البنك المركزي يفشل مجددًا في رفع الحظر الأمريكي عن مصارف متهمة بتهريب العملة
البنك الفيدرالي الأمريكي يفرض شروطًا قاسية جديدة على النظام المصرفي العراقي تتعلق بالامتثال بضوابطه الخاصة بالحوالات المالية بعد أن ألزم البنك المركزي العراقي بالتعاقد مع شركات تدقيق للحد من تهريب الدولار إلى إيران.
بغداد – الرافدين
أجمع خبراء اقتصاديون على فشل زيارة محافظ البنك المركزي علي العلاق إلى نيويورك بعد عودته منها خالي الوفاض وعجزه عن رفع العقوبات الأمريكية عن عدد من المصارف المتهمة بتهريب الدولار خلال مناقشات مع البنك الفيدرالي الأمريكي.
وقالوا إن برنامج الزيارة تضمن عمليات تدقيق وملاحقة لشبهات التهريب لنشاطات المصارف المعاقبة بالعودة إلى ثلاث سنوات سابقة فضلًا عن مناقشة تحايل هذه المصارف على ضوابط الامتثال الدولية إلى جانب مناقشة جدوى استمرار منصة التحويلات الخارجية للدولار.
وجاءت الزيارة الأخيرة لمحافظ البنك المركزي علي العلاق عقب زيارة مماثلة منتصف شهر تموز الماضي لم يعلن عنها رسميًا وفقًا لمصادر مطلعة وزيارة أخرى برفقة رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني دون أن تحقق جميع تلك الزيارات نتائج ملموسة في رفع الحظر عن المصارف المعاقبة.
وأعلن البنك المركزي في بيان نتائج زيارة الوفد الذي ترأسه العلاق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استمرت للفترة من 26 إلى 29 آب بعدما تضمنت اجتماعات مكثفة في نيويورك، شملت مباحثات مع وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الاحتياطي الفيدرالي، بالإضافة إلى لقاءات مع مجموعة من شركات التحويلات المالية وأخرى متخصصة بعمليات التدقيق فضلًا عن مصارف أمريكية.
وأشار بيان البنك المركزي إلى إجراء لقاء بين مسؤوليه مع شركائه الدوليين نهاية هذا العام بشأن التحول في إنهاء العمل بالمنصة الإلكترونية للتحويلات الخارجية واستبدالها بالعلاقات المصرفية المباشرة بين المصارف العراقية وشبكة المصارف المراسلة الدولية.
وعلق الخبير الاقتصادي نبيل جبار العلي على مخرجات الزيارة بالقول إن “بيان البنك المركزي استعرض الإيجابيات المتحققة من الزيارة لاسيما قضية إيقاف المنصة نهاية العام الحالي والشروع ببدء عملية التحويل الطبيعية التي تجري بين المصارف العراقية الخاصة والمصارف الأجنبية المراسلة بعيدًا عن المنصة”.
وأشار العلي إلى أن البنك المركزي تطرق للأمور الإيجابية فيما يخص المصارف غير المعاقبة في بيانه المتعلق بالزيارة، دون التطرق للمصارف المعاقبة التي لا جديد بشأن عودتها إلى العمل.
بدوره قال الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي إن “البنك المركزي يعلم يقينًا أنه لا رفع للعقوبات قبل تقديم ضمانات رسمية كاملة بانضباط المصارف المعاقبة وعدم استغلالها للدولار بطريقة ملتوية، وهذا ما لايستطيع المركزي ضمانه للفيدرالي وحينها لن تفيده تقارير التدقيق الدولية التي لديه”.
وأضاف الهاشمي أن “العديد من المصارف تعتمد على تجارة الدولار وتهريبه والتلاعب بأسعار صرفه، وهذا ما لايمكن للمركزي العراقي منعه، بسبب عائدية تلك المصارف وملكيتها لأطراف ذات سطوة وقوة وتأثير سياسي وعسكري واقتصادي”.
وبين أن “الضعف في قدرات المركزي العراقي سيجعل من الفيدرالي الأمريكي هو وحده القادر على التعامل مع تلك (المصارف المشاكسة) وتحييدها ومنعها من خلال معاقبتها و الضغط لإغلاقها او دمجها”.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن ” المركزي العراقي في هذا الوضع سيكتفي بدور الوسيط بين الفيدرالي والمصارف في العراق، وهذا بالتأكيد هو أضعف وأسوأ دور يمكن ان يقوم به أي بنك من البنوك المركزية حول العالم”.
ولفت إلى أن “ما تسرب من أجندة الاجتماع يفيد بتكليف شركة استشارية جديدة لتقييم النظام المصرفي العراقي وإعداد تقرير يغربل ويصنف المصارف حسب موثوقيتها ورصانتها وخدامتها المصرفية بحيث تكون النتائج ملزمة للمركزي العراقي في ظل الرغبة في زيادة الاعتماد على المصارف الرصينة والقادرة على إتمام الحوالات العراقية بطريقة تقلل كثيرًا من تسرب الدولار وتهريبه”.
ومنذ مطلع العام الماضي، دخلت واشنطن على خط أزمة تهريب الدولار لخارج العراق، وفرضت شروطًا على البنك المركزي، أبرزها خضوعه لنظام سويفت العالمي، وتقليل مزاد العملة، حيث تراجعت مبيعاته من 300 مليون دولار يوميًا إلى نحو 30 مليون دولار فقط في بداية الأزمة، قبل أن تعاود الارتفاع مؤخرًا.
وجرى فرض عقوبات على نحو 28 مصرفًا، ومنعها من التعامل بالدولار وحجب دخولها لمزاد العملة، بسبب تورطها بتهريب الدولار.
وفرض البنك المركزي العراقي تحت وطأة الضغوط من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي سلسلة عقوبات على مصارف وشركات خاصة كان آخرها حظر 197 شركة من الدخول إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
ووجّه البنك المركزي في 2 حزيران 2024 كتابًا بالعدد (269/8/9) حمل توقيع نائب محافظ البنك، عمار حمد خلف، إلى المصارف المجازة كافة، يبلغها بقرار إيقاف دخول الشركات إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
وعلى الرغم من حظر العديد من المصارف والشركات إلا أن البنك المركزي العراقي متهم بمنح مصارف خاصة تمتلكها الميليشيات والأحزاب الولائية تسهيلات للحصول على العملة الصعبة عبر مزاد العملة بطرق احتيالية تتجاوز العقوبات الأمريكية ومساعي واشنطن في تجفيف موارد إيران من العملة الصعبة.
ويعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي همام الشماع، أن “البنك المركزي لم ينجح في ضبط تهريب الدولار، بل أسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في هذا التهريب”.
وأشار الشماع، إلى أن “طرح نحو 270 مليون دولار يوميًا في مزاد العملة، أمر خطير، فهو رقم كبير خاصة أن مصير هذه المبالغ مجهول، مع أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أكد سابقًا أن 50 مليون دولار تكفي لسد حاجة السوق”.
ولفت إلى أن “هذه الحوالات إذا كانت تذهب للتجارة والاستيراد، فأين الحصيلة الكمركية وهل تتطابق هذه الأرقام مع المواد التي تدخل إلى العراق”.
وخلص الباحث في الشأن الاقتصادي بالقول إن “موضوع الدولار غامض وإجراءات البنك المركزي صعبت من الأمر ولم تسهل، خاصة مع تعدد هذه الإجراءات والتغيير المستمر فيها”.
ويصنف العراق في قائمة الدول المستوردة لأغلب منتجاتها، في اعتماد كبير على الدولار الذي يُعد عملة ثانية في البلاد، ما يعني أن أي تغييرات في سعر الصرف، تنعكس بشكل مباشر على السوق والحركة التجارية.
وبسبب الاعتماد الكبير على استيراد البضائع تحول البلد على مدار عقدين إلى معبر لعمليات تهريب كبيرة “للدولار” تحت غطاء الاستيراد الذي بات بحسب مراقبين “ثقبًا أسودًا” لاستنزاف الأموال الصعبة وتحويلها إلى دول مثل لبنان وإيران عن طريق “مزاد بيع العملة”، في خطوة منظمة تهدف إلى كسر الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية على إيران ودعم حزب الله في لبنان.
وتعرف نافذة بيع العملة عبر مزاد الدولار الذي يشرف عليه البنك المركزي “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية.
وتتمحور الفكرة الأساس لمزاد العملة المتعلق “ببيع” الدولار إلى المصارف وشركات تحويل الأموال لإدارة عملية استيراد البضائع وتتراوح “مبيعاته” من الدولار يوميًا بين 200 و 300 مليون دولار، لكن شبهات عدة تُطاول شخصيات سياسية نافذة وزعماء ميليشيات وشخصيات مرتبطة بمرجعيات دينية تقف خلف تلك المصارف لإدارة عمليات الفساد.
ويصف متخصصون بالاقتصاد مزاد العملة بأنه واجهة لاستنزاف الدولار وفرصة لبعض المصارف التي تمتلكها جهات نافذة، لتحقيق أرباح كبيرة من خلال ببيع كميات كبيرة من الدولارات يوميًا، تفوق حاجة الاقتصاد العراقي ولا يعود منها كبضائع إلا بنسب لا تتجاوز الـ 40 أو 50 بالمائة في أفضل الأحوال والباقي يهرب إلى دول الجوار لاسيما إيران.
وسبق أن زعمَ محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق إنه لا يملك بيانات حول حجم الدولارات المهربة من العراق إلى إيران أو أي بلد مجاور.
وقال العلاق في تصريحات لوكالة “رويترز” إن “العراق قطع شوطًا كبيرًا في تطبيق قيود على المعروض من الدولار الأمريكي تستهدف إيران لكنه يواجه معركة شاقة في ظل نظام مصرفي غير معتاد على الرقابة الصارمة وتمسك مهربي العملة بنشاطهم”.
وأضاف إنها “معركة فعلًا لأن المستفيدين من هذا الوضع والمتضررين (من الإجراءات الجديدة) سيحاولون بشتى الطرق مواصلة أنشطتهم غير الشرعية”.
وبدت تصريحات العلاق محاولة للتهرب من كشف جهات ولائية متنفذة داخل حكومة الإطار التنسيقي تعمل على تهريب العملة إلى إيران.
وكان رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني قد رفض في خطوة مماثلة لخطوة العلاق اتهام إيران في عملية تهريب الدولار من العراق.
ولم يذكر السوداني إيران في إجابته على سؤال لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية التي تصدر من لندن، “عما إذا كان تهريب الدولار من العراق باتجاه إيران”، واكتفى بالقول إن “تهريب العملات مستمر في كل دول العالم، والعراق حاله حال هذه الدول”.
وتابع “دول كثيرة في المنطقة تتعرَّض عملتها الرسمية لانهيار، لا أريد أن أدخلَ في الاسم، وبالتأكيد يحتاجون إلى الدولار، وهذا الأمر مستمر”.
وبين رئيس الحكومة الحالية أن “جزءًا من المتورطين هم بعض المصارف وشركات الصيرفة في الداخل ممن يحققون أرباحًا كبيرة من عمليات بيع الدولار الذي ينقل إلى دول الجوار ودول المنطقة”.
ويحافظ سعر صرف الدولار في العراق على ارتفاعه منذ أشهر على وقع عمليات التهريب المنظمة بعد أن وصل إلى نحو 150 ألف دينار مقابل كل 100 دولار في السوق الموازي بعد أشهر من استقراره عند عتبة 140 ألف دينار.
ومع تزايد السخط في الشارع العراقي على ارتفاع سعر الصرف وعجز الحكومة عن خفضه للسعر الرسمي (132 ألف دينار لكل 100 دولار) يحمل عراقيون حكومة محمد شياع السوداني مسؤولية ما وصلت إليه ظروفهم المعيشية من عجزهم عن تلبية متطلبات عائلاتهم بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، لعدم إيفاء الحكومة ببرنامجها الذي ألزمت نفسها به عند تشكيلها بعد أن تعهدت بإعادة التوازن للوضع الاقتصادي.
وسبق وأن حث السوداني العراقيين على عدم اقتناء الدولار، قائلًا إن “الدينار هو الأقوى” قبل أن تكشف الأشهر اللاحقة زيف هذه التصريحات.
وتواجه الحكومة انتقادات شعبية جراء الحلول الترقيعية التي يعدها الكثير من العراقيين كذبًا مفضوحًا للهروب من تحمل المسؤولية وللتغطية على الفشل المستمر منذ واحد وعشرين عامًا من المسؤولين الحكوميين.