هل سحقت رجولة إيران الجيوسياسية؟
أستخدم جيريمي شابيرو مصطلح “الرجولة الجيوسياسية “Geopolitical Manhood في تحليل صراع إيران وإسرائيل، وكأن ذاكرة التحدي السياسي الإيراني في أزمة وهي تتقبل الإذلال العسكري مرة بعد أخرى.
لن نجد الكثير من استخدام هذا المصطلح بالمعني الأدبي الذي استخدمه شابيرو الباحث الأمريكي ومدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لكن يتم تداوله بالمفاهيم السياسية التقليدية وعقيدة الجيوش، ويمكن أن نتحدث هنا عن مصطلح “الرجولة العسكرية” وهو مصطلح صاغته الباحثة السياسية الأمريكية سينثيا إنلو. ويستمد هذا النموذج جذوره من مظاهر القوة. فالسياسيون الذين يمارسون “الرجولة العسكرية” يعتقدون أن القوة العنيفة هي الحل الأكثر فعالية للاضطرابات السياسية، ويتعلمون أن العدوان أمر طبيعي ولا مفر منه.
يمكن أن نجد أيضا ما يجعلنا أقرب من هذا المصطلح عند السياسي والباحث البريطاني السير هالفورد ماكيندر أول عميد لمدرسة لندن للاقتصاد، ويُعتبر أحد آباء الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجية. الذي ينظر إليهما بمفاهيم الربح والخسارة، والافتتان برموز القيم المتمثلة في السلطة والرجولة والعظمة العسكرية.
بيد أن شابيرو، لا يعني ذلك أبدا وهو يشير -ضمنيا- إلى خامنئي ونتنياهو، بل يتساءل عن المعنى الغريزي وليس السياسي، وهو ما يتعلق بالإذلال وتعمد الإهانة حتى الانصياع السياسي، ذلك هو صراع “الرجولة الجيوسياسية” عندما يتعلق الأمر بغطرسة وغرور نتنياهو والأكاذيب والتقية السياسية عند خامنئي.
إن كلاً من إسرائيل وإيران حريصتان على استعادة ما يسمى بتأثير الردع الذي تعتقدان أنه يأتي مع الضربات الانتقامية. وكما يرون، فإن هذا يعزز من قدرة كل منهما على ترهيب الأخرى ويسمح لهما بالحد من قوة كل منهما، وهو ما أطلق عليه شابيرو “رجولتهما الجيوسياسية” فنتنياهو وخامنئي يرفضان إظهار الضعف، مما يجعل التفاوض معهم صعبا. عندما شعر العالم بانكسار سطوة وغرور الجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر أنتظر نتنياهو حتى يصل إلى عملية اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في داخل العمق الإيراني ومن ثم زعيم حزب الله اللبناني حسن نصرالله ليقول، إننا ليس كما اعتقدتم في السابع من أكتوبر مجرد خيوط عنكبوت، بل أقرب إلى الفولاذ!
بينما حتى الآن لم يجد خامنئي ما يعبر به عن “رجولته السياسية” بغير جمل مهادنة يرى فيها لا ينبغي المبالغة في تأثير الهجوم الإسرائيلي على إيران ولا التقليل من شأنه، دون أن يدعو إلى رد انتقامي رادع. وطالما أكتفي بالقول “الأمر يعود للسلطات لتحديد كيفية ايصال قوة وإرادة الشعب الإيراني إلى النظام الإسرائيلي واتخاذ إجراءات تخدم مصالح تلك الأمة والبلاد”!
في الحديث عن المصالح يتناسى خامنئي عن عمد أنه على مدار عقود كان كل كلامه عن الشيطان والسرطان الإسرائيلي وتحرير القدس، يعبر فيه عن “الرجولة المفرطة” في صناعة الخطاب السياسي وممارسة الحكم الاستبدادي.
وحقيقة الأمر أن إيران تواجه معضلة بعد الضربات الإسرائيلية. إذا اتخذت إجراءات انتقامية، فإنها تخاطر بمزيد من التصعيد في وقت يعاني فيه اقتصادها، وتتزايد نقمة شعبها وانهيار أذرعها الميليشياوية في المنطقة، ويصبح ضعفها العسكري واضحا، ومن ثم تصبح مسألة خلافة خامنئي على المحك.
وإذا لم تفعل ذلك، فإنها تخاطر بأن تبدو ضعيفة في نظر نفس هؤلاء الحلفاء بعد أن خذلت حزب الله في لبنان وتخلت على قادته واحد بعد الأخر ليقتلوا تحت القصف والاغتيال الإسرائيلي.
لكن أين ذهبت الأصوات الأكثر عدوانية في الحرس الثوري تجاه إسرائيل وما يحيط بالمرشد الأعلى؟ فقد أكتفي قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي بوصف الهجوم الإسرائيلي “سوء تقدير وعجز” محذرا الدولة العبرية من “عواقب مريرة لا توصف”.
لقد أوضح المسؤولون الإيرانيون بما فيهم الرئيس مسعود بزشكيان ووزير الخارجية عباس عراقجي أنهم لا يريدون حربا مباشرة مع إسرائيل. إنهم يريدون الحفاظ على أذرعهم، أو ما يسمى بحلقة النار حول المنطقة من العراق حتى اليمن.
كانت تلك الرسالة التي أوصلها وزير الخارجية بشكل لا لبس فيه الى مصر ودول الخليج العربي. في نوع من الخنوع السياسي لتجنب التصعيد. وكأنه يقول لهم انقلوا هذا الكلام لإسرائيل على لساننا!
وإذا كان علينا في النهاية أن نبحث في طهران عن “الرجولة الجيوسياسية” التي اقترحها علينا جيريمي شابيرو، فأنه يترتب علينا تنشيط الذاكرة أكثر، فبعد ثماني سنوات من الحرب تحت شعار تحرير القدس يبدأ من كربلاء! خضع المرشد الإيراني آنذاك الخميني واقر بأنه سيتجرع السم في وقف إطلاق النار مع العراق عام 1988، وخامنئي ليس نسخة مختلفة عن الخميني، عندما يتعلق الأمر بما تسميه إيران “التقية السياسية والعسكرية”، أو كما يقول ديفيد ماكوفسكي، زميل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إن رغبة الولايات المتحدة وإسرائيل هي أن يتحول الصراع مع إيران “مرة أخرى إلى حرب خفية وليس حربًا علنية. في عالم اليوم، سيكون هذا إنجازًا. فأنت لا تنهي العداوة، بل تضعها تحت السيطرة”.
لكن عن أي نوع من العداوة نتحدث عندما يتعلق الأمر بتاريخ إسرائيل مع إيران، فـ “إيران كونترا” ليس الاجابة الوحيدة على هذا السؤال!