صراع لصوص الدولة في العراق يتحول إلى معركة رشى بين القضاة
مجلس القضاء الأعلى: رئيس الادعاء العام طلب من محكمة تحقيق الكرخ الثالثة إجراء التحقيق بخصوص التسجيلات الصوتية المنسوبة إلى رئيس هيئة النزاهة بالوكالة حيدر حنون والتي تتضمن جرائم تقاضي رشى.
بغداد– الرافدين
تصاعد الصراع بين لصوص الدولة ووصل إلى المؤسسات القضائية وأقطابها في العراق، عندما أعلن القضاء العراقي الأربعاء فتح تحقيق في “تسجيلات صوتية منسوبة” إلى رئيس هيئة النزاهة بالوكالة حيدر حنون تتضمّن “جرائم تقاضي رشى”.
ويأتي اتهام حنون بعد أيام من كشف الأخير بأن “القاضي ضياء جعفر (الذي يحاكم نور زهير المتهم بسرقة القرن) يلاحقني، وأصدر أمر إلقاء قبض بحقي (…)، مع العلم بأن القضية كانت في البصرة، ونقلت إلى بغداد لدى القاضي جعفر؛ لكن الملفات اختفت عنده”.
ووصف رئيس هيئة النزاهة نور زهير بالعربة التي حملت فيها الأموال. من دون أن يعلن من هم أصحاب العربة الذين استحوذوا على الأموال التي حملت عليها.
وكان جعفر قد صرح الشهر الماضي بأنه هو من أصدر “قرار الإفراج عن زهير بكفالة قانونية، ليتسنى له تسديد ما بذمته من أموال”.
وقال حيدر حنون “هيئة النزاهة” مستضعفة، ولا يجوز للقاضي ضياء جعفر استخدام سلطته ضدنا.
وأضاف “التقصير في قضية نور زهير أمر بيني وبين القاضي جعفر، وأطالب مجلس النواب باستجواب كلينا في جلسة علنية”.
وردا على قرار القضاء العراقي بشأن اتهام حنون بالارتشاء، اعتبرت هيئة النزاهة في بيان أن التسجيلات الصوتية “مفبركة” و”تهدف إلى التأثير في عمل الهيئة ومحاولة ثني رئيسها عن الاستمرار والاضطلاع بمهمَّته الوطنية” وأنها “فرى وأكاذيب وأراجيف”.
وقال المركز الإعلامي في مجلس القضاء الأعلى إن “رئيس الادعاء العام طلب من محكمة تحقيق الكرخ الثالثة إجراء التحقيق بخصوص التسجيلات الصوتية المنسوبة إلى رئيس هيئة النزاهة بالوكالة حيدر حنون والتي تتضمن جرائم تقاضي رشى”.
وفي التسجيل الذي تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية، يلمّح رجل يُقدّم على أنه حنون إلى أنه تلقّى مبالغ باهظة من المال وسيارة من طراز كاديلاك.
ولم تتمكن وكالة الصحافة الفرنسية التي نقلت الخبر من التحقق من صحة التسجيل.
ورغم الفساد الذي تسلل إلى جميع مؤسسات الدولة والإدارات العامة في العراق، غالبا ما تستهدف العقوبات المستويات المتوسطة في الدولة أو المدراء البسطاء، ونادرا ما تستهدف قمة الهرم وكبار الفاسدين.
وليس نادرا أن تظهر مثل هذه القضايا بشكل مفاجئ على الساحة العامة في خضمّ تصفية حسابات بين مسؤولين منخرطين في صراعات داخلية على السلطة.
وأعلنت هيئة النزاهة أنها ستعقد مؤتمرا صحافيا الخميس “من أجل تبيان الوقائع ودحض تلك الفرى والأراجيف”.
ومطلع أيلول اتهم حنون قاضيا بالحصول على قطعة أرض بشكل غير مشروع، وذلك خلال مؤتمر صحافي عقده في أربيل دافع خلاله عن امتلاكه قطعتَي أرض في محافظة ميسان في جنوب العراق.
ونهاية آب، أصدر القضاء العراقي أمرا بالقبض على رجل الأعمال نور زهير، المتهم الرئيسي في قضية “سرقة القرن” المعروفة كواحدة من أكبر السرقات في العراق والتي كُشفت في 2022، وكذلك على هيثم الجبوري وهو مستشار سابق لرئيس الوزراء.
وكان زهير أوقف في تشرين الاول 2022 ثم أفرج عنه بكفالة وتمكن من مغادرة البلاد، ولم يحضر جلسات محاكمته التي بدأت منتصف آب.
وتورد وثيقة على صلة بالقضية من الهيئة العامة للضرائب أنه تم دفع 2.5 مليار دولار بين أيلول 2021 وآب 2022 من طريق 247 صكا صرفتها خمس شركات. ثم سُحبت الأموال نقدا من حسابات هذه الشركات التي يخضع أصحابها لأوامر توقيف.
وقال حيدر حنون خلال حديث أمام الصحافيين في أربيل، إن المتهم الرئيسي بسرقة الأمانات الضريبية، نور زهير قام بتزوير 114 صكاً مالياً، وعليه أن يعاقب بـ114 حكماً، وكشف عن أنه سرق 720 دونما في شط العرب جنوب العراق.
وأضاف “زهير جاء بوكالة محامٍ وبدأ يسحب الودائع الجمركية، والودائع هي بضاعة تباع في الميناء وتودع كأموال وحسابات في الميناء والأمانات تودع في الميناء”.
وطالب البرلمان بسؤاله “لماذا فُتحت قضية واحدة فقط بحق نور زهير رغم وجود جرائم أخرى؛ منها التلاعب بـ720 دونماً من الأراضي في البصرة، التي سُجلت بأسماء وهمية”.
وأشار إلى أن هذه القضية نُقلت إلى بغداد بناءً على قرار القاضي ضياء جعفر.
وكشف قاضي “النزاهة” عن أن “القضاة والوزراء تسلموا قطع أراضٍ بمساحات 600 متر مربع من الحكومة السابقة لضمان الولاء”.
وأكد على أن «هذه التطورات تشكل تحدياً كبيراً لجهود مكافحة الفساد واستعادة أموال الدولة المنهوبة.
وطالب حنون مجلس القضاء الأعلى باستبدال قضاة «هيئة النزاهة» سنوياً لضمان النزاهة والشفافية في التعامل مع ملفات الفساد الكبرى.
ورغم أن تصريحات حنون هزت الأوساط السياسية في البلاد، لكنها فاقمت التعقيد في قضية سرقة القرن بسبب تشابك المعلومات والتصريحات حول القضية وأطرافها، لا سيما بعد تغيب المتهم زهير عن محاكمته الشهر الماضي، وصدور أمر قبض بحقه.
وتأتي تصريحات حنون بعد أيام من اعلان مصادر قضائية ورقابية أن السلطات الحكومية تتستر على فضيحة تاريخية غير مسبوقة بعد أن كشفت أن كمية الأموال التي سرقت من الهيئة العامة للضرائب تصل إلى 8 مليار دولار وليس 2.5 مليار كما ذكر سابقا.
وسبق أن كشف حنون عن أن عدد المتهمين في سرقة القرن فاق الـ30 متهما، من دون أن يذكر صلات هؤلاء المتهمين بالأحزاب الحاكمة وجهات سياسية متنفذة.
ولا تشكل الأرقام التي أعلنها رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون عن استردادها إلا نسبة ضئيلة من كمية المبلغ المسروق.
ويكشف مسعى رئيس هيئة النزاهة عن طبيعة الفساد الكامن في بنية القضاء العراقي، عندما يحاول أبعاد جريمة سرقة القرن عن سبعة فصائل مشاركة في حكومة الإطار التنسيقي والبحث عن كبش فداء من اللصوص الصغار، بذريعة أنهم خارج العراق.
ويعتقد الباحث في شؤون مكافحة الفساد غالب الدعمي، أن “قضية الأموال الضريبية متشابكة ومعقدة جدا، وأن الجزء الغاطس منها أكبر بكثير ربما من الجزء الظاهر لنا”.
وقال الدعمي في تصريحات صحفية إن “حجم التقديرات للمبالغ المسروقة ربما يصل إلى نحو 8 مليارات دولار، والمؤسف أن معظم هذه الأموال ذهبت إلى خارج البلاد”.
وأضاف “معظم المتورطين كانوا في الحقيقة أدوات لسارق حقيقي لم يظهر إلى الواجهة، لكنه يملك النفوذ اللازم للتملّص من السرقة، لقد كانوا مجرد أدوات، وحين حصولهم على الأموال عبر صكوك مصرفية اكتفوا بالحصول على نِسب صغيرة من تلك الأموال”.
وسبق أن كشف تحقيق تلفزيوني مصور لمجلة “إيكونوميست” البريطانية عن ضلوع سبعة فصائل مرتبطة بالأحزاب والميليشيات الحاكمة في العراق في سرقة القرن التي تم فيها نهب 8 مليار دولار من أموال الضريبة في العراق.
وذكرت المجلة في التحقيق المصور الذي أجراه مراسلها في الشرق الأوسط نيكولاس بيلهام، أن لصوص الدولة يتقاتلون في ما بينهم في العلن، لكنهم يعملون معا لإثراء أنفسهم، بغض النظر عن المواقف السياسية والطائفية.
وقال الباحث السياسي في “ذي سنتشري فاونديشن” سجاد جياد أن سبعة فصائل من مختلف الأطياف قد حصدت مكاسب من سرقة القرن: المدعومون من إيران، والمدعومون من الولايات المتحدة، وأنصار الوضع الراهن، وكل الفصائل تستفيد من مخططات الفساد.
وأضاف “هؤلاء المعارضون يقاتلون بعضهم البعض في العلن لكنهم يعملون سويًا لإثراء أنفسهم، بغض النظر عن المواقف السياسية والأيديولوجية”.
ويقدر مسؤولون أن حجم الأموال التي اختفت من الخزانة العامة منذ سنة 2003 تتجاوز 300 مليار دولار.
ويصنف العراق من البلدان الغنية في العالم، حيث يعد أحد أكبر منتجي النفط في العالم بتحقيق أرباح من الصادرات في السنة الماضية تجاوزت 115 مليار دولار. ومع ذلك، لا يصل سوى القليل من هذه الأرباح إلى الناس العاديين.