مدن العراق تحتضر في اليوم العالمي للمدن
تواجه المحافظات العراقية مشاكل تتراوح بين النقص الحاد في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، وعدم توفر بنية تحتية ملائمة، وصولًا إلى انعدام المساحات الخضراء وتلوث الأنهار التي تعتبر شريان حياة لملايين العراقيين.
بغداد ــ الرافدين
أجمع مختصون ومراقبون على أن المدن العراقية تغرق في دوامة من الإهمال والتدهور بالتزامن مع حلول اليوم العالمي للمدن، الذي يحتفي به العالم بهدف تعزيز الوعي بأهمية التخطيط الحضري للمدن ودوره كركيزة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة.
وحددت الأمم المتحدة الحادي والثلاثين من تشرين الأول يومًا خاصًا بالمدن باعتباره مناسبة سنوية لنشر العمل حول مفهوم التوسع الحضري المستدام من خلال تعزيز التعاون الدولي والاحتفال بالنجاحات وتعظيم الفرص والتصدي للتحديات التي أوجدتها الوتيرة العالمية السريعة للتوسع الحضري، خاصة في مجال الابتكار والتكنولوجيا والاستثمار من بين أمور أخرى، ومواجهة تحديات الإسكان وتغير المناخ والوصول العادل إلى الخدمات.
وتعيد هذه المناسبة إحياء الجدل حول واقع المدن في العراق التي تعاني منذ عام 2003 من تراجع بنيوي وبيئي مستمر نتيجة لسنوات طويلة من الفساد وسوء الإدارة.
ويتطلع العراقيون إلى مستقبل أفضل مع حلول اليوم العالمي للمدن، حيث يحلمون بأن تشهد مدنهم اهتمامًا أكبر وخططًا تنموية تنقذها من دوامة التدهور، لكن الآمال ستبقى رهينة مكافحة الفساد الذي أصبح متجذرًا في جميع مفاصل الدولة، مؤكدين أن استمرار سياسات الإهمال للمدن يعمق الفجوة بين تطلعات المواطنين وواقعهم المرير.
وتزداد المدن العراقية ضعفًا وتراجعًا عن مسار التنمية المستدامة، مما يطرح تحديات كبرى أمام حياة سكانها في ظل غياب التخطيط السليم وازدياد نسب التلوث وانتشار النفايات والمخاطر الصحية في المدن العراقية.
وتؤكد الأرقام الصادرة عن وزارة التخطيط الحالية إلى أن معدلات التلوث في المدن الكبرى، مثل بغداد والبصرة في ارتفاع مطرد، مما يتسبب بزيادة الحالات المرضية المزمنة مثل الربو وأمراض القلب.
وتواجه المدن اليوم مشاكل تتراوح بين النقص الحاد في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، وعدم توفر بنية تحتية ملائمة، وصولًا إلى انعدام المساحات الخضراء وتلوث الأنهار التي تعتبر شريان حياة لملايين العراقيين.
ومنذ عام 2003 تعاقبت بعده الحكومات على العراق دون تقديم حلول فعالة لمشاكل المدن، حيث انتشرت شبكات الفساد، وأهدرت الأموال التي كان من المفترض أن تخصص لتطوير البنية التحتية.
وكشفت لجنة التدقيق النيابية، أن تقرير الفريق المختص في تدقيق مشاريع صندوق الإعمار في المناطق المنكوبة، وثق ملفات فساد مالي وإداري كبرى تصل إلى عشرات المليارات من الدنانير.
ويرى أستاذ التخطيط العمراني في جامعة بغداد الدكتور مازن الحسني، أن الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة قاد إلى نتائج كارثية، حيث تم إهدار مليارات الدولارات التي كانت كفيلة بتحسين الأوضاع، لا سيما في مجال الإسكان وتوفير الخدمات الأساسية، لكن عوضًا عن ذلك تشهد المدن تفاقم ظاهرة العشوائيات في ظل تفاقم أزمة السكن.
وأضاف أن الحكومات المتعاقبة لم تصنع أي استراتيجيات فعالة لإدارة المدن، بل استنزفت مشاريع وهمية ومدفوعات مشبوهة، مما أبقى المدن العراقية في حالة من التراجع المستمر.

وسلطت منظمات بيئية وتنموية دولية الضوء على أوضاع المدن العراقية عبر تقاريرها السنوية، حيث أكدت البيانات الصادرة إلى أن المدن العراقية تعاني من تفاقم ظاهرة التلوث والدمار العمراني نتيجة للصراعات الداخلية وسوء التخطيط.
وأصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقارير تؤكد فيها أن الحكومات المتعاقبة أهملت المدن بشكل متعمد، ولم تقدم أي خطط واضحة لإعادة الإعمار وتحسين البيئة الحضرية. وصرحت الناطقة باسم المنظمة في الشرق الأوسط سارة لاكر، بأن “العراق يمتلك ثروة طبيعية وبشرية كبيرة، لكن سوء الإدارة والفساد حالا دون استفادة المواطنين من موارد البلاد، مما خلق تفاوتًا واسعًا بين ما يتمتع به سكان المناطق الغنية وما يفتقر إليه سكان المدن الأكثر تضررًا.
وأشار تقرير صادر عن “برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية” إلى أن العراق فشل في تحقيق أي من أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالمدن، حيث تفتقر معظم المدن إلى التخطيط الحضري الملائم وتنتشر فيها الأحياء العشوائية، مما يعزز الفقر وتدهور جودة الحياة.
وتنعكس هذه التحديات على حياة المواطنين اليومية، إذ تعاني الأحياء السكنية في المدن العراقية من نقص حاد في المساحات الخضراء والحدائق، بل إن معظم الأحياء تفتقر إلى أماكن ترفيهية ملائمة للأطفال والعائلات.
وقال الناشط البيئي أحمد الكاظمي، إن أطفال العراق يكبرون في بيئة مليئة بالغبار والتلوث دون أن يعرفوا معنى الاستمتاع بالطبيعة أو اللعب في مكان نظيف وآمن وهذه ليست حياة كريمة، بل هي انعكاس لفشل الحكومات المتعاقبة في خلق بيئة حضرية مستدامة وصحية.
ويضيف الكاظمي، يجب مواجهة الكارثة البيئية التي حولت مدننا قنابل موقوتة ومهددة بانهيار بيئي وصحي نتيجة انتشار النفايات في الشوارع وانعدام شبكات الصرف الصحي الملائمة.
ويرى الخبير الاقتصادي والمحلل السياسي الدكتور كريم البصيري، أن المدن العراقية بحاجة إلى برامج إصلاح حقيقية وشاملة تبدأ من القضاء على الفساد وتفعيل دور الرقابة، وتنتهي بوضع خطط تنموية تهدف إلى تحسين جودة حياة المواطنين.
وأضاف إذا استمرت الحكومات في إدارة البلاد بأسلوبها الحالي، فإن المدن العراقية ستواجه أزمة استدامة كبرى، حيث ستعجز هذه المدن عن تلبية احتياجات سكانها المتزايدة، مشيرًا إلى أن المدن ليست مجرد بنايات وشوارع، هي منظومة متكاملة تحتاج إلى موارد وكفاءة إدارية ورقابة لضمان استمراريتها وتطورها.
وفي ظل الأزمات المتعددة التي تثقل كاهل المدن العراقية، يبقى الأمل معلقًا على تحولات جذرية تعيد رسم سياسات الإدارة والتخطيط العمراني، لتتجاوز البلاد مخاطر التدهور وتلوث البيئي.
وباتت الحاجة إلى تغيير الطبقة الحاكمة أكثر إلحاحًا لتحقيق النهوض الذي تحتاجه المدن للخروج من دوامة الإهمال والتدهور، فبينما تتجه مدن العالم نحو مستقبل حضري مستدام وصديق للبيئة يقف العراق أمام مفترق طرق، فإما أن يبدأ بخطوات إصلاحية حقيقية، أو يظل عالقًا في أزمات الفساد مما يزيد من معاناة سكانه ويبعدهم عن حلمهم في مدن تليق بكرامتهم وتوفر لهم حياة كريمة.
