أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيتقارير الرافدين

الاضطرابات النفسية تعصف بالمجتمع العراقي دون تحرك حكومي لعلاجها

تؤكد دراسات متخصصة حاجة العراق إلى خدمات الصحة النفسية بشكل عاجل في ظل النقص الحاد في الطواقم الطبية وضعف البنية التحتية، مما يقيد بشدة الوصول إلى الرعاية الصحية التي باتت ضرورة ملحة لمجتمع يعاني أفراده من تأثير ما بعد الصدمة.

بغداد – الرافدين
حذر أطباء ومختصون في علم النفس والاجتماع من تبعات زيادة معدلات الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة على الحالة النفسية لدى العراقيين بعد 21 عاما عاش فيها غالبيتهم تحت وطأة الشعور بالخوف والقلق والصدمة على نطاق واسع، بعدما تسبب احتلال العراق بظواهر شاذة لم يكن يعهدها المجتمع العراقي من قبل.
واشار الأطباء والمختصون إلى أن موجات القتل على الهوية وفوضى السلاح والعمليات العسكرية والتفجيرات وحالات النزوح المتكررة بعد 2003 كنتيجة مباشرة للحرب والتهجير الطائفي انعكس سلبًا على الحالة النفسية لملايين العراقيين.
وعند الحديث عن الصحة النفسية في العراق فإن الأرقام التي تتقافز عن أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل، وأطنان المخدرات – فقط تلك التي استطاعت الشرطة ضبطها- فضلا عن أعداد من ينتحر من بين الشباب يمكن إعادة تشكيلها في هيئة كابوس جماعي مفزع لمجتمع ينتظره الكثير من المجهول.
وتدعم مؤشرات قياس الرفاهية والقلق والمشاعر السلبية والدراسات المتخصصة التحذيرات التي يطلقها المختصون بعدما تذيل العراق غالبية تلك القوائم في مؤشر آخر يدلل على حجم الكارثة التي لحقت بالعراقيين على صعيد صحتهم النفسية.
فبحسب تصنيف ceoworld العالمي لمؤشر السعادة الدولي لعام 2024 جاء العراق في المرتبة 98 بين 146 دولة على مستوى العالم، حيث تصدرت فنلندا القائمة كأسعد بلد في العالم.
ولم يتقدم العراق إلا على دول مثل إيران واليمن والصومال وأفغانستان في المؤشر، على الرغم من أن العراق بلد غني بالنفط، بينما لا يزال ثلث سكانه البالغ عددهم 42 مليونًا يعيشون في الفقر، أما البطالة فهي مرتفعة في أوساط الشباب، فيما يحتجّ العراقيون على النزاعات السياسية وسطوة الأحزاب والميليشيات الفاسدة والنفوذ الإيراني في بلدهم.
ويستند معدو الدراسة المنشورة سنويًا منذ 2012، إلى استطلاعات رأي يجيب فيها السكان عن استبيانات بشأن درجة السعادة الشخصية. وتتم مقاطعة هذه البيانات مع إجمالي الناتج المحلي ومؤشرات التضامن والحرية الفردية والفساد، لوضع درجة نهائية على 10.
وتصدر العراق مع أفغانستان ولبنان المراتب العليا في المشاعر السلبية وفق استطلاع للمشاعر أجرته مؤسسة غالوب الأمريكية للأبحاث للبلدان التي تعاني من مشاعر سلبية حول العالم.
وشمل استطلاع المشاعر نحو 122 دولة، وشارك فيه نحو 127 ألف شخص من عمر 15 عامًا فما فوق خلال الفترة من عام 2021 وحتى آذار الماضي.
وتضمن الاستطلاع عدة نقاط منها أسئلة للمشاركين سواء وجها لوجه أو عبر الهاتف، بشأن المشاعر الإيجابية، والمشاعر السلبية والتوتر وغيرها.
ويعزو الاستطلاع سبب ذلك لعدة عوامل من بينها الحروب والتضخم مما جعل العالم أكثر تعاسة.
وذكر الاستطلاع أن هناك أشياء كثيرة تجعل الناس تعساء، ولكن هناك عوامل هي الأكثر تأثيرا ومنها الفقر والمجتمعات السيئة والجوع والشعور بالوحدة.
وأظهر استطلاع للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الاسكوا” بأن العراقيين هم أكثر سكان المنطقة شعورًا بعدم المساواة، وأن الفساد يشكّل التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد.
وأشار استطلاع “الاسكوا” إلى أن العراقيين هم أكثر الناس تشاؤمًا بعدم وجود مساواة مقارنة بالمعدل العام لبقية المواطنين العرب.
وأوضح أن معدل التشاؤم لدى العراقيين فيما يتعلق بوضعهم الحالي والمستقبلي بخصوص المساواة الاقتصادية والاجتماعية، هو الأعلى بين مواطني البلدان العربية الأخرى.
وأظهر استطلاع أجري بين شباب عراقيين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة، ان ثلاثة ارباعهم كانت نظرتهم سلبية جدًا تجاه الوضع الحالي للمساواة الاجتماعية والاقتصادية.
وذكر أن هناك أشياء كثيرة تجعل الناس تعساء، ولكن هناك عوامل هي الأكثر تأثيرًا ومنها الفقر والمجتمعات السيئة والجوع والشعور بالوحدة.

النازحون من المدن المنكوبة من أكثر الشرائح المجتمعية تضررًا بالاضطرابات النفسية بفعل ويلات الحرب ومارافقها من مآسي وحرمان

وبعد التجربة القاسية التي تعرّض لها سكان المدن المنكوبة عام 2014، إبان ماعرف بتحرير المدن من داعش و العمليات العسكرية التي تسببت في دمار هائل ونزوح أكثر من خمسة ملايين مواطن، أجرت جامعة الأنبار دراسة عام 2018، حول “اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية (PTSD) لدى طلبة جامعة الأنبار العائدين من النزوح والتهجير”.
وأظهرت الدراسة أن 25 بالمائة من الطلبة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة من النوع الحاد، و8 بالمائة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة المزمن، و5 بالمائة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة من النوع المتأخر.
وتشير الدراسة إلى أن أعراض الحرب لا تنتهي عندما يغادر النازحون المخيمات، بل تدوم طويلًا مثل الندوب، ولا يمكن اعتبارها “عرضًا مؤقتًا” ينتهي بنهاية إطلاق النار، فبعد عام على انتهاء المعارك، وتحديدًا عام 2018، كان لا يزال أكثر من 2.5 مليون نازح عراقي داخل المخيمات، 30 بالمائة منهم يعاني من اضطرابات نفسية، مثل الهلع، والقلق، والتوتر، والعصاب التي تؤدي إلى الانتحار.
وسبق أن حذرت دراسة مماثلة لمجلة “لانسيت” الطبية من معضلة وجودية يعاني منها المجتمع العراقي تتمثل في أمراض الصحة النفسية التي تتفاقم بشكل خطير منذ عام 2003.
وذكرت الدراسة التي شارك فيها أربعة باحثين ونشرت في المجلة المرموقة عام 2023، بأن أكثر من 20 بالمائة من العراقيين يعانون من أمراض نفسية، وهذه النسبة في ارتفاع مستمر.
وأوضحت الدراسة “على مدى السنوات العشرين الماضية، كانت الصحة النفسية في العراق قضية صعبة المعالجة حيث واجهت البلاد الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي. علاوة على عقبات كبيرة أثرت بشكل كبير على الصحة النفسية للشعب العراقي مع تردي المرافق الطبية والوضع الأمني وانعدام ضرورات المعيشة من الطعام والشراب”.
ولمعالجة قضايا الصحة النفسية للسكان، طالبت دراسة مجلة “لانسيت” زيادة عدد المستشفيات، وأخصائيي الصحة النفسية، ومرافق الطب النفسي المتخصصة في كل منطقة.
وطالبت الدراسة بتنفيذ سياسة شاملة وملائمة ثقافيًا للصحة النفسية في العراق واتباع نهج متعدد الأوجه. ومن شأن مبادرات الصحة النفسية المجتمعية أن تمكن مقدمي الرعاية الصحية المحليين وقادة المجتمع من اكتشاف ومعالجة قضايا الأمراض العقلية، في حين أن إجراءات الرعاية المستنيرة للصدمات من شأنها أن تضمن حصول أولئك الذين عانوا من الصدمة على الدعم المناسب.
وأشارت الدراسة إلى أن من شأن خدمات الصحة عن بعد والصحة النفسية الإلكترونية أن تعمل على توسيع نطاق الوصول إلى رعاية الصحة النفسية، في حين أن العلاجات المراعية للثقافات سوف تدمج تقنيات العلاج التقليدية.
وأوصت الدراسة بأن تصبح رعاية الصحة النفسية في العراق أولوية عالمية مع وجوب أن تأخذ هذه الأولويات شكل بناء الخطط والسياسات وتوفير التمويل في بلد يعيش الفساد في مفاصله الحيوية ومن بينها القطاع الصحي.
وتتجاهل السلطات الحكومية مثل هذه المؤشرات الخطيرة فضلًا عن التحذيرات التي يطلقها المختصون إلى جانب ما تظهره الدراسات المختصة من وضع خطير ويظهر تجاهلها جليًا في حجم ما ينفقه العراق على الصحة النفسية التي لا تتجاوز نسبة 2 بالمائة من ميزانية القطاع الصحي، الذي بدوره لا تتجاوز نسبة مخصصاته في الموازنة حاجز 5 بالمائة من الموازنة الثلاثية (2023-2024-2025) على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية تشير إلى حقيقة أن مقابل كل دولار يُستثمر في تعزيز علاج الاضطرابات الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، يتحقق عائد قدره 5 دولارات في مجال تحسين الصحة والانتاج.
وأشارت المنظمة الأممية كذلك إلى أن واحدًا من بين كل أربعة عراقيين يعاني هشاشة نفسية، في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص، مقارنة مع 209 أطباء لكل مليون شخص في بلد كفرنسا مثلًا.

مستشفى الرشاد للأمراض النفسية في بغداد مثال شاخص على الإهمال الحكومي لمرضى الاضطرابات النفسية

وفي العراق الذي يبلغ تعداده السكاني حوالي 43 مليون نسمة، لا يوجد غير ثلاث مستشفيات متخصصة بالأمراض النفسية هي: الرشاد، وابن رشد (بغداد)، وسوز (السليمانية) وهذه المستشفيات تعاني من الإهمال وقلّة الطواقم الطبية، وكذلك قلّة الأدوية اللازمة للمرضى.
وعلى الرغم من أن مستشفى الرشاد التدريبي للأمراض النفسية والعقلية من أكبر منشآت الصحة النفسية في العراق إلا انه يعاني من تدهور في خدمات العلاج والتبريد والتنظيف والطعام، وسط اتهامات يطلقها نواب بسوء الإدارة والفساد.
ويطلق العراقيون اسم “الشماعية” على مستشفى الرشاد حتى باتت التسمية تحمل بين ثناياها انطباعا سلبيا للمكان المخصص لعلاج الأمراض النفسية والعقلية، الذي يسمّى أيضاً بـ “مستشفى المجانين”.
ولا يقبل المجتمع أي فرد يعاني من مشاكل نفسية، فالوصمة جاهزة لإلصاقها بالمريض، واعتباره مجنوناً ويمكن تفسير موقف ذوي المرضى الرافضين لاستقبال أبنائهم بالوصمة المجتمعية وصعوبة الاندماج مرة أخرى في المجتمع، وانعدام المرافق السكنية الخاصة برعاية هؤلاء المرضى بعد رحلة العلاج، فلا توجد غير المستشفيات أماكن يمكن للمريض أن يتعالج فيها، ودخوله إلى مستشفى الرشاد على سبيل المثال، يعني أنّ المريض حكم عليه بالجنون طيلة حياته المتبقية.
ولم تكن تعلم فاطمة (32 عامًا) أنّها مصابة باكتئاب حاد وخلطة من الأمراض النفسية الأخرى قبل أن تعاني بشكل عنيف في رحلتها العلاجية التي بدأت بالتنمّر من قبل العائلة والمجتمع المحيط بها، وصولاً إلى تهديدها من قبل والدها برميها في “الشَمّاعية” إن لم تعد إلى “رشدها”.
وقالت فاطمة بقلب يعتصره الألم إن “والدي كان يهددني بالشماعية، ويقول لي لن يرضى أحد أن يتزوجك، وستظلين عالة على البيت”.
وتابعت “لولا شقيقي الأكبر، وتقبّله لفكرة العلاج النفسي، لما استطعت أن أخرج من مستنقع العادات والتقاليد التي تفرض أنّ الحديث عن الأمراض النفسية هو حديث عن الجنون”.
ويعد مستشفى الرشاد مثالًا على إهمال الدولة والمجتمع للصحة النفسية والمرضى الذين يعانون من أجل العودة إلى حياتهم الطبيعية.
ففي حزيران 2023 زارت لجنة الصحة التابعة للبرلمان المستشفى، وقدمت تقريراً مفصلاً عن وضع المرضى هناك وعن حال المستشفى، وكشف عن بعض تفاصيل التقرير نائب من أعضاء اللجنة.
ومن تلك التفاصيل أن النساء المريضات في المستشفى تعرضن لعنف جسدي، والمرضى يعيشون في غرف لا توجد فيها إنارة، كما أن أنظمة التهوية والتكييف معطلة بنسبة 80 في المئة، وكذلك “اختفاء” أكثر من 160 جهاز تكييف من المستشفى، و“اختفاء” أكثر من مليون ليتر من مادة الكاز، الضرورية لتشغيل الكهرباء في المستشفى، علماً أنّ مخصصاته المالية تبلغ أكثر من 400 مليون دينار عراقي، وهي أكبر مخصصات مالية لمستشفى يتبع وزارة الصحة العراقية.
وأثرت الوصمة والإهمال المتعمّد للصحة النفسية، من جهتَي الدولة والمجتمع، كثيرًا على ملء فجوة الطواقم الطبية المتخصصة في الصحة النفسية، فالتوجهات الطبية للعراقيين لا تهتم كثيرًا بهذا المجال، بسبب هذه الوصمة فضلا عن قلّة المردود المادي المتأتي من ممارسة هذا التخصص.
ويعزو عميد كلية الطب بجامعة سومر في ذي قار، أحمد حسن، وهو طبيب نفسي، أسباب العزوف عن دراسة هذا التخصص في كليات الطب، إلى “الوصمة المجتمعية تجاه كل من الطبيب النفسي والمريض، والتي ما زالت متسيدة، لذا تجد أن أعداد الأطباء النفسيين قليل على مستوى المحافظة وعموم العراق”.
ويتابع حسن، “فضلًا عن ذلك، هناك صعوبة في دراسة هذا التخصص العلمي، والذي يعد سببا إضافيا مع عدم الحصول على مردود مالي بعد التخرج، إذ تم أخذ الجانب المادي بعين الاعتبار خلال الاختيار، فالأقسام الطبية الأخرى تحقق مكاسب مالية أكثر بعد التخرج”.
وتوصي منظمة الصحة العالمية بمزيد من الدعم للصحة النفسية المجتمعية في العراق، وإعطاء الأولوية للانتقال من خدمات الصحة النفسية القائمة على المستشفيات النفسية إلى الخدمات القائمة على المجتمع، حتى يسهل استيعاب الأعداد الكبيرة التي تحتاج إلى تجربة علاجية، ومن ثم إعادة دمجهم مع عائلاتهم والمجتمع، من خلال المرافق الصحية المجتمعية في كل مدينة وبلدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى