العتبات الدينية تفترس محيط المرقدين العسكريين بطرق ملتوية بهدف تغيير ديموغرافية سامراء
تعمد العتبة العسكرية على تضييق الخناق على أصحاب الأملاك في محيط المرقدين العسكريين وسط سامراء في محاولة لتحويل ملكية هذه الأراضي والعقارات لصالحها عبر الضغط والترغيب والترهيب والتزوير لشراء الأملاك بأسعار بخسة.
سامراء – الرافدين
تواصل العتبات الدينية في سامراء استيلاءها على أراضي المدينة التأريخية بالتواطؤ مع ميليشيا السرايا بزعامة مقتدى الصدر التي تحكم سيطرتها على المدينة منذ عقد من الزمن وفقًا لخارطة تقاسم النفوذ للميليشيات في المدن المنكوبة.
وتجري عمليات الاستيلاء والاغتصاب للأملاك العامة والخاصة أمام مرأى ومسمع من حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني في مدينة سامراء، حيث لا قرار يعلو على قرار وسلطة العتبة العسكرية المسؤولة عن إدارة المرقدين العسكريين في مدينة سامراء بعد الاستيلاء عليهما في أعقاب التفجير الذي تتهم إيران بتدبيره عام 2006.
وتشمل عمليات الاستيلاء على الأملاك والعقارات في سامراء، جميع الدور والمطاعم والفنادق والمحلات التجارية في مدينة سامراء القديمة، وهي المنطقة المحيطة بمرقدي الإمامين العسكريين الحسن العسكري وعلي الهادي بدواع توفير الأمن وغيرها من مبررات ومسوغات تقف خلفها دوافع طائفية.
ويؤكد الصحفي عثمان المختار أن “هذا العام شهد توسعة ما يعرف بـ (الطوق الأمني) خلال الزيارة الدينية لمرقد (علي الهادي) من محيط المرقد إلى سوق مريم أو ما يعرف بـ (تقاطع سيد حميد)، بعدما تم ابتلاع حي كامل وضمه الى المنطقة الأمنية وصولًا إلى (فلكة الملعب)”.
وبين المختار في تغريدة له على منصة أكس أن “هذا الإجراء الجديد منع الناس من الدخول والخروج لمنازلهم ومحلاتهم بحرية بعدما تم تقييدهم بشكل يجعل كل انسان يفكر بترك منزله والعيش بأي مكان آخر”.
ولفت إلى تصاعد ظاهرة دخول الغرباء إلى المدينة من خلال مكاتب الدلالية بشكل واضح لشراء المنازل والأراضي بالجملة من أهالي سامراء وبأي سعر لمن يبيع.
وأوضح أن “جميع هؤلاء من خارج سامراء وصلاح الدين بشكل عام وكان آخرهم شخص يدعى (الكريطي) يقول إنه من كربلاء، وآخر يدعي أنه من محافظة بابل واسمه (حجي باقر)، وهذا الأخير يتولى شراء منازل ومحلات وأراض زراعية بما فيها تلك المحجوزة أو التي عليها مشكلة بالطابو، يشتريها ويقول إنه سيتولى تخليصها”.
وأشار المختار في منشوره الذي استهله بعنوان (جديد سامراء التي تُنتزع من أهلها على مدار الساعة) إلى “السماح للزوار الإيرانيين والباكستانيين وغيرهم بالتجول بين المنازل والأحياء السكنية”.
ويقع قضاء سامراء شمال العاصمة بغداد بنحو 125 كيلومترًا، ويتبع إداريًا لمحافظة صلاح الدين. للمدينة رمزية تراثية، إذ تعود أقدم مكتشفاتها إلى 4،000 سنة قبل الميلاد وجعلت إطلالة المدينة النهرية على ضفاف دجلة، مركزًا للاستيطان السكاني، وكانت تُعدّ من أهم حصون الدولتين الساسانية والمناذرة قبل الإسلام، في أثناء صراعهما مع الروم.
وجعل تاريخ المدينة العريق، زاخرةً بالمواقع الأثرية، وأبرزها تلك المرتبطة بالدولة العباسية، إذ كانت عاصمتها لنحو 58 عامًا، بعد أن اعتمدها الخليفة العباسي الثامن، المعتصم بالله، مقرًّا لدولته في عام 835 ميلادي واهتم العباسيون بالمدينة وعمرانها، ولُقّبت وقتها بـ”سُرَّ من رأى”، ولعل الجامع الكبير ومئذنة الملوية وقصر البركة وقلعتها من أبرز الشواهد على تراثها الماثل للعيان حتى يومنا الحالي.
وكانت اليونسكو قد أدرجت في عام 2007، مدينة سامراء ضمن لائحة التراث العالمي والمناطق الأثرية، وأطلقت هيئة الآثار العراقية على المنطقة المحددة تسمية المنطقة الحمراء، أو “ريد زون”، ومنعت الاستيطان فيها أو البناء عليها، خاصةً المنطقتين المرقمتين بـ13/1 و16/1 ضمن المقاطعة 22، ومساحتهما 822 دونمًا، لاحتوائهما على آثار مطمورة لم يُنقَّب عنها حتى الآن.
وتحاول العتبات الدينية والميليشيات المتحالفة معها وفي مقدمتها ميليشيا السرايا تكريس واقع جديد يتخذ من التضييق على أبناء سامراء بشكل مستمر منهجا له في ظل حملة استهداف محمومة تقودها أحزاب السلطة بقصد تغيير الطبيعة السكانية للمدينة من خلال بث الرعب بين الأهالي وإجبارهم على التخلي عن ممتلكاتهم عبر ممارسة مختلف أنواع الضغط.
وفي شهر أيلول في العام الماضي، أطلق وجهاء المدينة وأعيانها ومثقفوها، بيانًا على إثر توزيع العتبة ألف عقار من أملاك البلدية على المنتسبين إليها، واتهموها بحرمان السكان من التصرف بأملاكهم واستمرار عمليات الاستيلاء على الأراضي ومن بينها الجامع الكبير والمدرسة العلمية وبعض من أملاك بلدية سامراء”.
وفي هذا الصدد يقول محمد آل نيسان، وهو صاحب أحد المحال المجاورة للمرقد، إن العتبة تمنعه من الوصول إلى محله منذ عام 2014، وقد أفشلت بالفعل محاولات عدة لبيعه”.
واشار آل نيسان إلى أن “العتبة عرضت عليه شراء المحل بمبلغ 5 ملايين دينار عراقي (نحو 4،200 دولار)، بينما يصل سعره الفعلي إلى أكثر من 20 ألف دولار”.
ولا يختلف ما جرى مع آل نيسان مع ما حصل لسعد حذيفة الذي يمتلك عقارًا قريبًا من شارع العسكري المحاذي للمرقد، إذ يتحدث هو الآخر عن منع العتبة عرضهم بيوتهم للبيع لمن يرغبون بعدما فرضت عليهم بيعها لها، مقابل أثمان بخسة لا تصل إلى ربع قيمتها الفعلية.
ووفقًا للمواطن سعد حذيفة فإن “العتبة ترسل عددًا من المنتسبين إليها إلى صاحب العقار من أجل إقناعه ببيع عقاره أو تعليق امتلاكه إياه، ولا يستطيع صاحب العقار اتخاذ أي إجراء ضدهم بسبب نفوذهم القوي داخل المدينة، وفي حال انتقاده هذه السلوكيات، تقوم مجموعة بتهديده، وقد استولوا بالفعل على الكثير من المحال المحاذية للمرقد بهذه الوسيلة كما استحوذوا على أملاك عائدة للبلدية أو دوائر الدولة الأخرى دون وجه حق”.
ويتحدث سفيان العزي، وهو أحد المتضررين من هذه الممارسات، هو الآخر عن تلك الممارسات بعدما فقد عقد إيجار محله التابع لبلدية القضاء، بعد استيلاء العتبة عليه.
ويوضح العزي “لدي عقد سنوي موقع مع دائرة البلدية نظير تأجير المحل، ولكني تفاجأت بعد شهرين من توقيع هذا العقد، بضرورة إخلائه وسُلّم لأحد المستأجرين الجدد من خارج المدينة”.
ولا يستطيع أبناء المدينة التي باتت بحكم المحتلة كما يصفون بالتحرك ضد هذا الواقع، نظرًا إلى دعم حكومة السوداني للعتبة العسكرية، ويستندون في ادعائهم إلى امتناع الحكومة عن توزيع الأراضي على أهالي سامراء، في حين أنها توزّعها على الغرباء.
ويؤكد مصعب السامرائي وهو أحد أبناء المدينة أن “الحكومة توزع الأراضي على مواطنين من بغداد وآخرين من جنوب البلاد، وعلى المواطنين الأجانب من إيران وباكستان وغيرهما، وبتوصية من العتبة الدينية”.
ويشير السامرائي إلى أن “سلوكيات العتبة أصبحت مشابهةً لسلوكيات المافيات الإيطالية في الأفلام الأجنبية، إن لم تكن مشابهةً لسلوكيات الميليشيات في باقي مدن العراق”.
ولا تتوقف الظاهرة عند محاولات التغيير الديمغرافي للمدينة، إذ تُدرّ هذه الأملاك الكثير من الأموال للعتبة العسكرية، وتسهّل تنفيذها مشاريعها التطويرية داخل المرقدين العسكريين أو حولهما، كما يذهب جزء من هذه الأموال إلى جيوب بعض الأحزاب المنتفعة التي تؤجر أو تبيع هذه العقارات بأسعار باهظة.
ولا يتوقف الاتهام عند هذا الحد، إذ إن موقع المدينة الرابط بين العاصمة بغداد وشمال البلاد ووقوعها في منتصف ما يعرف بعد الاحتلال الأمريكي بالمثلث السُنّي يزيدان من التركيز عليها، فمدينة تكريت تحدّها من الشمال، ومحافظة الأنبار ترتبط بها غربًا، ومحافظة ديالى شرقًا.
ويرى الباحث السياسي من مدينة سامراء، سليمان البازي، أن المدينة أصبحت مرتكزًا لحماية العاصمة وقطع علاقة مناطق شمال بغداد بالمحافظات السُنّية”.
ويشير البازي إلى أن “هذا السبب هو نفسه الذي يعزز الدعوات الساعية لانفصالها عن محافظة صلاح الدين وتأسيسها محافظةً مستقلةً تضمّ بالإضافة إلى قضاء سامراء قضاء بلد وقضاء الدجيل الشيعيين”.
وكانت “العتبة العسكرية” في سامراء قد نشرت إعلانًا تبين فيه تغيير اسم الجامع الكبير في المدينة إلى جامع “صاحب الأمر” بعد ترميمه كما زعمت، ما أثار ردود فعل غاضبة بين العراقيين على الاستيلاء الصلف لأوقاف المسلمين.
وسبق أن حذرت هيئة علماء المسلمين في العراق من هذا الاستيلاء بمشاركة ميليشيات “سرايا السلام” وديوان الوقف الشيعي، مؤكدة على أنها خطوة أخرى خطيرة في مشروع الاستيلاء الممنهج على الأوقاف الإسلامية في العراق، وفرض الوصاية الطائفية بسطوة القوة العسكرية.
وأوضحت الهيئة، في بيان لها، أن ديوان الوقف الشيعي مارس بسطوة الميليشيات وأجهزة الأمن الحكومية حملة استيلاء على عقارات أبناء المناطق الغربية من سامراء المحيطة بالمرقد والجامع والمدرسة، سواء بوضع اليد عليها دون وجه حق أو بفرض البيع على مالكيها تحت طائلة التهديد والاعتقال، وفي بعض الأحيان بالإغراءات مقابل مبالغ مالية خيالية.
وشددت الهيئة على أن مجاورة الجامع الكبير والمدرسة العلمية للمرقد، لا تعطي حقًا للعتبة ولا لغيرها في الاستحواذ عليهما تحت ذريعة الإعمار، وأن ديوان الوقف السني هو المسؤول عنهما، وهو أيضًا المسؤول في المقام الأول عن التفريط بحمايتهما، ولا سيما وأن له سوابق في التخاذل عن القيام بمهامه، ومنها تسليمه نظيره الشيعي المرقد دون قيد أو شرط ونقل ملكيته إليه بعد أحداث سنة 2006م.
ولفتت الهيئة، إلى أن المسؤولية يشارك في تحمّلها من يسمّون بالسياسيين “السنّة” الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا أوراقًا على طاولة العملية السياسية تتلاعب بها الأيدي كيفما شاءت.
ودعت الهيئة علماء العراق عامة وعلماء سامراء خاصة، والعراقيين جميعًا والسامرائيين على وجه الخصوص، للقيام بما يوجب عليهم دينهم الحنيف، وبما تفتضيه مروءتهم في الدفاع عن تاريخ هذه المدينة الصابرة المجيد، وحاضرها ومستقبلها المهددين على حد سواء.
ورفض علماء وشيوخ عشائر سامراء محاولات الاستيلاء على الجامع الكبير والمدرسة العلمية في المدينة مؤكدين أنها خطوة ومحاولة لإشعال الفتنة الطائفية في البلاد.
وحذروا من مغبة السكوت على تلك المحاولات التي تستهدف مساجد السنة، داعين السلطات إلى التدخل العاجل ووقف تلك الممارسات من أجل تجنب التصعيد الطائفي التي تحاول بعض الجهات إثارته في المدينة.
وسبق أن ذكرت دراسة مطولة أصدرها معهد “تشاتام هاوس” في لندن عن “افتراس التراث الثقافي في العراق: الاستملاك الطائفي لماضي العراق” أن المنطقة المحيطة بالمسجد العسكري مهملة، والبيئة المعمارية ذات الأهمية التاريخية في وسط سامراء بدأت بالتحول التدريجي من قبل الوقف الشيعي، ويجري هدم عشرات المباني وغيرها من المواقع التراثية التي تعود إلى الحقبة العثمانية، إضافة إلى تشريد عشرات الآلاف من الأسر السنية بعد سيطرة ميليشيا “سرايا السلام”، وهو ما جعل الحياة الثقافية لسامراء أقل تنوعًا.
وأشارت الدراسة التي كتبها نخبة من الباحثين في المعهد الملكي البريطاني “تشاتام هاوس” أنه جرى إغلاق مسجد يديره الوقف السني “الجامع الكبير” وطالب الوقف الشيعي به كواحد من جوامعه.
واستولى الوقف الشيعي على مركز المدينة التاريخي في سامراء، بما في ذلك أصول الدولة المملوكة للسلطات المركزية وسلطات المحافظات، ما أدى إلى تغيير ديموغرافي في سامراء.
وبينت الدراسة أن استغلال الوقف للموارد الثقافية والدينية للمدينة، واتجاهه لأعمال البنية التحتية داخل المنطقة المسيجة، أدى إلى تغيير جوهري في طابع واحدة من أهم المدن العراقية كما جرت تطورات مماثلة أيضا في أجزاء أخرى كثيرة من البلاد.
وأكدت على أن المرقد العسكري بات الآن يمثل موقعًا مخصصًا لخدمة مصالح الوقف الشيعي، ويستخدم لتغيير سامراء نفسها، أكثر من كونه موقعًا عراقيًا مشتركًا.
ونقلت الدراسة عن أحد ممثلي مدينة سامراء قوله “لم تعد سامراء كسابق عهدها، لقد تغيرت العديد من الأشياء لا يمكننا التحدث علنًا عما يحدث هنا، نشعر بالخوف يجري تحويل المدينة عن قصد، ونحن بلا رأي، نحن مستعبدون”.