يوم إنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم ضد الصحفيين ينكئ جراح الصحافة في العراق
إحصائيات صادمة تشير إلى مقتل أكثر من 500 صحفي في العراق منذ عام 2003 في وقت لم تحل فيه الحكومات المتتابعة بعد الاحتلال سوى 9 قضايا فقط ما يعني أن 98 بالمائة من جرائم قتل الصحفيين لم يحاسب مرتكبوها.
بغداد – الرافدين
أبدت منظمات أممية ومحلية، ناشطة في الدفاع عن الحريات قلقها البالغ من استمرار سياسة إفلات الجناة من العقاب في العراق تزامنًا مع احتفاء العالم باليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.
وحثت المنظمات السلطات في العراق على تحمل مسؤوليتها في فتح تحقيقات شاملة وشفافة في جميع الجرائم التي طالت الصحفيين وتقديم معلومات عن التحقيقات للمجتمع الدولي ولمجلس حقوق الإنسان فضلا عن مراجعة سياساتها بشأن حرية التعبير وسلامة الصحفيين.
ويحتفي العالم منذ عقد من الزمن في الثاني من تشرين الثاني من كل عام باليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم ضد الصحفيين استنادًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم 68/163 بعدما اتخذت من تاريخ اغتيال صحفيين فرنسيين في مالي مناسبة سنوية تحث من خلالها الدول الأعضاء على تنفيذ تدابير محددة لمواجهة ثقافة الإفلات من العقاب.
وحثت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) السلطات في العراق ولاسيما وزارة الداخلية في حكومة الإطار التنسيقي بهذه المناسبة على إعادة تفعيل دور الوحدة التحقيقية المتخصصة بجرائم الصحفيين، التي توقفت مؤخرًا لأسباب غير معروفة.
ويتصدر العراق وفق “اليونسكو” قائمة الدول التي يعاني فيها الصحفيون من إفلات قتلتهم شبه التام من العقاب، ويواجهون تهديدات واقعية وإلكترونية متزايدة، إلى جانب ارتفاع الدعاوى القضائية التي تهدف إلى تخويف الصحفيين وتكميم أصواتهم.
ووفق بينات حديثة للمنظمة فإن عام 2023 شهد رفع أكثر من 600 دعوى قضائية ضد الصحفيين، لا تزال العديد منها غير محسومة حتى الآن.
ووفقًا لبيانات “اليونسكو” فإن النسبة العالية للإفلات من العقاب على جرائم قتل الصحفيين في العراق تعد من القضايا البالغة الخطورة التي تتطلب اهتمامًا دوليًا ومحليًا، حيث تتجاوز 98 بالمائة مع بقاء أكثر من 500 صحفي قُتلوا منذ عام 2003 دون محاسبة القتلة، ولم يتم حل سوى 9 قضايا فقط.
بدورها دعت المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق، السلطات الحكومية إلى تطبيق القوانين المخصصة لحماية الصحفيين من الانتهاكات والخروقات المرتكبة تجاههم، وإجراء التحقيقات الشفافة والقصاص من مرتكبي الجرائم بحقهم.
وقالت المفوضية في بيان بمناسبة اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، إنها “تجدد دعوتها إلى الجهات كافة لبذل المزيد من العمل وبذل الجهود لتطبيق القوانين المختصة لحماية الصحفيين من الانتهاكات والخروقات المرتكبة تجاههم، ومنع ممارسة أعمالها والاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال”.
وأكدت المفوضية بحسب البيان، حرصها على “إيلاء هذا الأمر أهمية بالغة باتخاذ التدابير اللازمة وإجراء التحقيقات الشفافة والقصاص من مرتكبي مثل هذه الجرائم ليشكل ذلك رادعا حقيقيا ويضمن سلامة الصحفيين”.

وبعد واحد وعشرين عامًا من احتلال البلاد يصنف العراق بين أخطر الدول على حياة الصحفيين المخلصين لجوهر المهنة، بينما تحولت وسائل الإعلام والمحطات التلفزيونية إلى مجرد دكاكين إعلامية تقدم الخدمات الدعائية مدفوعة الأجر لأحزاب وسياسيي العملية السياسية.
ومنعت السلطات الحكومية القنوات التلفزيونية التي تعري الفساد وتكشف فشل العملية السياسية من فتح مكاتب في مدن العراق، الأمر الذي دفعها إلى البث من خارج العراق.
وتقوم السلطات الحكومية في العراق بحجب المواقع الإلكترونية على الإنترنت وإيقاف بث القنوات المعارضة للخطاب الحكومي. الأمر الذي دفع عراقيين إلى كسر الحجب للاطلاع على الحقائق غير المتاحة في القنوات الحكومية والحزبية.
وحل العراق بالمرتبة 169 عالميًا بحرية الصحافة من أصل 180 دولة في حرية الصحافة بحسب تصنيف لمنظمة مراسلون بلا حدود في تصنيفها لحرية الصحافة للعام 2024، متراجعًا بدرجتين عن العام 2023.
ونددت المنظمة غير الحكومية خصوصًا “بغياب واضح للإرادة السياسية من جانب المجتمع الدولي لإنفاذ المبادئ المتعلقة بحماية الصحافيين”.
وتشير البيانات التي اعتمد عليها تقرير المنظمة إلى تراجع نقاط العراق في المؤشر السياسي من 39.2 الى 20.6، وتراجع المؤشر الاقتصادي من 28 الى 22.1، وتراجع المؤشر الاجتماعي من 36 الى 29.4 نقاط، وتراجع مؤشر الأمان من 29.9 الى 28.6.
ويصف تقرير مراسلون بلا حدود العراق بأنه يعيش بين الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي والاحتجاجات، حيث يواجه الصحفيون تهديدات من جميع الجهات في ظل ضعف الدولة التي تفشل في واجب حمايتهم.
ويكشف التدهور الخطير في الحريات بشكل عام في العراق حقيقة حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني، التي تفاقم القلق المتصاعد جراء ارتفاع وتيرة الاحكام القضائية وأوامر القبض والاستقدام والحكم الغيابي ضد الصحفيين وفقًا للقوانين التعسفية.
ويرى حقوقيون أن الأمر أخذ خلال الآونة الأخيرة، منحنىً خطيرًا، تمثل في إصدار مذكرات اعتقال بحق صحافيين وإعلاميين ونشطاء، بسبب انتقادهم شخصيات سياسية وطائفية فاسدة.
ويرى الخبير القانوني علي البياتي أن العراق “يشهد انتكاسة في ملف الحريات، ويظهر ذلك من خلال ملاحقة واستهداف الناشطين والإعلاميين وأصحاب الرأي”.
وأشار البياتي، إلى أن الطبقة السياسية “تحاول أن تجير القضاء لصالحها، وأن تورطه في انتهاكات كثيرة، ومنها استهداف الصحافيين والناشطين في كشف ملفات الفساد”.
وشدّد على “ضرورة إبعاد القضاء عن ممارسات وسلوك الطبقة السياسية التي لا تفكر إلا بمصالحها وتوسعة شبكات الفساد في البلاد”.
وتتنافى المنهجية الميليشياوية والملاحقات غير القانونية وعمليات إقصاء الصحفيين مع وعود السوداني الذي تعهد بحماية حرية الإعلام وترسيم الديمقراطية مما يجعله موضع اتهام بسبب العديد من الانتهاكات المسجلة والموثقة لدى الكثير من المنظمات المعنية بحقوق الصحفيين بالعراق.
وفي ضوء هذه المعطيات الخطيرة المحدقة بالعمل الصحفي يتساءل الكاتب العراقي كرم نعمة “كيف يمكن إنقاذ الإعلام العراقي”.
وقال نعمة المهتم بشؤون الإعلام وكان كتابه الأخير بعنوان “السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي” إن الصحافة تخسر الحقيقة وهي تخوض النزال بسوق تجارة الأفكار في العراق المخطوف لأن كومبارس الصحافة يقدمون الخدمات الصحفية مدفوعة الأجر للحكومة ويكتفون بمجرد لعب دور الهامش لأخبارها بعرض فسادها وتغولها بوصفه منجزات.
وأوضح “الصحفي لايقول فعلت بل بكل تواضع يقول سمعت وشاهدت! أما عندما يقدم الخدمات الصحافية مدفوعة الأجر ويعرضها بوصفها اجابات مطلوبة ويدير ظهره للأفكار المبتكرة والاكتفاء بفكرة ليس ثمة مايمكن أن نتعلمه فإنه سيجعل من الفضاء الإعلامي مقبرة لنفسه كما يحدث مع قطاع طرق قنوات الميليشيات والأحزاب الطائفية في العراق”.
وأضاف “لا يمكن إنقاذ الإعلام من دون الوصول بالعراق إلى المعادلة الصفرية، لأن العملية السياسية بنيت على فرضية غير وطنية، وذلك ما ترتب عليه إعلام غير مخلص لجوهر الصحافة، وتعليم وثقافة وفن”.
وقال كرم نعمة “ذلك لا يعني أن نبقى مكتوفي الأيادي بذريعة أننا لا نستطيع عمل شيء، لا أبدًا، علينا أن نصنع خطابنا البديل كما يحدث الآن في مساحات وسائل التواصل، ومثالنا شباب ثورة تشرين جيل لم يمنح الفرصة الطبيعية لحياة طبيعية رفع أحد أهم وأعمق الشعارات (نريد وطنًا) وغير كل الأفكار والتوقعات أن الشخصية العراقية خاملة لأحزاب وميليشيات طائفية”.

ويجمع صحفيون على أن تسمية “حرية الإعلام في العراق” بالكذبة السمجة، بمجرد تعداد مئات الصحافيين والنشطاء الذين تم اغتيالهم أو اختطافهم وتغييبهم على مدار السنوات الماضية.
ويؤكدون على عدم وجود وسيلة إعلامية في داخل العراق قادرة على ممارسة حرية التعبير في أدنى معاييرها، من دون أن تتعرض إلى هجوم الميليشيات المهيمنة.
وسبق أن قام عناصر من الميليشيات الطائفية بحرق مكاتب قنوات فضائية لمجرد بث تحقيقات تلفزيونية تكشف مكامن الفساد في البلاد إلى جانب الانتهاكات التي تمارسها الميليشيات.
وفي موازاة ذلك وعلى الصعيد السياسي تسعى قوى الإطار التنسيقي إلى تمرير قانون “حق الحصول على المعلومة” في الفترة القادمة إلى جانب قوانين أخرى تكرس الطائفية وتقيد من الحريات دون الالتفات لاعتراضات الأوساط الحقوقية والإعلامية ما دفع العديد من المعنيين بالحريات الصحفية إلى إطلاق حمّلة لجمع تواقيع وإرسال رسالة مفتوحة إلى أعضاء البرلمان تحثهم على اقتراح تعديلات جوهرية على مسودة القانون المثير للجدل.
وجاء في الرسالة أن القراءة الثانية لمشروع القانون جرى قراءتها، بشكل مفاجئ ومن دون أخذ الملاحظات العديدة التي أبدتها منظمات مدنية وصحافيون ومختصون، والتي أقرّت تعارض المشروع حتى مع الدستور الذي يقولون أنهم وضعوه لتأمين الحرية العامة وحرية التعبير التي توجب الحصول على المعلومات من دون قيود، فضلا عن المعايير الدولية، والتي وقّع عليها العراق، ومن ضمنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بل إن بعض بنوده تقيّد وبشكل غريب حق الحصول على المعلومات في ملفات عديدة وبما يتعارض مع المصلحة العامة.
ونبّهت المنظمات غير الحكومية والحقوقية الوطنية والدولية الناشطة في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، إلى “خطورة تمرير المشروع بصيغته الحالية دون النظر بجدية للتوصيات المقدمة من قبل المنظمات المحلية والدولية المتخصصة في هذا المجال، ودون إخضاع بنوده إلى استشارات دقيقة وواسعة، رغم ان المشروع يرتبط بمصالح العراقيين جميعا، وليس المجتمع المدني والإعلامي فقط”.
وبينت أن “محاولات تمرير المشروع مثلما تم اقتراحه من قبل الحكومة على الرغم من تضمنه مواد خطيرة تمثل تقييدًا يمس بجوهر الحق في الحصول على المعلومة، وتصل إلى حد التناقض مع أصل هذا الحق ومع الهدف الذي ينبغي أن يشرع من أجله”.
ووفق الرسالة المفتوحة فإن “المادتين 11 و12 (المتعلقتين بالمعلومات المستثناة من الحصول عليها) والمادة 13 (المتعلقة بالمعلومات الواجب نشرها استباقيًا) تحتاج إلى مراجعة كاملة ودقيقة، فالمادة 11 بصيغتها المقدمة تفتقد الى التوازن الدقيق بين حق عامة الشعب في المعرفة والوصول إلى المعلومات، والحاجة إلى حماية المصالح الفردية والعامة الهامة الأخرى”.
وتستثني المادة 11 (المعلومات ذات الطبيعة التجارية أو الصناعية أو المالية أو الاقتصادية والمعلومات عن العطاءات والاتصالات والمراسلات الداخلية، ومداولات مجلس الوزراء والمجالس الوزارية والمداولات الخاصة بعمل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة وغيرها الكثير)، من حق الوصول على المعلومة، دون بيان غاية مشروعة محددة تمنع الحصول عليها.