السوداني يحمي حنون ويمنع توسع فضيحة كشف أسماء لصوص الدولة في سرقة القرن
التصاعد المضطرد في صراع القضاة بشأن الاتهامات المتبادلة وكشف الوثائق عن رشى تلقوها من الساسة، يكشف عن الانهيار الذي يعاني منه القضاء العراقي بوصفه الحصن الأخير للحفاظ على مفهوم الدولة.
بغداد- الرافدين
نجح رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني في حماية “صديقه” منذ أيام الدراسة في محافظة ميسان ورئيس هيئة النزاهة حيدر حنون من انتقام جهات متورطة في سرقة القرن، عندما تم الاتفاق على عدم محاكمته على تلقي رشى واعفائه من منصبه وتعينيه مستشارا في وزارة العدل.
وأوقف السوداني في هذا القرار الجدل الذي أثاره حنون حول تواطؤ مجلس القضاء الأعلى والقاضي ضياء جعفر مع جهات متنفذة داخل الحكومة في سرقة القرن وإطلاق سراح المتهم الأول فيها نور زهير.
ومنع السوداني في الوقت نفسه من محاسبة حيدر حنون المتهم أيضا بتلقي رشى وفق وثائق أعلنها مجلس القضاء الأعلى.
ومنتصف تشرين الأول الجاري، صدرت مذكرة قبض بحق القاضي حيدر حنون، رئيس هيئة النزاهة الاتحادية بالوكالة، بعد تأكيد تطابق صوته مع تسريبات تتعلق بتقاضيه رشوة.
وقبلها، أصدر القضاء العراقي أمر قبض بحق حنون لعدم حضوره لجلسات المحكمة المتعلقة بالتسجيلات الصوتية، رغم تلقيه بلاغات متعددة.
وكانت تصريحات حنون خلال مؤتمر صحفي عقده في أربيل، انتقد فيها القاضي ضياء جعفر، قد أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية، حيث اعتبرها تحديًا لجهود مكافحة الفساد.
وأعلنت هيئة النزاهة في العراق، الخميس، أن رئيسها الجديد محمد علي اللامي استلم مهامه خلفا لحيدر حنون الذي أعفي من منصبه في صفقة أدارها “صديقه” السوداني.
وقالت هيئة النزاهة العراقية في بيان مقتضب إن “رئيس هيئة النزاهة محمد علي اللامي باشر مهامه رئيسا لهيئة النزاهة الاتحادية”.
وكان السوداني أعلن تكليف اللامي بمنصب رئيس هيئة النزاهة، خلفا لحيدر حنون الذي صوت مجلس الوزراء على تعيينه مستشارا بدرجة خاصة في وزارة العدل.
وسبق وأن أعلن القضاء العراقي فتح تحقيق في “تسجيلات صوتية منسوبة” لرئيس هيئة النزاهة بالوكالة حيدر حنون تتضمن “جرائم تقاضي رشى”.
وفي التسجيل الذي تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية، يلمّح رجل يُقدّم على أنه حنون إلى أنه تلقى مبالغ باهظة من المال وسيارة من طراز كاديلاك.
ومطلع أيلول الماضي اتهم حنون قاضيا بالحصول على قطعة أرض بشكل غير مشروع، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقده في أربيل دافع خلاله عن امتلاكه قطعتَي أرض في محافظة ميسان في جنوب العراق.
وعُين حنون، وهو قاض بالأساس، رئيساً لهيئة النزاهة في تشرين الثاني 2022، وكان قبل ذلك رئيسا لمحكمة استئناف ميسان حيث مسقط رأسه، وبرز كثيرا في النشاطات التي تعلقت بـ”استرداد الأموال المسروقة” خاصة تلك المتعلقة بما تُعرف بـ”سرقة القرن”.
ونهاية أب أصدر القضاء العراقي أمرا بالقبض على رجل الأعمال نور زهير، المتهم الرئيسي في قضية “سرقة القرن” المعروفة كواحدة من أكبر السرقات في العراق والتي كُشفت في 2022، وكذلك على هيثم الجبوري وهو مستشار سابق لرئيس الوزراء.
وكان زهير أوقف في تشرين الأول 2022 ثم أفرج عنه بكفالة وتمكن من مغادرة البلاد، ولم يحضر جلسات محاكمته التي بدأت منتصف أغسطس.
وسقط من جديد مجلس القضاء الأعلى وهو يصنع الذرائع للصوص الدولة ويثني على تواطؤ القضاة، عندما وجه كتاب شكر إلى القاضي ضياء جعفر، قاضي أول محكمة تحقيق الكرخ الثانية، المشرف على القضايا المرفوعة على نور زهير، المتهم الأكبر بسرقة القرن، والذي أخرج بكفالة غامضة، وهارب خارج العراق.
وأعتبر بيان لمجلس القضاء الأعلى، اتهامات الرشا والفساد التي وجهها القاضي حيدر حنون رئيس هيئة النزاهة لمؤسسات قضائية هي “مجرد ادعاءات غير صحيحة”، كما قرر توجيه كتاب شكر وتقدير إلى قاضي أول محكمة تحقيق الكرخ الثانية ضياء جعفر، على ما قال إنها “لجهوده المتميزة في إنجاز الأعمال الموكلة إليه”.
وكان جعفر قد صرح الشهر الماضي بأنه هو من أصدر “قرار الإفراج عن زهير بكفالة قانونية، ليتسنى له تسديد ما بذمته من أموال”.
ويكشف موقف مجلس القضاء الأعلى مستوى الانهيار الذي وصل له القانون في العراق، بينما يتم التغطية على أكبر سرقة في التاريخ المعاصر في العراق بعد استيلاء لصوص الدولة على أكثر من 2.5 مليار دولار من أموال الضرائب في العراق.
وسبق للقاضي حنون أن وجه اتهامات عديدة للقاضي ضياء جعفر، من بينها دمج عشرات القضايا لنور زهير في قضية واحدة للحصول على أحكام مخففة، كما تساءل عن سير إجراءات إطلاق سراح المتهم الأكبر بالقضيّة وهروبه، بينما ما يزال متهمون قيد التحقيق منذ عامين في السجون، ولم تقبل كفالتهم.
ولمّح القاضي حنون إلى عمليات ابتزاز يقوم بها القاضي جعفر، كما كشف أيضاً عن قضايا مرفوعة على نور زهير ينظر فيها القاضي ذاته، إلا أنه لم يحركها أو يحاسب عراب سرقة القرن أو شركاءه.
ويقول مجلس القضاء إنه اعتمد في اتخاذ قراراته في مقاضاة حنون وشكر القاضي جعفر على تقرير رئيس هيئة الإشراف القضائي، الذي حقق “في كل ما أثير” في المؤتمر الصحفي لرئيس هيئة النزاهة في مدينة أربيل، والذي أطلق من خلاله معلومات واتهامات خطيرة.
ولم يعرض القضاء تقرير رئيس هيئة الإشراف القضائي، كما أنه لم يفند التهم التي وجهها حنون للقضاة والمسؤولين، كما لم يعلن الاستمرار بأي تحقيقات تخص أراضي القضاة، التي ظهرت وثائق تؤكد أنهم استلموها.
ويكشف التصاعد المضطرد في صراع القضاة بشأن الاتهامات المتبادلة وكشف الوثائق عن رشى تلقوها من الساسة، عن الانهيار الذي يعاني منه القضاء العراقي بوصفه الحصن الأخير للحفاظ على مفهوم الدولة.
وطالما أبدى العراقيون امتعاضهم، حول صمت القضاء تجاه ملفات تمس جوهر العدالة في العراق، مثل ملف المغيبين قسرًا وإفلات الجناة من العقاب وتسييس القضاء وجعله هامشًا للأحزاب السياسية الحاكمة.
وكان حنون قد قال إن “القاضي ضياء جعفر (الذي يحاكم نور زهير المتهم بسرقة القرن) يلاحقني، وأصدر أمر إلقاء قبض بحقي (…)، مع العلم بأن القضية كانت في البصرة، ونقلت إلى بغداد لدى القاضي جعفر؛ لكن الملفات اختفت عنده”.
وسُربت في مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلات صوتية منسوبة لحنون، وردت فيها أحاديث عن رشى وقضايا تلاعب بقطع أراض في محافظة ميسان حيث مسقط رأسه ومقر إقامته، وعلى إثر ذلك بدأ القضاء التحقيق معه.
وقال حيدر حنون “هيئة النزاهة” مستضعفة، ولا يجوز للقاضي ضياء جعفر استخدام سلطته ضدنا.
وأضاف “التقصير في قضية نور زهير أمر بيني وبين القاضي جعفر، وأطالب مجلس النواب باستجواب كلينا في جلسة علنية”.
وقال المركز الإعلامي في مجلس القضاء الأعلى إن “رئيس الادعاء العام طلب من محكمة تحقيق الكرخ الثالثة إجراء التحقيق بخصوص التسجيلات الصوتية المنسوبة إلى رئيس هيئة النزاهة بالوكالة حيدر حنون والتي تتضمن جرائم تقاضي رشى”.
ورغم الفساد الذي تسلل إلى جميع مؤسسات الدولة والإدارات العامة في العراق، غالبا ما تستهدف العقوبات المستويات المتوسطة في الدولة أو المدراء البسطاء، ونادرا ما تستهدف قمة الهرم وكبار الفاسدين.
وليس نادرا أن تظهر مثل هذه القضايا بشكل مفاجئ على الساحة العامة في خضمّ تصفية حسابات بين مسؤولين منخرطين في صراعات داخلية على السلطة.
وقال حيدر حنون خلال حديث أمام الصحافيين في أربيل، إن المتهم الرئيسي بسرقة الأمانات الضريبية، نور زهير قام بتزوير 114 صكاً مالياً، وعليه أن يعاقب بـ114 حكماً، وكشف عن أنه سرق 720 دونما في شط العرب جنوب العراق.
وأضاف “زهير جاء بوكالة محامٍ وبدأ يسحب الودائع الجمركية، والودائع هي بضاعة تباع في الميناء وتودع كأموال وحسابات في الميناء والأمانات تودع في الميناء”.
وطالب البرلمان بسؤاله “لماذا فُتحت قضية واحدة فقط بحق نور زهير رغم وجود جرائم أخرى؛ منها التلاعب بـ720 دونماً من الأراضي في البصرة، التي سُجلت بأسماء وهمية”.
وكشف قاضي “النزاهة” عن أن “القضاة والوزراء تسلموا قطع أراضٍ بمساحات 600 متر مربع من الحكومة السابقة لضمان الولاء”.
وأكد على أن «هذه التطورات تشكل تحدياً كبيراً لجهود مكافحة الفساد واستعادة أموال الدولة المنهوبة.
ورغم أن تصريحات حنون هزت الأوساط السياسية في البلاد، لكنها فاقمت التعقيد في قضية سرقة القرن بسبب تشابك المعلومات والتصريحات حول القضية وأطرافها، لا سيما بعد تغيب المتهم زهير عن محاكمته الشهر الماضي، وصدور أمر قبض بحقه.
وتأتي تصريحات حنون بعد أيام من اعلان مصادر قضائية ورقابية أن السلطات الحكومية تتستر على فضيحة تاريخية غير مسبوقة بعد أن كشفت أن كمية الأموال التي سرقت من الهيئة العامة للضرائب تصل إلى 8 مليار دولار وليس 2.5 مليار كما ذكر سابقا.
ويكشف امتداد الصراع بين القضاة أنفسهم المستوى الشنيع الذي سقط فيه القضاء العراقي بعد أن تحول إلى أداة بيد الأحزاب الحاكمة لتصفية الحسابات.
وأجمع خبراء قانونيون وقضاة على أن الصراع بين محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية بشأن الصلاحيات، يكشف هشاشة القضاء العراقي الذي وضعت قوانينه على عجل ومن دون قراءة عميقة لمعايير ومدونة القضاء العراقي بعد الاحتلال الأمريكي وبإشراف الحاكم الأمريكي بول بريمر.
وأكدوا على أن ظهور هذا الصراع إلى العلن مؤخرا بعد قرار محكمة التمييز بأن لها الرقابة على جميع المحاكم، بما في ذلك المحكمة الاتحادية، لا يعني أنه مستجد، بل هو كامن في بنية القضاء الذي تحول إلى واجهة لتمرير قرارات لحساب أحزاب سياسية وجهات متنفذة.
وعزوا ظهور الصراع إلى العلن بعد قرار محكمة التمييز، إلى وجود قوى سياسية متنفذة ومتصارعة بدأت تمد نفوذها إلى المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز لتمرير قرارات خدمة لأجندتها ومصالحها للاستمرار في الحكم.
وقال الكاتب السياسي العراقي مصطفى سالم “لقد أثبتت هيئة النزاهة في العراق أن أحد أهم أسباب انتشار الفساد وتوسعه هو وجود الهيئة نفسها”.