إيران وإسرائيل في الميزان: قراءة تحليلية
لابد من القول بإن حقائق الجغرافيا والتاريخ والعقيدة الدينية، قد جعلت من الصعب علينا أن نضع إيران في الكفة المقابلة لإسرائيل في نفس الميزان. فهذه الأخيرة كيان طارئ على المنطقة تحققت له الحدود المادية والمعنوية باغتصاب أرضنا وتهجير شعبنا، ومازال يوغل في قتلنا ويحرمنا من حقوقنا ويُصادر مستقبل أجيالنا منذ أكثر من سبعة عقود ولحد الآن. بينما إيران هي أبنة الحقائق التاريخية والجغرافية لهذه المنطقة، ثم جاء الإسلام ليضيف رابطة جديدة بين شعبها وشعوب المنطقة. وقد تعزز التلاحم الفكري والثقافي بين العرب والفُرس في العصور الإسلامية اللاحقة، من خلال إضافات المفكريين والفلاسفة والفقهاء وعلماء اللغة الذين جاءوا من بلاد فارس وأستوطنوا بيننا. وهذه كلها حقائق لا يستطيع أحد أن يتجاهلها أو يغض النظر عنها حاضرا أو مستقبلا.
أما لو نظرنا إلى ممارسة السلوك السياسي في المنطقة لكلا الطرفين، إسرائيل وإيران، فتكاد كفتي الميزان تتعادلان تارة، أو تميل كفة على حساب أخرى في بعض الأحيان. بمعنى أن إيران تتغلب في بعض الأحيان في سلوكها السياسي العدواني والبغيض على أمتنا العربية على السلوك السياسي الإسرائيلي الموجه ضدنا، حتى تبدو إسرائيل كحمل وديع أمام الفعل السياسي الإيراني. والعكس صحيح أيضا حيث تبدو إيران في بعض الأحيان كملاك طاهر أمام الفعل السياسي الإسرائيلي ضد شعبنا. وقد أنتج هذا الفعل أضطرابا في الرؤية والتفكير لدى الكثير من المراقبين العرب والعامة أيضا. لذلك فالكثير منهم ينطلقون في تقييم الفعل الإيراني والفعل الإسرائيلي في المنطقة كل من زاوية تأثره، وليس من زاوية القيم الأخلاقية ومنظومة القوانين الدولية. فتجد مُقدّم البرنامج في أحدى الفضائيات العربية يسأل الضيف عن تقييمه للوضع في لبنان في ظل العدوان الإسرائيلي على هذا البلد، وتكون الأجابة سيلا من الثناء والشكر والمديح لإيران وحزب الله، فيصرخ به مقدم البرنامج “يا أخي أنا اسألك عن الوضع في لبنان وليس تقييم إيران”. في حين يذهب ضيف آخر لكيل الكثير من الشتائم والأتهامات الى إيران وحزب الله متهما إياهم بتسببهم بالوضع الحالي في لبنان حسب رأيه، متمنيا على إسرائيل القضاء التام على النفوذ الإيراني في المنطقة. ولا غرابة في ذلك فالبشر مسكونون بالحاضر فقط. ومايُقال عن هؤلاء يُقال عن العامة أيضا. ألم يخرج البعض للاحتفال بأغتيال زعماء حزب الله من قبل إسرائيل؟ ألم يخرج البعض للتهليل للصواريخ الإيرانية المنطلقة ضد إسرائيل؟
أن السلوك السياسي الإسرائيلي قد بُني على العدوانية والهمجية والقتل والتهجير ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لأنه عدوان استيطاني ليس بينه وبين المحيط أية رابطة، وهو مسكون بالخوف من المستقبل. لكنه ينحو للتبشير بالحياة السعيدة والتقدم الذي سيلف المنطقة في حالة القبول به وإقامة علاقات طبيعية معه، كما بشّر بذلك بنيامين نتنياهو عدة مرات وآخرها في خطابه أمام أجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة. كما يُبشّر دائما بأن هذه الدولة العربية أو تلك سوف تنضم قريبا الى قائمة المُرحبين بوجوده، ظنا منه أن ذلك قد يُدغدغ غرائز المواطن العربي. وهذه حالة تشبه الى حد كبير الفايروس الذي يستوطننا، فيتحوّر في كل مرة لمقاومة الدفاعات التي تقوم بها أجسادنا كي يبقى موجودا. أيضا هو نوع من الهُراء السياسي الذي لايستقيم مع السلوك الفعلي الإسرائيلي، الذي نشاهد وقائعه اليومية على الأرض في فلسطين المُحتلة وفي غزة خاصة منذ السابع من تشرين الأول “أكتوبر” وحتى اليوم، حيث التهجير والترويع والتجويع والتدمير والتعذيب والقتل المُمنهج، حتى وصل عدد الشهداء الى أكثر من أربعين الف شهيد من الأطفال والنساء والرجال كلهم أبرياء عُزّل. كما تتوالى التصريحات الصادرة عن زعماء الإحتلال سياسيين وعسكريين ورجال دين بأن إسرائيل باقية وتتمدد، وأن خارطتها الجغرافية الحالية ليست خارطة فلسطين المُحتلة وحسب بل تمتد لتشمل معظم البلاد العربية. كما يؤكد هذا المنطق إن إسرائيل هي الكيان السياسي الوحيد في العالم الذي لاتُعرف له حدود مُعينة، لأنه مسكون بالتوسع والاستيطان وبسرديات دينية لا أساس لها على حساب الأخرين.
أما السلوك السياسي الإيراني فيكاد يكون نسخة عن السلوك السياسي الإسرائيلي. وهذا ليس وصفا للمرحلة الحالية وحسب بل بات هكذا منذ عقود طويلة من الزمن. هو هكذا كان في زمن نظام الشاه وبقي هكذا حتى عندما جاء شاه آخر بعمامة سوداء. فالشاه الذي حل في العام 1979 لديه مشروع مذهبي تقسيمي، يهدف إلى إضعاف كل الكيانات المهمة في الوطن العربي من خلال نشر وكلائها فيها، الذين هم عبارة عن شركات أمنية تابعة لطهران من دين ومذهب واحد تحت عباءة ولاية الفقيه. وهي قوى محلية في كل بلد حيث الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق . وتُدار هذه الميليشيات لخدمة الأهداف الجيوسياسية الإيرانية التي وضعها المرشد الأعلى، ويتولى زمام القيادة والتوجيه والتخطيط والتدريب فيها الحرس الثوري الإيراني بقيادة إسماعيل قاآني الغائب عن الساحة هذه الأيام. يضاف إلى هذه الميليشيات شبكات عالمية وخلايا نائمة تستعمل عند الحاجة. وعندما نضع في الأعتبار أن هذه القوى الميليشياوية جميعها مرتبطة مع المنظومة الإقليمية العسكرية الإيرانية، فأن ساحات لبنان والعراق واليمن وسوريا سوف تكون هي المسارح الأساسية لتحقيق نظرية الأمن القومي الإيرانية. كما أن أنعكاس ذلك سيكون على أية إستراتيجية دفاعية وطنية متخيلة، والتي أصبحت صعبة المنال أو حتى مستحيلة في هكذا وضع. كذلك سيكون الأنعكاس السلبي هو على القوى الأمنية الشرعية وكل مؤسسات الدولة.
قد يقول قائل بأن إيران ومن خلال تسليحها وتمويلها لهذا الطرف أو ذاك قد حققت لهم حالة من الردع أنما هو واهم. نعم قد يستفيد هذا الطرف من ذلك جزئيا، لكن استغلال هذا الردع سيكون من قبل إيران كما حدث في حرب تموز 2006. آنذاك أستفاد لبنان من الردع المكتسب لكن إدارة هذا الردع كانت من قبل إيران عبر حزب الله. فإيران ليس لديها مشكلة مع إسرائيل، وهذه الأخيرة ليس لديها مشكلة مع إيران كذلك، فصراعهما قائم على الدور المستقبلي في أي نظام أقليمي جديد، حيث يبحث كلاهما في تعزيز وتقوية حدود نفوذهما في المنطقة كل على حساب الأخر.
أذن هل نستطيع أن نضع إسرائيل وإيران في كفتين متعادلتين في ميزان واحد؟ الجواب نعم يمكننا ذلك أن تجاهلنا الجغرافية والتاريخ والعقيدة الدينية، وهذا مستحيل لأن العوامل هذه خارج أرادتنا. لكن يمكننا القول بإن إيران وإسرائيل في السلوك السياسي هما من نفس النسيج.