لصوصية الأحزاب تبدد حلم مترو بغداد وتخرج قطاع النقل السككي عن الخدمة
لا تلبث فضيحة فساد أن تكشف في العراق حتى تلحق بها أخرى، فبعد "سرقة القرن" وما تلاها من قضية سرقة الأموال المخصصة لتأهيل السكك الحديدية جاءت فضيحة الشركات الوهمية التي أحيل لها عقد إنجاز مشروع مترو بغداد لتتصدر حديث الشارع العراقي.
بغداد – الرافدين
فتح الكشف عن تزوير وثائق الكفاءة المالية للشركات المتعاقدة على تنفيذ مشروع مترو بغداد بقيمة 25 مليار دولار الحديث مجددا عن حجم الفساد المالي والإهمال لقطاع النقل السككي الذي بات شاهدًا على سوء الإدارة والهدر في المال العام للحكومات المتعاقبة بعد 2003.
وجاء في وثيقة لهيئة الاستثمار أن الهيئة استلمت كتابا من مصرف دويتشة بنك الالماني يؤكد عدم صحة صدور اي كتاب تمويل لمشروع مترو بغداد كما يدعي ائتلاف شركات فاسخود وونتر كابيتال Vaskhod & Wonter الدولي، الفائز بالفرصة الاستثمارية لتصميم وتنفيذ وتشغيل وصيانة وتمويل ونقل ملكية (DBOMFT) لمشروع مترو بغداد.
وعدت الهيئة الكتاب الذي جلبه الائتلاف الذي فاز بالتقييم كتابا مزيفا في أحدث فضيحة لحكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني التي تصف نفسها بأنها حكومة خدمات وأن العام الحالي هو عام الإنجازات.
وقالت عضوة هيئة النزاهة النيابية، سروة عبد الواحد إن ائتلاف شركات فاسخود وونتر كابيتال الدولي المتورط كان قد روج لمشروع بقيمة 25 مليار دولار، وأن هذا الائتلاف “شركة نصب واحتيال”، مشيرة إلى أنه لا يوجد مصرف عالمي يمول مشروعًا بهذا المبلغ الكبير.
وأضافت عبدالواحد، في منشور لها على منصة أكس، أن “الأمر أصبح الآن مكشوفا بعد إصدار صحة الصدور”.
وقالت “يجب على الجهات المختصة سحب الإجازة التي منحت لائتلاف شركات فاسخود وونتر كابيتال الدولي، كما يجب محاسبة الشركة وفرض غرامات عليها بسبب النصب والاحتيال على العراق”.
وطالبت بإحالة المسؤولين الذين ساهموا في إبرام العقد إلى التحقيق، مشيرة إلى مواصلة الجهود الرقابية في هذا الملف.
ويعزو عراقيون أسباب تعطل إنجاز “مترو بغداد” منذ عقود، لأسباب عديدة أبرزها الفساد المالي وضعف التخطيط، حتى بات الحديث عنه مدعاة للتندر، لاسيما وأن كل الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال وعدت بإنجازه لكنها أخلفت الوعد.
ووفقًا لبيان صادر عن مجلس الوزراء في حكومة السوداني مطلع العام الجاري فإن الأخيرة “وجّهت باستكمال المشاريع التي تأخر الشروع بها وضمنها مشروع مترو بغداد، كما وافق المجلس على إدراج إعداد التصاميم والإشراف على تنفيذ المشروع، ضمن جداول الموازنة الاستثمارية لأمانة بغداد لعام 2024”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها إدراج مشروع المترو ضمن خطة تطوير بغداد، إذ سبقتها في سنوات 2007 و2013 و2020، إلا أن أي تحرك جدي على الأرض لم يتحقق على الرغم من تقديم شركة فرنسية عام 2020 خطة عمل للحكومة السابقة تتعلق بالمشروع.
وبحسب مصادر حكومية، فإن “السوداني طلب من الجهات المتخصصة، من بينها أمانة بغداد ووزارات النقل والإعمار والإسكان والتخطيط، أن تستكمل إجراءاتها كافة خلال 4 أشهر فقط”.
وبينت المصادر أن “مدة إنجاز المشروع قد تستغرق عدة سنوات، كما أن الخطة الأولية لإنجازه تبين أنه سيكون معلقًا وليس تحت الأرض”.
ويشكك خبراء ومختصون بالتصاميم الأولية التي نشرتها بيانات رسمية لمشروع المترو، والتي تعود أغلبها إلى عام 2013، بعدما دخلت عليها بعض التعديلات بالنظر إلى التوسع العمراني وظهور أحياء سكنية وتجمعات بشرية جديدة، فهو يمتد إلى 22 كم، ويضم نحو 14 محطة داخلية معلقة.
ويرى الباحث في مجال الطاقة دريد عبدالله أن مشروع مترو بغداد لا يعدو سوى كونه خطوطاً على الورق بين مناطق بغداد رُسمت على نحو متعجل بلا أدنى فكرة عن الكثافة السكانية للمناطق التي تمر بها خطوطه، ولا نوعية الأراضي التي يستهدفها المشروع.
وأكد عبد الله “ليست هناك أية دراسة جدوى، وهذه الحالة النادرة في مشاريع النقل، ومنها المترو لا تحدث كثيراً أو هي لم تحدث سابقًا”.
وقارن بين مشروع مترو الرياض ومترو بغداد من ناحية المفاوضات حول التصميم ومراحل التنفيذ والشركات المساهمة ومصادر التمويل، قائلاً إن “مترو الرياض استلزم 15 شهرًا من المفاوضات ثم التصميم والبناء في 10 أعوام وبمشاركة 52 شركة استشارية تتضمن البناء وتجهيز عربات وأنظمة وحفر بكلفة 22.5 مليار دولار”، بينما مترو بغداد “استلزم شهراً لتحديد خطوطه وشهرًا آخر لتقديم العطاءات بلا مصدر للتمويل وستة أشهر لدراسة ثلاثة عروض لثلاث شركات محلية”.
أما فيما يتعلق بخطوط المترو السبعة، فوصفها عبدالله بأنها “خطوط فوضوية”، منوهًا إلى أن واحدًا منها يسير فوق أحد تقاطعات الرصافة تحت طريق مكتظ لا يزيد عرضه على ثلاثة أمتار والأدهى أن هذا التقاطع يضم محطة نزول وصعود”.
ويختم عبدالله واصفًا الأرقام التي عرضتها هيئة الاستثمار حول عدد المسافرين السنوي وتفاصيل حركة عربات المترو بـ”بالمضخمة بصورة غير منطقية”، متسائلا عن ماهية الهدف من الإعلان عن مشروع المترو وهل هو إعلامي دعائي أم خدمي حقيقي؟.
ويرى الباحث في مجال الطاقة أن هناك مشكلات أخرى أغفلها المشروع وهي كيف يمكن بناء شبكة مترو فوق سطح الأرض داخل عاصمة تعاني الاكتظاظ السكاني، وكيف سيعالج المستثمر قلة الأراضي القابلة لإنشاء خطوط المترو عليها، إذ إن امتلاك هذه الأراضي من قبل المستثمر لإكمال المشروع يحتاج إلى ثروات طائلة تعادل كلف مشروع المترو.
ويعزز الإهمال لخطوط السكك الحديدية في عموم البلاد من الشكوك المتعلقة بإمكانية بناء “مترو بغداد” الذي تزعم الحكومات المتعاقبة بين الحين والآخر التخطيط له.
وتمتلك شركة السكك الحديدية 28 قاطرة كمجموع كلي في عموم العراق، يعمل منها 18 فقط، بينما 10 عاطلة عن العمل تتضمن 4 قاطرات قيد الصيانة بحسب وزارة النقل الحالية.
وفي الوقت الذي يمتلك العراق عددًا من القاطرات العاملة، فإن لديه قاطرات معطلة، تتوزع في مواقع معمل السماوة، ومأوى بغداد، ومعامل الشالچية في ظل تأكيد الوزارة على الحاجة لشراء نحو 50 قاطرة حديثة لتطوير قطاع النقل وسط حديث عن تقادم خطوط السكك جراء الإهمال.
ويشير عضو لجنة النقل والاتصالات، زهير الفتلاوي، إلى إن 70 بالمائة من خطوط السكك الحديدية متهالكة نتيجة الحروب والتجاوزات على الخطوط.
وأضاف الفتلاوي أن قطاع السكك الحديدية يعاني من تقدم بطيء جدًا في مستوى الخدمات المقدمة للمسافرين فضلًا عن تهالك وقدم البنى التحتية المتمثلة بخطوط السكك الحديدية والقطارات والعربات.
وأوضح أن القطارات والعربات تفتقر إلى السرعة والراحة والأمان، ما أدى إلى انخفاض الطلب على هذه الخدمة المهمة.
وسبق أن أكدت مصادر حكومية ونيابية أن وزارة النقل في حكومة السوداني بالشراكة مع نور زهير أبرز المتهمين بقضية سرقة القرن تورطوا بفضيحة مالية تتجاوز خسائرها سرقة القرن نفسها.
وكان رئيس هيئة النزاهة القاضي حيدر حنون قد أثار الرأي العام بإعلانه اكتشاف هدر للأموال ضمن سرقة القرن في عقد تطوير السكك الحديد بقيمة 18 مليار دولار.
وبيّن حنون الذي جرى أقالته لاحقا، خلال مؤتمر صحفي عقده بمحافظة أربيل شمالي العراق في الرابع من شهر أيلول الماضي أن ملف عقد السكك الحديد سلم إلى القاضي ضياء جعفر المختص بقضايا النزاهة منذ شهرين، دون أي تقدم في الإجراءات التحقيقية.
وأضاف أن سكك العراق جرى بيعها بالكامل من خلال قضية سرقة القرن التي لم يتم النظر بها من قبل مجلس القضاء الأعلى والقاضي المخول بملفات النزاهة ضياء جعفر، منذ شهرين، مطالبا السلطات القضائية باستبدال قضاة هيئة النزاهة سنويًا.
وعلق النائب ياسر الحسيني على هذه الفضيحة بالقول إن “ملف الفساد المتعلق بتأهيل سكك الحديد يمثل أضعاف سرقة القرن”.
وبين الحسيني أن الملف يرتبط بتعاقد الشركة العامة للسكك الحديدية مع 3 شركات تضامنية، وهي دايو الكورية، والنحالة، والمها لصيانة وتأهيل السكك الحديدية القديمة، وليست سككا كهربائية أو حديثة.
وأوضح أن العقد لا زال قانونيا وملزما للدولة، وأنه، أي العقد، يعتبر من عقود الإذعان للشركات ولم يتم اتخاذ إجراءات حقيقية وفاعلة لإنهاء الفساد فيه “بعكس ما يصرح به مستشارو رئيس الوزراء بنفي هذا الملف”.
وأضاف أن العقد لا يقتصر على بيع سكك الحديد وحسب وإنما بيع النفط معها “بالتالي هو ملف خطير وسنعمل على رفد الإعلام بوثائقه وبشكل واضح بما يدحض محاولات نفيه”.
وشدد النائب على أن القضاء -في حال ذهب إلى فسخ العقد- فإن “العراق سيكون ملزما بدفع قيمة العقد وفوائده والتي تتجاوز 22 مليار ونصف المليار دولار، مما يعني أن هذا الملف بحاجة إلى وقفة جادة ولا نرى أي جدية من الحكومة في مواجهة ملفات فساد كهذه”.
أما المحلل السياسي الدكتور محمد حارث المطلبي فقد أكد من جانبه أن سرقة السكك الحديدية تأتي ضمن إطار منح استثمارات بعقود رخوة لا تتضمن حفظ حقوق الدولة ولا برامج محددة للاستثمار والبناء.
وقال المطلبي إن “سرقة السكك الحديد تأتي ضمن الخيمة القانونية التي وفرها ما يعرف بالاستثمار، وهي لا تبتعد كثيرا عن السرقات التي تجري فيما يعرف بالاستثمارات في السكن العمودي والمولات وغيرها من المشاريع التي ظاهرها استثمار وباطنها توزيع موارد الدولة بشكل غير مدروس وبأثمان لا تساوي حقيقتها ثم يتبين لاحقا أن هناك سرقات في هذا المشروع أو ذاك”.
واتهم المحلل السياسي هيئة النزاهة بـ”الانتقائية الواضحة في ملاحقة المخالفين او السارقين، حيث تعطي للبعض مرونة في التهرب من تبعات سرقاتهم وقدرة على الإفلات بتلك الأموال” معبرا عن أمله في أن تكون السلطات القضائية أسرع باكتشاف هذه الحالات ورصدها قبل أن تصبح واقع حال يفلت مرتكبوها من قبضة العدالة.
وحتى أواسط تسعينيات القرن الماضي، شكل القطار الوسيلة الأكثر إقبالًا بين العراقيين لرخص التكاليف وقلة الحوادث مقارنة بما تسجله العجلات على الطرق العامة وخصوصًا السريعة والدولية منها.
إلا أن قطاع النقل السككي والقطارات في العراق، تأثر كثيرًا بالظروف التي عاشتها البلاد إبان الحصار الاقتصادي في تسعينات القرن الماضي، وما فرض من فقدان قطع الغيار اللازمة لإدامة تلك الخطوط واعتماد مواد محلية الصنع كبدائل اضطرارية قبل أن يفقد هذا القطاع الحيوي مكانته بعد تراجعه نتيجة الإهمال بعد الاحتلال.
ويعد العراق من أوائل دول الشرق الاوسط استخدامًا للقطارات بنقل المسافرين والبضائع. حيث سجلت أول رحلة تم تسييرها كانت من بغداد إلى سميجة (الدجيل) جنوب مدينة سامراء سنة 1914 بينما تم تسيير أول قطار بين بغداد والبصرة سنة 1920، وأول قطار بين بغداد وكركوك سنة 1925، وأول قطار بين بغداد والموصل تم تسييره سنة 1940.
ويعود تاريخ إنشاء السكك الحديدية في العراق إلى أوائل مطلع القرن العشرين، على يد الألمان، ولكنها طورت فيما بعد من قبل البريطانيين وامتدت إلى نحو أكثر من ألفين كم شمالاً وجنوبًا وغربًا.
وتقع المحطة العالمية أو ما تسمى بـ”جوهرة بغداد”، غرب العاصمة، وهي المركز الرئيس لتجمع السكك والقطارات في البلاد، وقد تميزت ببنائها اللافت وطرازها المعماري، والتي أشرف على وضع تصاميمها وتنفيذها بشكل مباشر شركات إنجليزية، واستغرق العمل فيها نحو 4 سنوات، بدءًا من عام 1948.