الفساد يبدد أموال الحنطة في العراق ويزاحم العراقيين في خبزهم وقوت يومهم
العراق يتكبد خسائر ضخمة تقدر بنحو نصف مليار دولار جراء الفساد في عمليات تسويق الحنطة بعد شراء السلطات كميات كبيرة تفوق قدرة البلاد على تخزينها والاستفادة منها وسط حديث عن عمليات فساد ممنهجة تستغل السعر المدعوم للمحصول بالمقارنة مع سعره العالمي.
بغداد – الرافدين
أعادت تقارير صحفية ملف فساد الحنطة إلى واجهة عمليات الفساد المستشرية في العراق مجددًا بعدما رصدت فائضًا ضخما في محصول الحنطة يكبد الدولة العراقية خسائر كبيرة في موازاة ما تكبده الطرق الاحتيالية الأخرى في عمليات التسويق لاسيما الحنطة المستوردة بسعر بخس وبيعها للدولة بالسعر المدعوم خلال موسم التسويق.
وكشفت حسابات أجرتها وكالة رويترز تتعلق بمحصول الحنطة الوفير في العراق الذي بلغ فائضه 1.5 مليون طن لهذا العام بصافي خسارة يقدّر بنحو نصف مليار دولار في بلد يعد أحد أكبر مستوردي القمح في منطقة الشرق الأوسط.
ووفقًا للحسابات التي استندت إلى أرقام رسمية ومحادثات مع أكثر من عشرة مسؤولين حكوميين ومزارعين وأصحاب مطاحن ومصدرين، فإن السلطات الحكومية ستتكبد خسارة قدرها 458.37 مليون دولار، بمجرد أن تدفع للمزارعين، على افتراض أنها تمكنت من بيع الفائض إلى المطاحن الخاصة في العراق بسعر متفق عليه.
وبين التقرير أن تلك الخسائر ناجمة عن فرق السعر إذ تشتري السلطات الحكومية طن الحنطة من المزارعين بـ 850 ألف دينار، بينما تعرض سعر الطن لأصحاب المطاحن بـ 450 ألف دينار للطن، وربما يتم تقليل هذا السعر ما يعني خسائر أكبر تتكبدها الدولة.
وسبق أن استغرب مراقبون ومختصون من استمرار موسم تسويق الحنطة في السايلوهات الحكومية حتى منتصف شهر تموز الماضي في وقت انتهى فيه حصاد المزارعين من المحصول وسط حديث عن استفادة مافيات من استمرار عمليات التسويق بعد جلبهم الحنطة من الخارج للاستفادة من فارق السعر بينها وبين الحنطة المحلية فضلًا عن تلك المتضررة التي يعاد تدويرها وإدخالها للمخازن بطرق احتيالية.
وتحول تسويق محصول الحنطة إلى باب للثراء الفاحش وفرصة مثالية لنهب المال العام من قبل متنفذين ومكاتب اقتصادية للميليشيات عبر طرق احتيالية تهدد سلامة العراقيين وأمنهم الغذائي.
وتتمثل ممارسات الاحتيال في مواسم تسويق الحنطة بعدة أشكال، من بينها إعادة تسويق حنطة المواسم السابقة او المخزونة، أو تهريب الحنطة من خارج البلاد بأسعار مناسبة وإعادة بيعها على الدولة بسعر 850 الف دينار مقابل الطن الواحد بما يفوق أسعار المحصول عالميًا للاستفادة من سعر الدولة المدعوم.
ويتسبب السعر المرتفع والمدعوم الذي تدفعه الدولة مقابل طن الحنطة، والذي يفوق الأسعار العالمية لسعر الحنطة، بنشاط عمليات الاحتيال والفساد، بسبب العائدات المالية الكبيرة في وقت رجحت فيه وزارة التجارة أن تبلغ كلف شراء الحنطة من الفلاحين نحو ستة ترليونات و630 مليار دينار عراقي، أي ما يزيد عن 5 مليارات دولار.
ويؤكد مصدر من داخل وزارة التجار أن من يشرف على عملية الفساد هذه مجموعة من التجار ورجال الأعمال ممن يرتبطون بالمكاتب الاقتصادية للميليشيات عقب استيرادهم محصول الحنطة التي تصل سعرها إلى 400 دولار للطن أو ما يعادل 500 الى 600 ألف دينار عراقي في أحسن الأحوال وإدخالها عبر التهريب إلى العراق، ومن ثم الاصطفاف أمام السايلوهات لبيعها للدولة في موسم التسويق بالسعر الرسمي على انها حنطة من إنتاج محلي في تواطؤ مع الجهات المسؤولة لتسهيل عملية الاستيراد والتسويق.
ويبين المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه ومنصبه أن هؤلاء التجار ومن يقف خلفهم يحققون ربحًا لايقل عن 250 الف دينار عراقي لكل طن.
ويشير المصدر إلى أن الأرباح المتحصلة من بيع مليون طن على سبيل المثال للدولة من خلال الحنطة المهربة لاتقل عن 250 مليار دينار في غضون فترة قصيرة وهو ما يدفع بالعديد من المتنفذين إلى الدخول على خط الفساد هذا الذي تحول بمثابة فرصة للتربح سنويًا إضافة إلى عمليات غسيل الأموال.
بدوره يكشف النائب أمير المعموري عن طرق احتيالية أخرى تمارسها المافيات تتعلق بملف تسويق الحنطة وعمليات الاحتيال والفساد التي تُمارس لخداع الدولة والاستفادة من الأموال الضخمة المخصصة لشراء الحنطة
ويشير المعموري إلى أنه خلال الزيارات المستمرة لمواقع استلام وشراء الحنطة، تم تشخيص مخالفات عديدة بعمليات الاستلام، وواحدة من تلك الأمثلة هو ان أحد المخازن في بابل استلم كميات من الحنطة وعند إتمام فحصها من قبل اللجنة المرسلة من وزارة التجارة تم اكتشاف ان هذا المحصول ليس محصول العام الحالي بل يعود إلى سنوات سابقة وكان مخزونا طوال تلك المدة.
ولفت المعموري إلى إنه “في حال كانت النقاوة أقل من 95 بالمائة و الرطوبة اقل من 6 بالمائة للحنطة عند خضوعها للفحص فإن هذا يعني أن هذه الحنطة تعود لسنوات سابقة، وهي أما خرجت من مخازن الدولة ذاتها وذهبت لمخازن أخرى للمتاجرة بها، او انها مهربة من الخارج، للاستفادة منها.
وتساءل “كيف دخلت او تدخل هذه الأنواع المشبوهة من الحنطة الى المخازن في الوقت الذي من المفترض ان هناك مراقبًا حكوميا متواجدًا في الحقل وعندما يتم تحميل الشاحنة بالحنطة يتم قفلها بأقفال خاصة لايمكن فتحها الا في مخازن او سايلوهات التسويق، فكيف عبرت هذه المسألة على جميع اللجان ودخلت هذه الحنطة”.
وفي حالة أخرى، أوضح المعموري أنه “عندما ذهبنا الى مخازن الصويرة، وجدنا حنطة حمراء، يعني حنطة معفرة مسمومة تم استقبالها مع كميات الحنطة الأخرى السليمة”.
وبين أن “الحنطة الحمراء معناها انها مستلمة من الدولة وتم شراؤها مسبقًا، فكيف خرجت من المخازن وتم بيعها الى الحكومة مرتين”.
وأكد المعموري أن “بعض الشركات التابعة لوزارة التجارة أخفت هذه الإحالات بطرق مبتكرة، عبر إخفاء المادة المعفرة وتبديل الأقفال وغيرها من الإجراءات”.
وكشف كذلك عن حالة أخرى بعد العثور على حنطة تالفة في شهر شباط 2024 في أحد المخازن تبلغ قيمتها 15 مليار دينار وتحتوي على إصابة حشرية نتيجة الخزن غير صحيح.
وبين النائب البرلماني أن “المسؤولين كافحوا الإصابة الحشرية بيوم واحد وأخرجوا الحنطة في شهر آذار 2024 باسم أحد الفلاحين لبيعها وتسويقها إلى مخازن أخرى”.
وتحتاج السوق المحلية سنويًا حوالي 4.2 مليون طن لتحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول الحنطة ويضاف نحو مليون طن مستورد يخلط لأغراض الجودة مع القمح المحلي الذي لا تتوفر فيه مادة الجلوتين بالنسبة المطلوبة، وفق وزارة التجارة.
وبلغت كمية الحنطة المسوقة، خلال العام الماضي، 4.2 مليون طن بالمقابل بلغت كمية الطحين والحنطة المستوردة من تركيا واستراليا وأمريكا، 2.1 مليون طن وبلغ معدل الطحين في السوق المحلية 1420 دينار للكيلو غرام الواحد.
وتتيح الحكومة الفرصة لأصحاب النفوذ باستغلال معاناة الفلاحين من خلال شراء الحنطة بأسعار أقل بكثير من المزارعين، ويقومون هم بتسويقها باستخدام نفوذهم السياسي والمناطقي وتحقيق أرباح طائلة على حساب المزارع العراقي.
وسبق أن طالبت منظمات مختصة الجهات الحكومية بضرورة وضع استراتيجية استثمارية لزيادة سعات أماكن الخزن (السايلوات) والمطاحن حتى تتلاءم مع حجم القمح المسوق سنويًا في خطوة للتخفيف على الفلاح العراقي.
وحذرت مؤسسة “عراق المستقبل” للدراسات والاستشارات والاقتصادية، من عمليات تهريب القمح إلى العراق بعد تراجع سعر الطن الواحد في الأسواق العالمية مقارنة مع ما حددته الحكومة من تسعيرة لتسويق هذه المادة الغذائية الاساسية من المزارعين المحليين خلال الموسم الزراعي الحالي.
وقالت المؤسسة في تقرير لها إن الحكومة قامت بتثبيت سعر الحنطة المسوقة محليًا بمقدار 850 ألف دينار للطن الواحد ما يمثل نحو 90 بالمائة زيادة عن السعر العالمي.
وأشار التقرير إلى أن هذا التخوف يأتي في ظل ضعف السيطرة على المنافذ الحدودية مما يزيد من مخاوف استغلال الفجوة السعرية الكبيرة من قبل المهربين لتهريب القمح وبيعها داخل البلاد وتسويقها للحكومة.
ولا تقتصر معاناة الفلاحين على الطرق الاحتيالية للعصابات في تسويق الحنطة ومزاحمتهم في بيع المحصول وتشمل معاناتهم الأضرار الناجمة عن اندلاع الحرائق بالتزامن مع بداية كل موسم حصاد لمحصول الحنطة في ما يتكبده المزارعون من مبالغ طائلة، والتي عادة ما تنسبها الجهات الحكومية إلى أسباب روتينية غير مقنعة كالتماس الكهربائي أو الانبعاثات الغازية وغيرها، فيما ينسبها مراقبون إلى فعل فاعل يريد إلحاق المزيد من الضرر بالمزارعين.
ويرى الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية في العراق أن استمرار الحرائق مع مواسم الحصاد يقف وراءه من يسميها “الأيادي الخبيثة” التي لا تريد لاقتصاد العراق النمو، سواء كانت من دول الجوار أو من يصفهم بـ”العملاء” من أجل بقائه سوقًا رائجة لبضاعتهم.
ووصف الاتحاد إهمال السلطات الحكومية للقطاع الزراعي بالحرب الجديدة، مبينًا أن الأزمات التي تواجه شريحة الفلاحين تهدد بفقدان إعمالهم ومصادرهم الاقتصادية.