الأمراض السرطانية والتنفسية تفتك بسكان المناطق القريبة من الحقول النفطية
يمثل التلوث البيئي في البصرة تهديدًا كبيرًا للسكان حيث تؤدي عمليات استخراج وتكرير النفط وما يرافقها من إحراق للغاز المصاحب إلى انبعاثات سامة تسهم في زيادة معدلات الأمراض القاتلة في المدينة الغنية بالنفط جنوبي العراق.
البصرة- الرافدين
تتصدر البصرة قائمة أكثر مدن العراق إصابة بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية لدى الرضّع فضلًا عن الأمراض التنفسية جراء مخلفات الحروب والتلوث البيئي الذي يعد حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط سببًا رئيسًا من أسبابه.
وعلى الرغم من انضمام العراق عام 2017 إلى مبادرة عالمية أطلقها البنك الدولي تقضي بوقف حرق الغاز بحلول 2030 إلا أنه لا يزال ثاني أكثر دولة تحرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط عالميًا.
وتظهر الكثير من الحالات المرضية في مناطق جنوبي العراق بالقرب من مدينة البصرة، وتحديدًا في المناطق السكنية القريبة من حقول القرنة والرميلة والزبير وحقول أخرى، التي تُسجل فيها أكثر النسب ارتفاعًا لحرق الغاز حول العالم.
ولم يكن الأب الأربعيني حسن عبد الأمير يعلم أن الحقول النفطية المحيطة بمنطقة سكنه يمكن أن تتحول إلى وبال وشر مستطير عليه وعلى عائلته وأطفاله، فهو يسكن في منطقة الشرش الواقعة إلى الجنوب من مركز قضاء القرنة، التي تحيط بها ثلاثة حقول نفطية ضخمة.
وكان حسن يأمل أن توفر تلك الحقول خيرًا وفيرًا وحياة مرفهة وعيشًا هانئًا له ولأبنائه وأهل منطقته، غير أن الأمور جاءت على عكس ما كان يتمنى ويتوقع، فقد أصابه شرها بالمباشر، وتسببت الغازات المنبعثة منها واشتعالات النار التي لا تنطفئ ليلاً ونهاراً فيها، بإصابة أولاده بصحتهم، فحولت جسدي ابنه فاضل وابنته فاطمة إلى اللون الأسود وملأتهما بالقروح والانتفاخات، بعدما أصابهما مرض غريب ونادر عجز الأطباء عن تشخيصه وعلاجه، في حين تقرحت عينا أمهما حزناً عليهما، فقد حرم هذا المرض الطفلين من متعة الطفولة ولذة الدراسة والصداقة واللعب مع أقرانهم من الأطفال.
ويحمّل حسن وهو موظف متقاعد لأسباب مرضية، انبعاثات حقول غرب القرنة، مسؤولية المآل الذي آل إليه ولديه، ويؤكد أن الأدوية التي يتناولانها لا فائدة منها، وأنها علاج موقت.
ويعزو تقرير مسرب من وزارة الصحة العراقية زيادة بنسبة 20 بالمائة في حالات السرطان في البصرة بين عامي 2015 و2018 إلى تلوث الهواء، بما في ذلك الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط.
ووفقًا للقوانين النافذة في العراق فإن من حق المواطن أن يعيش في بيئة آمنة نظيفة خالية من كل الملوثات إلا أن سكان المناطق القريبة من الحقول النفطية، يعانون الأمرين وهم في الحقيقة يقيمون على أراضيهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولا يمكنهم تركها أو هجرها، وبذلك تحولت النعمة التي كانوا يأملون منها كل خير إلى نقمة لا يمكن تحملها
ويتحدث مواطن آخر يسكن بالقرب من حقول القرنة واسمه وجود الصافي عن آلامه بعدما خسر خمسة من أفراد عائلته، فيما يعاني ثلاثة آخرون من مرض السرطان.
ويتساءل وجود “كيف يمكن لوزارة النفط أن تدفع 300 ألف دينار سنويًا لأشخاص محددين وهي لا تكاد تكفي لشراء علاج لأيام معدودات؟”.
ويتابع “أين هي قطع الأراضي التي وعدتنا بها الحكومة؟ لا نريد أن نسكن في تلك الأراضي نريد أن نبيعها ونشتري بها علاجاً”.
ويوجه إلى السلطات في البصرة عتبًا، لأنها لم تبنِ مستشفى في قضاء القرنة يمكن معالجة الإصابات فيها، مما يضطر الأهالي إلى قطع عشرات الكيلو مترات للذهاب إلى أول مركز قريب إليهم في مدينة البصرة، لتلقي العلاج أو الجرعة الكيمياوية المطلوبة.
ويسأل أيضًا “ما هو السر العجيب في أن يتم التحذير من دخان السجائر ولا يتم التحذير من فليرات أو شعلات النفط المجاورة لمناطقنا في وقت تصمت فيه وزارتي الصحة والبيئة عن مخاطر التلوث؟”.
وبحسب تقارير صادرة عن وزارتَي الصحة والبيئة، فإن المعدل السنوي للإصابة بأمراض السرطان في العراق يبلغ 2500 حالة إصابة، لكن الواقع يشير إلى أكثر من ذلك بكثير، إذ إن عدد مرضى السرطان في المستشفيات أضعاف هذا الرقم.
ولا تملك الجهات الرسميّة المتخصصة في العراق أرقامًا دقيقة لعدد مرضى السرطان، إلا أن بعض التقارير الدولية تتحدث عن أعداد مرتفعة، حيث سجلت البصرة وحدها أكثر من ألف إصابة بالسرطان عام 2023 فضلًا عن ارتفاع نسبة أمراض الرئة مقارنة بالمحافظات الأخرى.
وفي قضاء الدير الواقع شمال البصرة حيث يقع حقل نهران بن عمر، يعيش رغد جاسم وهو منتسب في وزارة الداخلية وأب لـ 5 بنات ظروفًا مأساوية بعدما تحول هو الآخر إلى ضحية من ضحايا نيران الحقول، فقد أصيب بانتفاخات وإمساك مزمن وحين راجع الجهات الصحية تم تشخيص حالته المرضية بالزائدة الدودية، وتم استئصالها بعملية جراحية، غير أن آلامه لم تختف، فراجع الأطباء مرة أخرى، الذين أكدوا له هذه المرة إصابته بسرطان القولون، فأُجريت له عملية أخرى واستأصل 83 سم من القولون.
وهنا بدأت رحلة رغد مع المعاناة والمرض والألم، متنقلٍا بين العراق وإيران ولبنان منذ عام 2021 بحثٍا عن علاج أو جرعة كيمياوية، يضاف إليها مصاريف لا طاقة له بها، ومنها أن كل جرعة كيمياوية ثمنها مليونان و100 ألف دينار، فضلاً عن الفحوصات ما بين تحاليل الدم وصور الرنين والأشعة والناظور والمفراس وغيره.
وعلى الرغم من انتهاء المرحلة الأولى من رحلة المرض، لكن بعد العام 2023 عاد الألم مرة أخرى، فسافر رغد إلى الخارج، لإعادة إجراء الفحوصات المطلوبة، التي أظهرت وجود انسداد وورمين، مما أدخله مرة ثانية في دوامة العلاج.
ويتمنى رغد حاليًا، أن يتعافى بسرعة، ليتمكن من رعاية بناته الخمسة ويوفر لهن العيش الرغيد.
ومن نهر عمران في قضاء القرنة شمال البصرة، إلى الزبير في غرب البصرة حيث تنتشر الحقول النفطية وتحديدًا في منطقة الشعيبة، حيث يسكن المواطن هادي خطار مرغمًا، قرب الآبار النفطية بسبب طبيعة عمله.
ويعاني الرجل من ويلات السكن بالقرب من الحقول النفطية بعدما فقد زوجته الأولى وهي أم لستة أطفال نتيجة إصابتها بالسرطان، قبل أن يتزوج من سيدة أخرى تبين فيما بعد إصابتها بسرطان الثدي، وهي تتابع العلاج الآن بانتظام.
ويتحلى هادي بالكثير من الهدوء والبساطة مما يجعله لا يناشد ولا يطالب بشيء سوى توفير العلاج.
ووفقًا لدراسة متخصصة فإن الكثير من الشركات الأجنبية، لا سيما الأوروبية منها، تمارس حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط في العراق، على رغم من أن هذه الشركات ملتزمة بقوانين صارمة في بلادها وتلتزم باللوائح والإجراءات المتعلقة بالاستدامة وهي ملتزمة بمبادرة البنك الدولي.
ويعد حقل الحلفاية الواقع على بعد 200 كلم من البصرة والذي تملك فيه شركة “توتال إنرجيز” 22.5 بالمائة من حصص الإنتاج أحد أكثر حقول العراق حرقًا للغاز فضلًا عن كونه أكثر الحقول تلوثًا من بين الحقول التي تملكها الشركة الفرنسية.
وعلى مدى العقد الماضي، بلغ مستوى الحرق الإجمالي في حقل الحلفاية نحو 9 مليارات متر مكعب، وأطلق الحقل نحو 23 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون، منها 3 ملايين في عام 2022 وحده.
ويقول كاظم دينار الذي يعيش في قرية المعيل بالقرب من حقل الحلفاية، إن “ابنه جلال أصيب بسرطان الغدة الدرقية وتم استئصالها”.
وبحسب دينار، فإن “الأطباء يرجعون سبب الإصابة المحتمل إلى الهواء الملوث بسبب حرق الغاز”.
وسبق أن أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمًا وثائقيًا بعنوان “تحت السماء المسمومة” Under Poisoned Skies والذي أظهر ممارسة شركات النفط الأجنبية، لا سيما شركة BP البريطانية لإحراق الغاز الزائد بالقرب من المناطق السكنية.
وتناول الفيلم قصة الشاب علي حسين جلود الذي استند فيما بعد والده إلى ما ورد في الفيلم كدلائل في شكواه ضد الشركة التي يحملها مسؤولية وفاة ابنه.
ووفقًا للفيلم، تطلق عملية استخراج النفط العديد من المواد المسرطنة، مما يرتبط بزيادة مثيرة للقلق في حالات الإصابة بسرطان اللوكيميا، لاسيما بين الشباب.
وبعد تحقيق (بي بي سي)، تم اكتشاف تركيزات عالية خطيرة من البنزين، والمعروف بأنه مادة مسرطنة، في الهواء وتتجاوز الحدود المقبولة بكثير.
ومن اللافت للنظر أن اختبارات البول للأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع الحرق أظهرت أن 70 بالمائة منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين، وهو من المواد الكيميائية المسرطنة.
ويؤكد منتج فيلم “تحت السماء المسمومة” أوين بينيل، أن “الفيلم كشف دور شركات النفط الدولية بما في ذلك BP في حرق الغاز السام على بعد مئات الأمتار فقط من المناطق السكنية في العراق”.
وتابع بينيل “صحافتنا تطرح أسئلة صعبة وتحمل كل من الشركات والحكومة في العراق المسؤولية عن الحرق العشوائي للغاز، الذي له عواقب بيئية وصحية خطيرة”.
وأوضح أن “الشركات النفطية الدولية والحكومة لا تنشر بيانات عن مستويات المواد الكيميائية السامة المنبعثة من حرق الغاز لذلك، أجرينا اختبارات ووجدنا أن هناك مستويات عالية من المواد الكيميائية المسرطنة في الهواء وفي عينات بول الأطفال الذين يعيشون بالقرب من مواقع استخراج النفط”.
وأضاف “تم إبلاغنا عن أن عائلة علي بدأت قضية قانونية ضد BP بشأن حرق الغاز في العراق، وأنها تستخدم بعض الأدلة المقدمة في الفيلم كأساس لهذه القضية”.
وبين منتج فيلم “تحت السماء المسمومة” أوين بينيل إنه “كان من الصعب تصوير المجتمعات القريبة من مواقع الحرق، حيث تعرضنا بشدة للتلوث. وفي إحدى المناسبات، هبَّت الرياح جالبةً دخان الغاز المحترق باتجاهنا”.
وتابع “جهاز مراقبة التلوث المحمول الخاص بنا أطلق تحذيرًا من مستويات البنزين الخطرة، ولكن كان من الواضح من الرائحة في الهواء أن التنفس لم يعد آمناً ولحسن الحظ بالنسبة لنا، تمكنا من مغادرة المنطقة، ولكن العائلات التي تعيش هناك مجبرةٌ على استنشاق هذا الهواء السام يومًا بعد يوم”.
ويكمل بينيل القول إننا “في جميع المناطق التي أجرينا فيها مراقبة التلوث، وجدنا تركيزات عالية من البنزين المسرطن، تصل إلى 9.7 ميكروغرام لكل متر مكعب ومن الجدير بالذكر أن هذا هو متوسط لمدة أسبوعين، لذا في بعض الأيام قد تكون مستويات البنزين أعلى بكثير”.
ويشير بينيل، إلى إنه “بالنسبة لعينات البول، نظرنا في مادة كيميائية مسرطنة أخرى، وهي النفثالين وأن النتائج أظهرت أن 70 بالمائة من الأطفال الذين أخذنا عينات منهم لديهم مستويات عالية من النفثالين في البول، مما يشير إلى فرصة أكبر لحدوث تشوهات يمكن أن تؤدي إلى السرطان”.
وأكمل قائلًا إن “قصة علي أصبحت جزءًا مهمًا من فيلمنا حيث إن مذكراته المصورة أعطتنا نظرة حميمة على الحياة في الرميلة، وهي بلدة داخل حدود أكبر حقل نفطي في العراق والممنوعة من دخول الصحفيين إليها”.