سكان الأهوار يعيشون محن المعيشة والجفاف والتهجير وانعدام فرص العمل
يصنف العراق بين دول العالم الخمس الأكثر عرضة لتغير المناخ والتصحر، على الرغم من وجود نهري دجلة والفرات فيه بينما تتجلى حدة الجفاف بشكل ملحوظ في حياة النساء والأطفال خصوصًا في مناطق الأهوار.
ميسان – الرافدين
تواصل مؤشرات تراجع منسوب المياه في منطقة الأهوار جنوبي العراق تسجيل نسب قياسية وغير مسبوقة في وقت باتت تنذر فيه هذه الأزمة المزمنة من تفاقم المشاكل البيئية والمجتمعية والأمنية والاقتصادية التي تواجهها البلاد على وقع ارتفاع معدلات النزوح والتبعات الكارثية المصاحبة على حياة السكان لاسيما الأطفال والنساء منهم.
ويرجع خبراء هذه الأزمة إلى التبخر جراء الارتفاع الكبير بدرجات الحرارة تزامنًا مع انخفاض تدفق المياه نحو نهري دجلة والفرات خاصة من حوض الفرات وما تعرف بالنواظم الذيلية لمياه “قرمة بني سعيد” المؤثرة بشكل مباشر على كل من الأهوار الوسطى وهور الحمّار الغربي.
وعرفت الأهوار بكونها إرثًا حضاريًا يعود لآلاف السنين بكل ما تحمله من تنوع طبيعي وإحيائي وهوية بصرية، بعد تحولها إلى مرفق طبيعي للسائحين شكلته المسطحات المائية على مر القرون.
وتعد الأهوار موردًا اقتصاديًا لعشرات الآلاف من العراقيين الساكنين حول تلك المناطق، بما فيها من مخزون للثروة السمكية والمنتجات البحرية، إضافة لكونها مستقرًا لحيوان الجاموس الذي ينتشر بمحافظات ميسان وذي قار والبصرة.
وتصنف أهوار العراق من كبرى البحيرات والمسطحات المائية في منطقة الشرق الأوسط، وتقدر مساحتها مجتمعة بـ20 ألف كيلومتر مربع، وهي عبارة عن منخفضات من الأرض تتجمع فيها مياه الأنهار، ثم تتحول إلى بحيرات واسعة ذات أعماق مختلفة.
ويضم جنوب العراق 3 أهوار رئيسة هي هور الحويزة على الحدود الإيرانية، وهور الحمّار وسط المنطقة، وأهوار الفرات التي تمتد شمال وغرب البصرة وجنوب منطقة العمارة القريبة من مصب دجلة والفرات.
ويعاني هور الحويزة بمحافظة ميسان على وجه الخصوص، من كارثة بيئية تسببت بنفوق الملايين من أسماكه بنسبة تصل إلى 95 بالمائة، خلال الأسابيع الماضية جراء انخفاض مناسيب المياه، ما أطلق تحذيرًا بيئيًا شديد اللهجة للجهات المعنية والمسؤولة عن الموارد المائية والتلوث البيئي في العراق.
ويؤكد الخبير البيئي والمتخصص بمنطقة الأهوار أحمد صالح نعمة أن “تأثيرات جفاف الفترة بين 2021 و2024 ما زالت قائمة ولم تُشفَ الأهوار منها بعد، مؤكدًا أن إطلاقات المياه في هور الحويزة انخفضت من 30 مترًا مكعبا في الثانية إلى 3 أمتار مكعبة في الثانية فقط مؤخرًا.
ودعا نعمة وزارة الموارد المائية للعمل على تخصيص حصص مائية مناسبة لتعويض النقص الحاصل في الأهوار الوسطى وهور الحمّار الغربي بما فيها أهوار أم الودع والجبايش، ومعالجة المياه من التلوث بموجب دراسة الأثر البيئي المقدمة إلى هيئة المستشارين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء من قبل منظمة “طبيعة العراق” عام 2009 بناءًا على تكليفها.
وعلى صعيد متصل، كشفت مصادر مطلعة في البرلمان الحالي بأن الجفاف ضرب 90 بالمائة من مياه الأهوار في جنوب العراق، وسط عجز حكومي عن مواجهة الأزمة.
وأقر عضو لجنة الزراعة والمياه بالبرلمان ثائر الجبوري، بأن “وضع الأهوار في العراق صعب ومعقد في نفس الوقت مع تنامي نفوق الثروة السمكية الذي يرصد بين فترة واخرى مع انحسار المياه المتدفقة”.
ولفت الجبوري إلى أن 90 بالمائة من مياه الاهوار بحكم المتضرر وبنسب تتصاعد مع مرور الوقت.
وأشار إلى أن “قلة امدادات نهر الفرات القادمة من تركيا وصولًا الى سوريا ومنها إلى العراق انعكس سلبًا على حوض النهر الذي يغذي نسبة ليس قليلة من الأهوار”.
وأكد أن “العراق بحاجة ماسة الى المضي في ضمان حقوقه في الأنهر المشتركة مع دول الجوار وفق القوانين الدولية وأن تكون هناك اجراءات عادلة ومنصفة”.
ولفت الجبوري إلى أن “الكميات التي تصل من نهري دجلة والفرات محدودة جدًا ولاتفي بالغرض وهناك مناطق واسعة من البلاد تعاني من قلة الإيرادات المائية ومنها الاهوار ومناطق الجنوب والوسط بشكل عام”.
ويواجه العراق نذر أزمة مائية، بعد أن عانى الأمرّين من انخفاض حاد وصلت تهديداته مياه الشرب في السنوات الماضية، ناهيك عن شح مياه السقي للمزروعات لكل مناطق العراق الوسطى والجنوبية.
ووفقًا لتوقعات “مؤشر الإجهاد المائي” لعام 2019 فإن مياه نهري دجلة والفرات لن تصل إلى المصب النهائي في الخليج العربي مع حلول عام 2040، في وقت يبلغ فيه إجمالي معدل استهلاك المياه لكافة الاحتياجات -كحد أدنى- في العراق نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما يحتاج العراق إلى 70 مليار متر مكعب لتلبية احتياجاته.
ووضع العراق بالمرتبة الخامسة من بين الدول الأكثر تضررًا بتأثرات التغيّرات المناخية على مستوى العالم، بعدما تعرض العراق لمتغيرات بيئية صعبة.
وفي هذا السياق أطلقت البعثة الاممية في العراق مطلع شهر أيلول الجاري تحذيرًا من احتمالية أن يواجه نصف سكان العراق نقصًا في المياه بحلول عام 2060.
وأوضحت البعثة في بيان على موقعها أن تأثير الجفاف على العائلات وخصوصًا الأطفال سيكون كارثيًا حيث سيؤثر على صحتهم وتعليمهم وفرصهم المستقبلية.
ونوهت البعثة في بيانها على أن “حماية موارد المياه اليوم تعني ضمان مستقبل أفضل لكل طفل في العراق”.
ولا يقتصر التأثير على الأطفال فحسب بل تشمل المخاطر الأجنة والحوامل إذ سبق أن كشف تقرير صادر عن منظمة Women Deliver الأمريكية المعنية بالحقوق الصحية والإنجابية للنساء حول العالم، أن تغيّر المناخ له آثار عميقة على الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، ويزيد حدّة التفاوتات القائمة بين الجنسين في وقت يؤثر فيه ارتفاع درجات الحرارة والأحداث المناخية المتطرفة من زيادة تعرّض النساء والفتيات للمخاطر الصحية والحد من قدرتهنّ على الوصول إلى الخدمات.
وفي هذا السياق تشير أخصائية النسائية والتوليد الطبيبة صفا داود سليمان، إلى أن للتغيرات المناخية وما ينجم عنها من ارتفاع درجات الحرارة، آثارًا سلبيةً على صحة المرأة والجنين خاصةً في المناطق الجافة التي يضطر ساكنوها إلى شرب المياه المالحة.
وتوضح أن “شرب المياه المالحة يؤدي إلى احتباس السوائل في جسم الحامل و تسمم الحمل لعدم قدرة الجسم على التخلص من الملوحة، ومن الأعراض الأخرى الخطيرة كارتفاع ضغط الدم المفاجئ والتهاب الكليتين وهو ما يرفع من مخاطر الولادة المبكرة والإجهاض”.
وتفيد سليمان بأنّ التعرض للإجهاد الحراري وقلة تغذية الحامل سيؤديان إلى انخفاض وزن الحامل أو إصابتها بفقر الدم، وهذا سينعكس سلباً على الجنين الذي يتلقى غذاءه من الأمّ عبر الحبل السرّي وتالياً عدم حصوله على تغذية كافية، ما يهدد حياة الأم والجنين معًا.
بدورها تروي نبأ (اسم مستعار) من السوير في محافظة المثنى، قصتها بعد أن كادت تفقد حياتها إثر تعرضها للإجهاض، نتيجةً لشحّ المياه الصالحة للشرب، إذ إن أغلب المياه التي يستهلكونها في قريتهم تعتمد على طرائق بدائية في تصفيتها من الملح مثل استخدام قطع الشاش (القماش الرقيق)، وبرغم ذلك، أصيبت بارتفاع ضغط الدم في أثناء الحمل.
وأضافت نبأ (23عامًا) أن “عدم الحصول على التغذية الكافية خلال فترة حملي بسبب قلة الزراعة وضعف الدخل، تسبب بإصابتي بارتفاع ضغط الدم بسبب ملوحة المياه، وبالتالي الإجهاض لحملي الأخير، خصوصًا أنه تزامن مع موجة جفاف شديدة ضربت منطقتنا العام المنصرم”.
وتتحدث نبأ عن تجربتها بالقول “لقد تحمّلت مسؤولية أسرتي بمفردي، بعد أن اتجه زوجي صوب المدينة من أجل البحث عن عمل لتعرّض الأرض التي كنا نعتاش منها للجفاف، وتوجب عليّ توفير المياه والخبز والطعام بأي وسيلة لأبنائي الثلاثة”.
وبينت أن “الجوع وقلة الغذاء وملوحة مياه الشرب والتعب والإرهاق في ظل درجات الحرارة المرتفعة، كانت كلها أسبابًا أدت إلى إجهاضي”.
وفي خضم ما يعانيه العراق منذ أكثر من أربع سنوات من جفاف قضى على جزء كبير من الأراضي والمزروعات بات تغيّر المناخ في العراق يمثّل تهديدًا خطيرًا لحقوق الإنسان الأساسية إثر العوائق المترتبة على ذلك.
ويصف الخبير البيئي ليث العبيدي، الجفاف الذي ضرب المحافظات الجنوبية بـ”الكارثة”.
ويوضح العبيدي أن “آثار تغيّر المناخ في المحافظات الجنوبية انعكست بشكل مباشر على الواقع الزراعي لأسباب عدة أهمها تصحّر الأراضي وزحف الكثبان الرملية وانتشار الآفات الزراعية لشحّ المياه السطحية، مما أدى إلى انعدام الأمن الغذائي وسبل العيش، لذا بدأ البعض من سكان السماوة في محافظة المثنى يعتمدون على الآبار، أما في المناطق الأخرى كمحافظة القادسية جنوبي العراق مثلًا، فلم تنجح العملية لأنها آبار كبريتية شديدة الملوحة”.
ويتابع ” التغيرات المناخية أثّرت على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الأهوار التي شهدت موجات نزوح كبيرةً إلى محافظات النجف وكربلاء وبابل والبصرة بسبب قلة الموارد التي يعتمدون عليها كتربية الجاموس وصيد الأسماك وقطع القصب، ناهيك عن المشكلات الاجتماعية الناجمة عن ضغوط تغيّر المناخ كالتنافس على الموارد الطبيعية ومصادر المياه ونشوب النزاعات على مصادر المياه وارتفاع حدّة العنف”.