صراع لصوص الدولة يتحول إلى ابتزاز في حرب تسريبات صوتية
تعد التسريبات الصوتية جزءًا من صراعات معقدة في المشهد العراقي، بعدما أماطت اللثام عن تحديات تواجه العراق في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني وعدم مبالاة القوى الحاكمة ضمن نظام المحاصصة بالسلم الاهلي.
بغداد – الرافدين
أخذت عاصفة التسريبات الصوتية في العراق بالانتشار على نطاق واسع في الآونة الاخيرة بعدما تضمنت تسجيلات لبعض المسؤولين الحاليين والسابقين يتحدثون فيها عن قضايا سياسية، اقتصادية، وأمنية حساسة ضمن إطار الصراع المحتدم داخل نظام المحاصصة الذي باتت هذه التسريبات آخر الصيحات الدالة على تداعيه.
وعلى الرغم من أن أساليب التجسس والتنصت موجودة في أغلب المجتمعات على مستوى العالم، إلا أنها تفشت في العراق بشكل كبير بعدما أصبحت التسريبات الصوتية ظاهرة طارئة وأداة متطورة تستخدمها القوى المتناحرة على المكاسب والمغانم في إسقاط خصومها، مستفيدة من التطور التكنولوجي وجهل البعض بتقنياته وسلوك الفساد المستشري داخل المنظومة السياسية الحاكمة.
وخلال الأيام الماضية بدأت وتيرة تداول التسجيلات الصوتية المسربة تتخذ منحنى تصاعديا إذ لايكاد يمر يوم دون تداول تسجيلات جديدة كان آخرها التسجيل المنسوب إلى زعيم “كتلة السيادة” خميس الخنجر، يشكو فيه إلى رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني من بعض الإجراءات التي تجري في دائرة الأوقاف بالوقف السُني لاسيما محاولات تعيين نجل رئيس البرلمان الحالي محمود المشهداني، وما يحدث من بيع لبعض العقارات، وفقًا للتسجيل.
وبين الخنجر في التسجيل المنسوب له إنه “سمع وجود تحرك من أجل عبد الباسط ابن محمود المشهداني، وإذا أتى هذا الشخص إلى هيئة الاستثمار في الوقف السني، فهذا يعني سوف تكون هناك فضيحة لا مثيل لها”.
وتابع “ستحصل سرقات لا يعلم بها إلا الله، وستكون فضيحة مدوية، وأعلم من الآن ما هي اتفاقاتهم، وهذه كارثة، لذلك اترجاك إيقاف هذا الموضوع”.
وقبل تداول هذا التسجيل بأيام، انتشر أيضًا، تسجيل صوتي منسوب إلى رئيس هيئة المستشارين في مجلس الوزراء، عبد الكريم الفيصل، يتحدث فيه عن أحد المشاريع الاستثمارية، وتطرق إلى استلامه مليون دولار، دون الإشارة إلى طبيعة المال الذي استلمه.
وقال الفيصل في التسجيل الصوتي المنسوب له والذي كان يتحدث فيه مع شخص آخر، إنه يريد عمولات بنحو (مليار ونصف المليار دينار عراقي) وليست مليون دولار، كالمرة السابقة، كما طالب الشخص الذي يتحدث معه، بإيجاد مشروع صناعي جيد، فيما سيسعى للحصول على تراخيص لهذا المشروع من رئاسة مجلس الوزراء.
وبعد ساعات على تداول التسجيل المسرب، أفادت وسائل إعلام محلية، بتحرك الادعاء العام في محكمة الكرخ الثانية للتحقيق في القضية.
ودفع هذا التحرك القضائي، رئيس هيئة المستشارين عبد الكريم الفيصل، إلى نفي صلته بالتسريب، كما أنه نفى سحب يده من العمل، بعد أن انتشرت أنباء عن ذلك.
ويرى المحلل السياسي علي البيدر أن “الهدف من هذه التسريبات تحقيق ضغط سياسي ومساومات وابتزاز سياسي، وهي نتيجة حتمية لغياب حالة النضج في المشهد السياسي، وتؤثر بالمجمل على الأوضاع في البلاد”.
وأضاف “كلما كانت هذه التسريبات بهدف الشخصنة وليست بهدف الإصلاح وكشف الفساد أو الانتهاكات الإنسانية، فستكون ضمن حرب تسريبات لا تنتهي، وقد تؤدي إلى أزمات متلاحقة”.
وقبل تسريبي الخنجر والفيصل، انتشرت مجموعة كبيرة من التسجيلات الصوتية، كان أبرزها تلك التي انتشرت لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي التي بثها المدون علي فاضل على حسابه الشخصي في موقع “إكس” والتي تضمنت ملفات خطيرة تتعلق بعمل المالكي على تشكيل ميليشيات جديدة لحمايته، وعداوته لمقتدى الصدر وتهديده بضربه في معقله بحي الحنانة في النجف.
وأنكر المالكي وقتها تلك التسريبات الصوتية وقال إنها “مفبركة”، حيث وصف فيها ألوية وفصائل الحشد الشعبي بـ “أمة الجبناء”، معترفًا بأن أعدادًا كبيرة من هؤلاء المقاتلين غير موجودين ووصفهم بعبارة “الفضائيين”، وأن مرتباتهم تذهب إلى خزائن الأحزاب.
وتطرق المالكي في حديثه بحسب التسجيلات التي نشرها المدون علي فاضل، بنزعة طائفية عُرف بها ومثلت هويته السياسية، وتحدث عن تسليح عشائر ومجاميع يقدَّر عددها بعشرين ألف مقاتل على الأرض، تطلب منه دعمًا ماليًا ولوجستيًا وغطاءًا قانونيًا، وقد وعدها بتوفير ذلك، في سبيل حمايته من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي يريد أن “يذبح الجميع”، وفقًا للمالكي.
وتحدث عن الفساد المالي والإداري في هيئة الحشد، وعن كون ميليشيا بدر التي يتزعمها هادي العامري، تحصل على مرتبات مالية لنحو مائة ألف شخص، في حين أنها لا تملك هذا العدد على الأرض.
وعقب هذه التسجيلات، طلب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، من المالكي تسليم نفسه ومن يلوذ به من الفاسدين إلى الجهات القضائية.
وفي عام 2022 عندما أثيرت الضجة بشأن التسريبات الصوتية لنوري المالكي، قرر القضاء إخلاء سبيله بكفالة، بعد مثوله أمام محكمة تحقيق الكرخ الثالثة في مزحة سوداء شنيعة كما وصفها العراقيون.
وزعمت مصادر مقربة من المالكي انه مثل أمام محكمة تحقيق الكرخ الثالثة، وتم تدوين أقواله ابتدائيًا وقضائيًا وقرر القاضي إخلاء سبيله بكفالة من دون أن يعلن القاضي مسوغات اخلال السبيل وعما إذا كانت جرائم الفساد وتأجيج الفتنة الطائفية والولاء لإيران التي أعلن عنها في التسريبات لا تتطلب المحاكمة.
وكان فريق “التقنية من أجل السلام”، وهو أشهر فريق فني عراقي، قد أكد صحة التسجيلات المنسوبة إلى المالكي، وقال إنها “ليست مفبركة”.
وبين الفريق التقني في تقريرٍ نشره حينها، أنه “على الرغم من النفي المتكرر للمالكي لتلك التسجيلات، وادعائه فبركتها عبر اقتباس مقاطع من صوته وتركيبها لتظهر بهذا الشكل، إلا أن الملاحظات التي توصلنا لها حول المقطع الصوتي تثبت عكس ذلك”.
وفي ذات السياق يرى مؤمل الجبوري وهو رئيس شبكة الإعلام الرقمي في العراق، أن “هناك جهل رقمي كبير لدى غالبية الطبقة السياسية في العراق، يتجلّى في الاتهامات المتبادلة فيما بينهم بما يخص أساليب التجسس والتنصت، بعضها كان اتهامات هوليودية ليست مبنية على أي أساس تقني وغير مدعومة من مختصين بالمجال التقني”.
واضاف “كما يتّضح عدم المعرفة بالتفاصيل التقنية عند محاولة إنكار التسجيل على أنه تزييف باستخدام تقنيات التزييف العميق والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي ثبُت خطأه أكثر من مرة بعد أن أثبتت التحقيقات القضائية صحة بعض التسجيلات الصوتية التي سربت لشخصيات بارزة”.
ولم تكن قضية التسريبات الصوتية الخاصة بنوري المالكي وحدها من أثارت الرأي العام في العراق حيث نقلت مصادر صحفية وسياسية، معلومات عن تورط موظفين حكوميين بـ “التجسس” على شخصيات سياسية، عُرفت باسم شبكة (محمد جوحي) وهو ابن شقيق رائد جوحي مدير مكتب رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي.
لكن القضاء أعادة الكرة مرة أخرى وأعلن في بداية شهر أيلول الماضي، أن المعلومات المتداولة بشأن قضية “جوحي” غير دقيقة، ولم تظهر حتى اللحظة أي معلومات جديدة عنها.
وتتهم هذه الشبكة ببدء أعمالها أواخر العام الماضي، بالتجسس والتنصت على كبار المسؤولين بهدف ابتزازهم، وتفيد التقارير بأن أجهزة الأمن قبضت على سبعة من المشتبَه فيهم، ومنهم محمد جوحي معاون مدير عام الدائرة الإدارية في مكتب رئيس الوزراء وآخر برتبة ضباط في جهاز الاستخبارات العراقي، وفي حوزة الشبكة أكثر من 200 تسجيل صوتي لمكالمات مختلفة ورسائل صوتية ونصية.
وذكرت تقارير متطابقة في اعقاب التسريبات لـ “قناة الرافدين” الفضائية ووكالة رويترز أن إيران مارست دورًا كبيرًا من خلال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني في احتواء قضية “خلية التجسس” المرتبطة بمكتب السوداني والتي تفاقمت الخلافات بسببها داخل الإطار الحاكم.
وكان معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، قد أشار كذلك إلى دخول إيران على خط القصة الجدلية المتعلقة بخلية التجسس داخل مكتب السوداني منذ الأيام الأولى للكشف عنها في آب الماضي.
وأشار تقرير المعهد إلى أن جهاز المخابرات، كان معقلًا للثقة النسبية للولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى، ولهذا السبب كان هذا الجهاز من بين القليل من الكيانات العراقية التي تم الوثوق بها لتسلم معلومات استخباراتية حساسة ومعدات وتدريب من الولايات المتحدة، لكن كل ذلك تغير عندما أصبح السوداني رئيسًا للوزراء.
وشدد التقرير على ضرورة أن “تحاول واشنطن التغطية على الضرر الذي لحق برئاسة الوزراء بزعامة السوداني فعلى مدى سنوات، تجنب المسؤولون الأمريكيون الاعتراف بالعلاقات الوثيقة للغاية التي تربط السوداني بجماعة “عصائب أهل الحق”، وهي منظمة مصنفة كإرهابية إذ لا ينبغي السماح لزعيم هذه الجماعة – قيس الخزعلي، المصنف كإرهابي أيضًا – بالتحكم في الحكومة ، وبالتالي بعلاقاتها مع الولايات المتحدة”.
وأشار إلى إن “أي ظهور لأدلة جديدة قد تشير إلى أن السوداني كان على علم مباشر بحملة التنصّت، يتطلب من واشنطن أن تعدل موقفها تجاه رئيس الوزراء بشكل عام، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الجهات الفاعلة الخبيثة التي قد تستخدم مثل هذه الأدلة بسهولة لاكتساب السلطة عليه، ويجب ألا تكون الولايات المتحدة ملتزمة بالبقاء السياسي للسوداني أكثر من راعيه، الخزعلي، الذي يبدو غاضبًا لأن هذه الفضيحة نشأت عن أخطاء في الأمن العملياتي ارتكبتها الخلية في مكتب رئيس الوزراء”.
وبعد إثارة شبكة محمد جوحي الجدل بين الأوساط السياسية ظهر رئيس هيئة النزاهة القاضي حيدر حنون متحدثًا في مؤتمر صحفي عقد في أربيل مطلع شهر أيلول الماضي قائلًا بلهجة غلب عليها الصراخ “إن هيئة النزاهة مستضعفة”.
ووجه حنون الاتهامات لبعض القضاة والسياسيين بالتستر على سرقة القرن، ولم تمض أيام على عقد المؤتمر حتى ظهرت تسريبات صوتية للقاضي حيدر حنون ورد فيها عبارات عن تلقي رشى وتلاعب بعائدية أراض، الأمر الذي نفاه حنون قائلاً إن هذه التسريبات (كذب وافتراء).
ودفعت هذه التسريبات مجلس القضاء لمطالبة محكمة تحقيق الكرخ الثالثة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون وإجراء التحقيق بخصوص التسجيلات الصوتية المنسوبة إليه قبل أن يصدر السوداني قرارا بإقالته.
وبشأن التبعات القانونية لمجمل هذه التسجيلات الصوتية ضمن حرب التسريبات، يقول المحامي العراقي حبيب عبد إن “أي تسريب صوتي يتضمن اعترافا عن فعل جرمي، يجعل أطراف التسريب تحت طائلة القانون والمحاسبة، وهو قرينة قانونية تستوجب التحقيق، سواء كان مرتكب هذه الجريمة المتحدث أو كلاهما، أو طرف تم ذكره أثناء التسريب”.
وأضاف “الأصل أن التنصت لا يجوز إلا بأمر قضائي، وجمع الأدلة يجب أن يكون وفق الإجراءات المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، لكن إذا تسرب تسجيل يكون قرينة، يمكن أن تكون سبباً للإدانة إذا اقترنت بدليل آخر، أما إذا ثبتت براءة الشخص، يمكنه أن يقيم دعوى بالتعويض على من سرب الحديث وفق المادة 438 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969”.
وتنص المادة 438 من قانون العقوبات العراقي، على أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتین، كل من نشر بإحدى طرق العلانیة إخبارا أو صورا أو تعليقات تتصل بأسرار الحیاة الخاصة أو العائلیة للأفراد، ولو كانت صحیحة إذا كان من شأن نشرها الإساءة إلیهم.، وكل من اطلع من غیر الذين ذكروا في المادة 328 على رسالة أو برقیة أو مكالمة تلفونیة فأفشاها لغیر من وجهت إلیه إذا كان من شأن ذلك إلحاق ضرر بأحد.
وتنص المادة 40 من الدستور الحالي على “حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والإلكترونية وغيرها مكفولة، ولا يجوز مراقبتها أو التنصت عليها، أو الكشف عنها، إلا لضرورةٍ قانونيةٍ وأمنية، وبقرارٍ قضائي”.
وعليه فإن التنصت كما يوضحه الأكاديمي والباحث القانوني الدكتور أسامة شهاب حمد الجعفري يجب أن يكون بقرار قضائي، والقاضي يملك سلطة ضيقة ومحدد بحدود الضرورة القانونية، فالتنصت من دون أمر قضائي يعد جريمة قد يرتكبها موظف عام أو يرتكبها مواطن عادي.
ويتابع “إذا ارتكبها موظف عام فإن عقوبتها السجن لا تزيد على سبع سنوات أو الحبس بموجب المادة (328) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، أما إذا ارتكبها مواطن عادي فأنها تعد صورة من صور الاعتداء على الحياة الخاصة للأفراد، فتكون العقوبة الحبس لا تزيد على سنة والغرامة بموجب المادة (438) من قانون العقوبات العراقي”.