من انتصر في الحرب الأوكرانية؟
تظهر مجريات العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، أن القوات الروسية تسير قدما -في الفترة الأخيرة خاصة- نحو تحقيق هدف السيطرة على الأراضي الأوكرانية التي قررت القيادة الروسية ضمها لأراضيها. وأنها وسعت سيطرتها بإقامة مناطق عازلة في شمال وشرق أوكرانيا. وهذا التقدير العام لا يتأثر جوهريا بدخول القوات الأوكرانية في أراضي روسية على الحدود في مقاطعة كورسك.
غير أن معيار النصر والهزيمة في تلك الحرب هو معيار متسع ويتعلق بالأهداف الإستراتيجية التي أشعلت الحرب، إذ هي حالة صراع إستراتيجي يستهدف التأثير على العلاقات الأوروبية الروسية والعلاقات الأمريكية مع كل من أوروبا وروسيا، وعلى التوازنات الدولية، بل حتى مستقبل النظام الدولي، إذ الامر يصل حد التأثير على الدور الدولي للولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا، وبقية الأقطاب الصاعدة دوليا.
لقد كانت نتيجة الحرب العسكرية على الأرض محسومة لمصلحة روسيا منذ يوم اشتعالها، وكان هذا التقدير عاما ومؤكدا، حتى لدى حلف الأطلسي بحكم الفوارق العسكرية والاقتصادية والسكانية، التي تميل جميعها لمصلحة روسيا، وبحكم أن ليس واردا اتخاذ قرار بتوسعة الحرب لتصبح حربا عالمية ثالثة.
ولذا، فمعايير الحكم على نتائج تلك الحرب لا تتعلق فعليا بالنتائج المباشرة للأعمال العسكرية، بل بالنتائج الإستراتيجية للصراع.
وفي ذلك، وإذ كان واضحا منذ بداية الصراع أو حتى قبله بسنوات، أن الولايات المتحدة كانت منزعجه أشد الانزعاج من تنامى العلاقات الاقتصادية والسياسية بين روسيا وأوروبا، وكانت ترى –وهذا صحيح- أن هذا التطور سيفضى إلى تصاعد قوة كل من أوروبا وروسيا كأقطاب ندية لها، والى تأثيرات خطيرة على التوازنات الدولية لغير مصلحتها وبالدقة على هيمنتها على النظام الدولي، فقد كانت أحد الأهداف الأمريكية، هي تغيير تلك العلاقات من التنامي إلى التعادي لإضعاف كليهما. وهذا الهدف قد تحقق. بل يمكن القول بأنه تحقق وزيادة، إذ أدت الحرب إلى ضعف أوروبا اقتصاديا وسياسيا، وأن صارت أقل استقلالية وأكثر خضوعا لهيمنة الولايات المتحدة.
كما أن الولايات المتحدة نجحت في تغيير الوضع الإستراتيجي لأوروبا الشرقية. لقد استهدفت القضاء على بقايا الارتباط بين تلك الدول وروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، خاصة على صعيد الجيوش. لقد خططت الولايات المتحدة ونجحت في بيع دول أوروبا الشرقية أسلحتها الموروثة من الحقبة السوفيتية إلى اوكرانيا، واستبدالها بأسلحة أمريكية ضمن خطة الهيمنة عليها. وفي ذلك كانت المرحلة الأولى من الحرب الأوكرانية الروسية، حرب لصهر سلاح الحقبة السوفيتية في معركة يستخدم فيها الطرفين السلاح نفسه.
واستخدمت الولايات المتحدة، تلك الحرب في الضغط على الصين، وفي رفع معدلات الخلاف بين الصين أوروبا.
غير أن روسيا بالمقابل، حققت قدرا من أهدافها، فإذ تمكنت من السيطرة على الأراضي الأوكرانية، وعلى ما فيها من ثروات معدنية واصول صناعية، فقد حققت تغييرا حقيقيا في وضعها الإستراتيجي من جوانب كثيرة.
فهناك أن روسيا غيرت الوضع الإستراتيجي للبحر الأسود بشكل ما، ولبحر ازوف بشكل كامل لمصلحة امنها القومي، كما أنها استفادت من الصراع والحرب لتطوير وضعها الدولي على نحو متصاعد. فهي عمقت حالة تعدد الأقطاب الدولية مستثمرة حالة التعادي التي جلبتها الحرب، إذ استفادت من الإجراءات الغربية التي استهدفت حصارها لتخويف دول العالم من استمرار الهيمنة الغربية. كما عمقت تحالفها الإستراتيجي مع الصين وكوريا الشمالية، وكذلك طورت دورها ونفوذها في أفريقيا. وبهذا المعنى فإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في الإضرار بالعلاقات الأوروبية الروسية وغيرت من أوضاع أوروبا الشرقية، فإن روسيا بالمقابل، قد أضرت بالهيمنة الأمريكية دوليا.
وإذ يطول شرح تأثيرات هذا الصراع، فيمكن القول، بأن النتائج الكلية للصراع لم تظهر بعد. فالمعركة ما تزال جارية من جهة، كما أن الصراعات الاستراتيجية تحتاج إلى وقت طويل لظهور نتائجها الكلية.
وفي كل ذلك، فالأمر المؤكد، هو أن الخاسر الأكبر في هذا الصراع -حتى الآن- هو كل من أوروبا وأوكرانيا التي فقدت سيادتها وليس أرضها واقتصادها وأبنائها فقط.
وأوروبا فقدت كثيرا مما حققته على مستوى علاقاتها الدولية وقوتها وقدرتها على بناء قطب دولي مستقل، وباتت أكثر خضوعا للهيمنة الأمريكية.