هل غيرت أمريكا نظرتها الإستراتيجية لإيران؟
تظهر مجريات الصراع الجاري حاليا في الشرق الأوسط، أن الولايات تقف في موقع الرافض لأي مساس بمعالم قوة وقدرة إيران وأن الولايات المتحدة لا تزال تحافظ على رؤيتها –ومن قبل الرؤية البريطانية المؤسسة لإيران الحديثة –بأن بقاء إيران قوية هو أحد عوامل نجاح الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة روسيا من جهة وفي مواجهة العالم العربي- الإسلامي من جهة أخرى.
لقد تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن ليومين متتالين، ليعلن رفضه استهداف الكيان الصهيوني للبرنامج النووي الإيراني، ورفضه لاستهداف منشآت الطاقة والغاز. وجاء هذا الموقف، امتدادا وتأكيدا على الخلفية الإستراتيجية التي انطلقت منها خطة الولايات المتحدة في زمن حكم باراك أوباما، وأدت إلى الإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجزة وعلى توقيع اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. ومن قبل على الرؤية التي وضعت في زمن جورج بوش الابن، ونتج عنها تسليم العراق إلى إيران بعد غزوه واحتلاله.
لقد لعب البريطانيون دورا رئيسيا في تشكيل إيران التي نعرفها الآن، ووصل الأمر أن قامت بريطانيا بضم المناطق النفطية ومناطق الغاز إلى الجغرافيا الإيرانية عبر إنهاء استقلال إمارة الأحواز والقبض على حاكمها خزعل الكعبي، وضم أراضي هذه الإمارة لإيران.
كانت الرؤية البريطانية متحصنة بتاريخ إيران الفارسية في مواجهة دولة الخلافة العثمانية كخنجر في ظهر جهدها الإستراتيجي في الصراع مع أوروبا، واستهدفت في ذلك عدم تركيز نفط الشرق الأوسط بأيدي الدول العربية، كما نظرت بريطانيا باهتمام كبير لدور إيران في مواجهة العدو الروسي اللدود لبريطانيا.
وعقب الحرب العالمية الثانية ظهر اعتماد الولايات المتحدة للرؤية البريطانية في إدارة الصراعات في المحيط الإيراني، من خلال طلب الولايات المتحدة وبريطانيا خروج القوات الروسية من شمال إيران كليا، ومن خلال ضخ الأسلحة الأمريكية لنظام الشاه ودعمه سياسيا.
لم تكن تركيا وحدها حد المواجهة بين الاتحاد السوفيتي والغرب، بل كانت إيران أيضا وإذ يعود الاهتمام والتركيز على الدور التركي في مرحلة الحرب الباردة كأول أمتار المواجهة المباشرة بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو، فواقع الحال أن سيطرة الغرب على إيران لم يكن أقل أهمية، إذ نظر الغرب لإيران باعتبارها حاجزا جغرافيا بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي، والأهم أن نظرا لها كنقطة انطلاق للضغط بالاتجاه الجنوبي للاتحاد السوفيتي وروسيا من بعد، حيث جنوب روسيا منطقة رخوة ونقطة ضعف للجغرافيا الروسية، مقارنة بأوضاع الشمال الغربي لروسيا.
وإذ جرى النظر للتغيير الحادث في إيران بعد وصول الخميني للسلطة، باعتباره تحولا وابتعادا عن الدور الوظيفي الذي لعبته إيران الشاه في داخل الإستراتيجية الغربية، فقد أظهرت تجربة الحرب الإيرانية على العراق، ومن بعد الدور الإيراني في تدمير وتفكيك البنى الاجتماعية في هذا البلد وكذا الدور الإيراني في اليمن وسوريا، أن الدور الوظيفي لإيران قد تعمق وزاد تموضعه في داخل الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة.
وجاءت التحولات في تركيا لتظهر أهمية الدور الإيراني مجددا باتجاه هذا البلد. لقد نمت حالة استقلال حضاري في تركيا وصارت مدعومة بتنامي القدرات العسكرية والاقتصادية، بما أكد على ضرورة بقاء إيران قوية لتعيد تكرار دورها الفارسي في مواجهة دولة الخلافة، حيث لا توجد دولة أخرى قادرة على القيام بهذا الدور في مواجهة تركيا.
ولذا؛ يظهر الرئيس الأمريكي موقفا رافضا لإضعاف إيران. لكن ذلك لا يعنى أن الولايات المتحدة لا ترغب في تعديل النظام السياسي الإيراني أو تعديل سلوكه وإعادة توجيهه في لحظة ما. بل حتى تغييره، ولنا في سابقة تغيير نظام الشاه نموذجا، إذ كان الغرب من لعب اللعبة بكامل أبعادها. وقد نكون أقرب إلى نقطة التحول تلك، سواء ليحل الكيان الصهيوني بنفوذه ودوره في الدول التي فككتها ودمرتها إيران، أو لأن حسابات الدور الإيراني باتت تحتاج إلى إعادة ضبط على صعيد دور الميليشيات، أو الشركات الأمنية الإيرانية في الدول العربية في الصراع على الدور والنفوذ في المنطقة. كما الأمر وارد في ضوء التغييرات الجارية في توازنات الوضع الدولي، بما يغير من دور الدول الوظيفية التابعة أو المنفذة للأدوار التكميلية في الإستراتيجية الأمريكية.
لكن هذا التغيير شيء، والإبقاء على قوة وقدرة إيران شيء آخر. فكل دور مستجد لإيران، يتطلب أن تظل طهران قوية. والفارق بين الأمرين هو ما يرسم صورة المشهد الخلافي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، الذي لا يرى إلا تحت أقدامه، ولا يتناغم مع الرؤى الأمريكية البعيدة المدى.
فالصهاينة تحكمهم عقدة الخوف، فيما الأمريكيين لديهم من القوة ما يجعلهم واثقين من القدرة على التدخل في الوقت المناسب وبالطريقة التي تعيد ترتيب أوراق حلفائهم، ومن قبل من بعد، أوراق وملامح ومخططات الدول التي تلعب أدوارا وظيفية في خدمة إستراتيجياتهم العليا.
والقصة المثيرة الآن، هي أن الكيان الصهيوني يجد في حالة الاضطراب النسبية التي تعيشها الولايات المتحدة –لأسباب خارجية وداخلية- فرصه لتغليب رؤيته على الرؤية الأمريكية.
فهل هذا ممكن؟