أخبار الرافدين
كرم نعمة

بلير خرقة مبللة بالنفط وليس مصنع مُثل

سألتني مرشحة حزب العمال في منطقتي عن سبب عدم تحمسي لحزبها وأنا لست من الأغنياء في هذه المنطقة التي أعيش فيها منذ أكثر من عقد، وتكاد تكون محجوزة انتخابيا لأثرياء المحافظين والديمقراطيين الأحرار. قلت لأنني لا أريد أن أرى نسخة أخرى من توني بلير على رأس الحكومة! قالت “تماما، نحن أيضا لا نريد بلير آخر على رأس الحزب”.
ماذا حصل بعدها؟ فازت مرشحة العمال التي لم انتخبها في منطقتي، وفاز حزب العمال، لكن بنسخة مخادعة من بلير يمثلها كير ستارمر التلميذ المخلص لنهج بلير!
استعدت تلك المحادثة مع صدور كتاب جديد لتوني بلير بعنوان “عن القيادة: دروس للقرن الحادي والعشرين” يزعم فيه أنه دليل إرشادي للزعماء يقدم جميع النصائح التي تمنى لو عرفها عندما كان رئيسا للحكومة على مدار دورتين! وهو زيف دعائي آخر لبلير الذي عرف في الأوساط البريطانية بالكذاب كصفة متميزة في شخصيته السياسية. أما في الأوساط الدولية فقد اختصر ذلك رفض القس الجنوب أفريقي الراحل ديزموند توتو تقاسم المنصة مع بلير خلال قمة دولية استضافتها جنوب أفريقيا، بسبب “جرائمه وأكاذيبه” حول احتلال العراق.
قال توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984 “تأييد بلير لغزو العراق أمر لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا، وسيكون من غير المناسب بالنسبة لي المشاركة إلى جانبه في هذه المناسبة”.
في حقيقة الأمر، الكتاب -بغض النظر عن قيمته السياسية من عدمها- هو نسخة إعلانية لمؤسسة بلير الاستشارية السياسية التي فتحها بعد مغادرته المنصب، وجمع لحد الآن منها ثروة مليونيه. لقد حصل مثلا من الكويت على 43 مليون دولار كأول زبون لشركته مقابل عقد استشارات بشأن مستقبل الإمارة الغنية بالنفط! وكان هذا العقد المليوني بمثابة رشوة معلنة لموقفه “الرائع والحازم” من أكاذيب احتلال العراق، حتى وصف حينها في وسائل الاعلام البريطانية بـ “الكلب وذيله” فبلير كان الذيل الذي لا يمكن أن ينفصل سياسيا عن بوش.
هذا السياسي العمالي البريطاني يوصف باللاعب البارع بـ “الباب الدوار”، إنه يوحي لك بأنه ينتقل إلى الأمام، لكنه يعود إلى نفس نقطة تحركه!
يصف بلير في كتابه الذي صار موضع مراجعات من قبل السياسيين في الصحافة البريطانية، القيادة بفن غامض وخطير وشديد الأهميّة، ويضع مجموعة مواصفات للسياسي القائد، وبطبيعة الحال ليس “الكذب” أحدها كونه يرفض تأكيد الحقيقة التي التصقت به عن البحث العقيم عن أسلحة الدمار الشامل التي زعم مع بوش بها وكانت إحدى الذرائع التاريخية الشائنة لاحتلال العراق عام 2003.
لا يحب بلير التحدث في تفاصيل هذه الكذبة الخاوية في كتابه الجديد “عن القيادة”، بذريعة أنه سبق وأن تناول ذلك في مذكراته “رحلة” التي صدرت عام 2010! وهكذا يستمر في سياسة “الأذن الصماء” الصلفة كلما أدين بكذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية.
بلير حر في انتقاد نفسه. لكنه ليس حرا عندما يكون الكذاب مصدرا للمُثل السياسية كنصائح ذات قيمة. فهو كان يرى أن السياسة الخارجية الأخلاقية بمثابة الوعد الأحمق الذي كان يطالب به من قبل البريطانيين. وفي العراق وأفغانستان كان متعجرفا بشأن سهولة ترسيخ الديمقراطية في هذين البلدين اللذين أصبحا مثالا تاريخيا للفشل السياسي والفساد والانهيار المجتمعي.
لن يكون مفاجئا أن يصف بعض السياسيين البريطانيين كتاب بلير بـ “الرائع وغير المعتاد” وأن كانوا من حزب المحافظين! فبلير بالنسبة لهم صفقة معاصرة معبرة عن الصلف والغرور البريطاني وفق التعبير الفرنسي.
بلير لا يستطيع أن يحمي أرثه الذي أصبح كخرقة بالية مبللة بالنفط، فالحقائق تظل حقائق. ولكن اللون، والتفسير، وتأطير الدوافع والتأثيرات، كل هذه هي الأحكام، ولن تكون في النهاية مؤثرة عندما يخلص التاريخ لجوهره. وبلير مدان ليس بالكذب وحده، بل ما ترتب عليه من مقتل أكثر من مليون عراقي وتدمير وطن، بيد أنه مازال مصرا على أنه مع بوش أسهما بتحويل العراق إلى واحة للديمقراطية والعالم بات أفضل بعد احتلال العراق عام 2003!!
إن المشكلة تكمن في غريزة بلير السياسية وفي نصائحه الازدواجية. وفي هذا الكتاب الكثير من الأمور تندرج تحت فئة “أسهل قولاً من الفعل”. ورغم أنه يكتفي بهذا الكلام، فإنه يفشل في معالجة العوامل العديدة التي تتآمر يوميا لإخراج أي سياسي عن مساره، أو في تقديم أي نصيحة عملية حول كيفية التغلب على هذه التحديات.
كان من الممكن أن يكون كتاب “حول القيادة” وفق نيكولا ستيرجن رئيسة الحكومة الأسكتلندية السابقة، أكثر ثراءً لو أنه تضمن دراسة بلير لفترة توليه منصبه، وكيف أصر على اتباع نفسه بغرور والهروب إلى الأمام وإهمال كل النصائح القانونية والسياسية المسؤولة، مع بعض الرؤى حول كيفية تمكنه أو فشله في العودة إلى المسار الصحيح. والواقع أن إحدى غرائب هذا الكتاب هي أنه لا يتضمن أي تأمل حقيقي في نقاط قوة وضعف بلير نفسه وهو يستمر بالكذبة التاريخية على أنها أفضل من الحقيقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى