقًا لمصادر قضائية فإن القضاء الحالي أصدر خلال العاميين الماضيين 2022 و 2023 مذكرات اعتقال وتوقيف بحق أكثر من 50 محاميًا ومحامية، بعد كشف تعاونهم في عمليات تحايل أو دفع رشاوى للإفراج عن المتهمين بالمخدرات.
وأصدر قاضي محكمة جنح الرصافة في العام 2023 قرارًا بمنع احدى المحاميات من دخول المحكمة لشكوك بشأن تعاونها مع تجار ومسؤولين حكوميين للتوسط في تخفيف الأحكام ضد بعض تجار المخدرات.
كما اعتقلت في ذات العام إحدى المحاميات في محكمة التحقيق المركزية في بغداد، بعد الادعاء بأنها زوجة أحد القضاة واتهامها بالحصول على رشى مالية من ذوي المعتقلين بقضايا المخدرات.
وفي هذا الصدد يبين المحامي أحمد علي (اسم مستعار خشية الملاحقة والإجراءات الانتقامية) أن “الاتفاق ما بين الضابط والمحامي أو عائلة المتهم يتم منذ اللحظة الأولى لاعتقال تاجر المخدرات بعدما يجري التواصل مع عائلته أو المحامي الخاص به من قبل بعض المنتسبين أو ضابط التحقيق ليخبره باعتقاله على أن يقوم ضابط التحقيق باستبدال المادة المخدرة بمادتي الشب أو الملح، إذا كانت المادة المخدرة كريستال، والحناء إذا كانت المادة المخدرة حشيشة”.
ويضيف أحمد علي أن “المتهم يعرض بعد ذلك على قاضي التحقيق وينكر أن المواد التي ضبطت بحوزته كانت مواد مخدرة وبالتالي يأمر القاضي بإيقافه وإرسال المادة المضبوطة إلى مختبرات الطب العدلي لغرض فحصها، وقبل أن تصل المادة المخدرة الى الطب العدلي، يتم استبدالها بمواد غير مخدرة”.
وبشأن المتعاطين يقول المحامي إن ” استبدال عينات فحص دم أو إدرار المتعاطين في الطب العدلي يجري بالاتفاق ما بين وسطاء عن المتهمين مع أطباء في الطب العدلي، ليتم الحصول على تقارير طبية تؤكد عدم تعاطيه، ومن لا يدفع مبالغ مالية لايحصل على مثل هذه التسهيلات والتواطؤ”.
ويكشف أن “قيمة الرشاوى التي تدفع لقاء الحصول على تلك التقارير، تتراوح ما بين 20 – 40 ألف دولار وحسب أهمية المتعاطي أو التاجر”.
وخلص بالقول إن ما يشبه شبكات “للإفلات من العقاب” تشكلت، تضم افرادًا في الجهات المعنية، قادرين على تغيير الوقائع من خلال اتلاف وتغيير الأدلة”.
بدوره يؤكد مدير عام دائرة الطب العدلي زيد عباس، حدوث عمليات استبدال لمادة الكريستال المخدرة بالشب والملح، موضحًا أن وزارة الصحة “اتخذت بالتعاون مع وزارة الداخلية مجموعة من الإجراءات الاحترازية للوقوف ضد عمليات الاستبدال”.
ويقر “وصلتنا العديد من المبرزات الجرمية وبالفعل اكتشفنا خلال الفحص بأنها مادة شب أو حنّاء، وما أثار استغرابنا أن تلك المبرزات تأتي على شكل رزم مختومة ومغلقة بإحكام”.
ويتابع مدير عام دائرة الطب العدلي “بدأنا نأخذ مسحة من داخل الكيس الذي وضع فيه الكريستال، فإذا أظهرت النتائج أن الكيس كانت موضوعة فيه مادة الكريستال وليس الشب، فذلك يعني أن المادة تم استبدالها اثناء نقلها من الجهة الضابطة إلى الطب العدلي”.
ويضيف “في العام 2023 تم ضبط منتسب أمني كان معتمدًا لنقل المواد المضبوطة ما بين الجهات الأمنية الضابطة والطب العدلي، اكتشفنا أنه يعمل على استبدال المادة المخدرة بالشب والملح”.
ويؤكد أن المنتسب ضبطت في عجلته ومنزله كميات كبيرة من المخدرات، وهو كان يتلاعب حتى بتقارير المتعاطين “بتحويلهم من متعاطين إلى غير متعاطين”.
ودفعت طبيعة الرزم المختومة التي أثارت شكوك مسؤولي الطب العدلي، في مطلع العام 2023 الى التوجيه بأخذ عينات من داخل كيس الضبطية، بدلًا من أخذ عينة الشب او الملح بعدما تم تغيير الآليات السابقة بالاتفاق مع مديرية مكافحة المخدرات، وذلك بوضع المخدرات في أكياس خاصة حال ضبطها، وإذا تم فتحها من قبل الضابط أو المنتسب يصعب غلقها مرة أخرى وفي حال التلاعب بها يتم إعادتها بشكل مباشر ورفضها.
ويجرم قانون المخدرات (68) المتاجرة بالمخدرات وصناعتها، والاستخراج والتحضير والحيازة والتقديم والعرض للبيع والتوزيع والشراء، كما يمنع المتاجرة بالمستحضرات الحاوية على مخدرات مهما كان نوعها.
كما نصت المادة الرابعة عشرة الفقرة (ب) على عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لكل من ارتكب بغير إجازة من السلطات المختصة فعلًا تضمن استيراد أو جلب بأية صورة من الصور المخدرات أو أنتجها أو صنعها بقصد الإتجار بها أو باعها أو سلمها للغير أو تنازل له عنها بأية صفة كانت ولو كان ذلك بغير مقابل، وحيازة المخدرات أو إحرازها أو شرائها أو تسليمها بأية صفة كانت بقصد الاتجار بها.
ويؤكد الخبير القانوني علي التميمي، أن “المتاجرة بالمخدرات من الجرائم التي لا يجوز إطلاق سراح المتهم فيها بكفالة، كونها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالإعدام، ووفق ذلك يجب إحالة المتهم موقوفًا إلى محكمة الجنايات المختصة”.
ويرى التميمي، أن الانتشار الكبير للمخدرات في العراق خلال السنوات الأخيرة وتحولها الى مشكلة كبرى تحمل مخاطر اجتماعية واقتصادية وتداعيات عميقة، يتطلب تحركًا متكاملًا لمواجهتها وتقديم المعالجات المختلفة بدءًا بالقانونية منها.
ويعتقد بأن علاج المشكلة أو الحد منها “يتطلب تشديد العقوبة بحق مقترفيها” وإعادة النظر في القوانين العقابية المتعلقة بها كقانون المخدرات رقم (68) لسنة 1965 لأن هذا التشريع لم يعد ينسجم مع تطور أساليب المتاجرين بالمخدرات والأنواع الجديدة المستخدمة، خاصة فيما يتعلق بإغواء الأحداث وتشجيعهم على تعاطي المخدرات وترويجها.
من جهتها تؤكد الأكاديمية والباحثة في الشأن الاجتماعي، ندى العابدي، أن السيطرة على تجارة المخدرات تحتاج الى قوانين صارمة وأن لا يتم التغاضي عن أي جريمة، كما تتطلب “تكاتفًا اجتماعيًا” وحلولا لمشاكل الشباب وعلى رأسها البطالة من خلال توفير فرص العمل.
وتابعت العابدي “يجب أن تهتم العائلة بأبنائها، وتنتبه لسلوكياتهم كون معظم المتعاطين يعانون من مشاكل نفسية واجتماعية واقتصادية ويحاولون الهروب منها عبر تعاطي هذه السموم”.
وصادرت السلطات الحكومية العام الماضي كميات قياسية من حبوب الكبتاغون قد تصل قيمتها إلى 144 مليون دولار، وفق تقرير نشرته الأمم المتحدة في شهر تموز الماضي حذرت فيه من تحول البلاد إلى محور مهم لتهريب المخدرات.
ووفق التقرير الأممي فقد صادرت السلطات الحكومية عام 2023 “رقمًا قياسيًا بلغ 24 مليون قرص كبتاغون”، يفوق وزنها 4.1 طن، وتقدر قيمتها بما بين 84 مليون و144 مليون دولار، بحسب سعر الجملة.
وأشار التقرير إلى أن مضبوطات الكبتاغون زادت بنحو ثلاث أضعاف بين عامي 2022 و2023، لافتًا إلى أن مضبوطات العام الماضي أعلى بـ 34 مرة من سواها في عام 2019.
وحذر تقرير الأمم المتحدة من أن “العراق معرض لأن يصبح محورًا متزايد الأهمية بالنسبة إلى منظومة تهريب المخدرات عبر الشرق الأوسط والأدنى، حيث يقع في نقطة تقاطع منظمة عالمية معقدة لتهريب المخدرات”.
وغالبًا ما تعلن بغداد ضبط كميات كبيرة من المواد المخدرة أبرزها الكبتاغون الذي يُهرّب بشكل أساس من سوريا التي باتت المصدر الرئيس لتصنيع تلك الحبوب المخدرة فضلا عن مواد مخدرة أخرى مصدرها من إيران إضافة إلى ما بات يصنع محليا بعد تحول العراق إلى مصدر لإنتاج المخدرات بعد ان كانت أراضيه ممرا للعبور فقط.