أخبار الرافدين
كرم نعمة

لأنه… الحاكم المطلق للعراق!

استيقظ رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني بوقت مبكر يوم الإثنين الماضي، بحكم فرق الوقت بين نيويورك وبغداد، على تنبيه عاجل من أحد مساعديه، عن بيان للمرجع علي السيستاني بشأن تصاعد الحرب على لبنان. كان على السوداني أن ينتبه أكثر لأن البيان من السيستاني، مع أنه بوصفه رئيسا للوزراء كسلطة افتراضية عليا في البلاد، لا ينتظر من السيستاني أن ينسق معه في مسألة سياسية كالحرب المتصاعدة في لبنان.
يدرك السوداني في قرارة نفسه أن السيستاني سلطة عليا لا يمكن الاقتراب منها، بل الانصياع التام لكل ما يصدر عنها. صحيح تبدو التوصيفات له من الوهلة الأولى كمرجعية طائفية وفقهية، إلا أن حقيقة الأمر أكبر من ذلك، هناك سلطة مطلقة غير منظورة للسيستاني على كل ما يجري في العراق.
بدت الاستجابة سريعة من السوداني وهو في نيويورك عندما طالب بعقد “اجتماع طارئ” لرؤساء الوفود العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بناء على دعوة المرجع السيستاني!! وكأنه يقول بشكل لا لبس فيه إن السيستاني هو الحاكم والزعيم الفعلي للعراق!
ليس مهما القيمة السياسية لدعوة السوداني للاجتماع الفارغ من جدواه واستحالة تحققه، كان يهمه أن يظهر انصياعه التام للسيستاني، من دون أن يكلف نفسه عناء الإجابة عن سؤال عن الأهمية السياسية التي يمثلها السيستاني بالنسبة للمسؤولين العرب، كي يستجيبوا إلى دعوته وهم في نشاط رسمي في الأمم المتحدة.
وبطبيعة الحال أهملت دعوة السوداني ولم يحدث مثل هذا الاجتماع، لكن بيان السيستاني تحول إلى قصة إعلامية بالنسبة لوكالات الانباء من دون أن يكلف مراسلو هذه الوكالات أنفسهم عناء الإجابة عن سؤال صار يتكرر في العراق منذ عام 2003، عن التخويل السياسي الذي يمتلكه السيستاني كي يمارس سلطة سياسية موازية لسلطته الفقهية؟
لا أحد من ملايين أتباع المرجع قُدر له أن يستمع لهذا الرجل عن قرب بالأمس واليوم، والمرات التي ظهر فيها السيستاني على شاشات التلفاز كانت نادرة جدا. ابتدأت بعد عام 2003 عندما غادر إلى لندن للعلاج، ثم في صور مكرّرة من زاوية واحدة يستقبل فيها السياسيين والزعماء في منزله المتواضع. والمرة الوحيدة التي قبل فيها أن يستقبل مراسلي وكالات الأنباء العالمية، اشترط عليهم ألا يصطحبوا كاميراتهم وهواتفهم. وما سيكتبونه لاحقا يعتمد على ذاكرتهم. وبالفعل خرج لنا مراسلو وكالات “فرانس برس” و “رويترز” و “أسوشيتد برس” بتقارير مقتضبة عن حديث السيستاني.
في كل هذا الكلام عن أهمية السيستاني في صناعة مستقبل العراق ورسم سياساته، لا أحد بمن فيهم المرجع نفسه، قادر على الإجابة على سؤال: من منحه التخويل السياسي لذلك؟
هو متواضع، تلك حقيقة تبدأ من عزلته وتقشفه، مع أن المرجعية تدير ثروة مالية ضخمة توازي ثروات دول. كما أن احتفاظه بجواز سفره الإيراني إلى اليوم ورفض كلّ توسلات الساسة العراقيين لنيل محظيته بمنحه الجنسية العراقية، تؤكد حقيقة احتفاظ رجل الدين الإيراني بما هو عليه الآن منذ وصوله إلى العراق عام 1952.
لو توجد دولة بمفاهيم خاضعة لسلطة القانون في العراق لقدمت السيستاني للمساءلة، فمن أضفى عليه شرعية سياسية ليتراسل مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مثلا متجاوزا الحكومة ووزارة خارجيتها!
لكن مجرد التفكير بهذه المسألة يتحول إلى عبث فمرجعية النجف دولة قائمة باقتصادها وثروتها الباهظة ولا أحد يقترب منها، والسيستاني إن لم يكن فاسدا ويعيش حياة متقشفة ومعزولة فإنه واجهة لمؤسسة فساد يديرها ابنه محمد رضا وممثلو المرجعية الذين يصفون بأكبر رجال الأعمال في العراق يديرون دولة موازية داخل الدولة. وهو ما صار العراقيون على اطلاع عليه.
إننا نتحدث عن دولة متكاملة بأموالها وقواتها القتالية داخل الدولة العراقية، الأهم من كل ذلك، أنها لا يمكن أن تخضع للمحاسبة المالية ولقوانين الدولة وسلطتها.
علي السيستاني، رجل خارج التاريخ، زاهد بالحياة لا يغادر منزله المتواضع في النجف إلا نادرا، ولا يقابل السياسيين، لا يتكلم. لا يظهر على شاشات التلفزيون، ولا توجد أي معلومة تؤكد أنه يشاهد التلفزيون أصلا! لكن كل هذا الزهد والتواضع الذي لا يمكن لأي متابع موضوعي التشكيك به. يمكنه أن “يحكم” بطريقة أو بأخرى السياسة العراقية. وإن ثروة المرجعية المالية التي يقف على رأسها رجل دين زاهد، ليس من أجل فقراء العراق، مع أنها تستحصل في معظمها من أموال العراقيين.
المرجعية موجودة منذ عقود في العراق، وتحديدا في مدينة النجف، وكانت تدير شأنها الفقهي والتشريعي والدراسي وتقبل أموال الزكاة والتبرعات من خارج العراق. لم تصبح دولة بتلك القوة المالية والسياسية إلا بعد عام 2003.
سبق وأن ذكر تقرير لمعهد المجلس الأطلسي الأمريكي أن اقتصادا سياسيا جديدا ظهر، وهو يستند على مجموعة واسعة من المؤسسات المرتبطة بطبقة رجال الطائفة وهو بمثابة كيان حكومي داخل العراق.
استولت مرجعية السيستاني على مواقع ثقافية وتاريخية ومساجد وأدرجتها ضمن املاكها في سياسة الاستملاك الطائفي لماضي العراق.
فهذه المرجعية هي دولة مستقلة عن الدولة العراقية تمتلك القوة والسلطة للتأثير في ما يحصل بالعراق، من إقرار الدستور مرورا بقوانين الانتخابات حتى اختيار شخصية رئيس الوزراء. وتجربة السنين الماضية كشفت لنا بلا مواربة، أن من لا ترضى عليه مرجعية النجف لا يمكن أن يمر إلى رئاسة الحكومة في المنطقة الخضراء.
قبل سنوات كتبتُ عن منزل السيستاني ومن يدخله سيكون أمِنَا على مستقبله السياسي، ومع أن السوداني لم يدخل هذا المنزل، وفق المعلومات الإخبارية المنشورة، لكنه يحظى برضا المرجعية وإلا لما سمح له بالمرور إلى المنطقة الخضراء، وهو أيضا لا يفرط بأي فرصة يظهر فيه انصياعه التام إلى مرجعية فقهية وإظهارها بموقع المرشد السياسي الأعلى لقرارات حكومته، لذلك أتت دعوته وهو في نيويورك، تحت ذريعة “استجابة لدعوة المرجعية الرشيدة”!!
دعونا نبحث عن “الرشد” في كل ما صدر من المرجعية منذ عام 2003 وإلى اليوم، علنا نكتشف دولة مختلفة عن العراق الحالي الذي يتبوأ أعلى مراتب الفساد على مستوى العالم!
هكذا تستمر التراجيديا الطائفية والسياسية في العراق، بمجرد أن يكون مصدر كل ما يحدث قبو يعيش فيه رجل دين إيراني في التسعينات من عمره، قوي ورابط الجأش بعزلته وانقطاعه عن العالم، مع أنه مؤثر بقوة فيه!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى