إيران تغير لهجتها أم سياستها؟
غيرت إيران لغتها الإعلامية والسياسية في الأيام الماضية، فتحولت من لغة التحدي إلى إبداء الرغبة في الذهاب إلى التفاهم والمساومة مع الولايات المتحدة، ووصل التراجع حد الحديث عن الاستعداد لتغيير سياستها الخارجية برمتها!
وإذ كان الرئيس الإيراني قد تحدث منذ فتره عن أن الإيرانيين والأمريكيين إخوة، فهو –وغيره من المسؤولين- قد طوروا تلك اللغة، وسار في ذلك عدة أشواط للفت أنظار المتابعين.
وقد ظهر أمر التغيير بوضوح، إذ أغلقت الأفواه تماما، ولم تعد تردد مقولة أن إيران في طريقها للرد على آخر ضربة صهيونية جرت على أراضيها، كما جرى تسريب معلومات تقول إن إيران قد أجلت ما كانت تطلق عليه عملية الوعد الصادق 3.
وانتقل الأمر من تغيير اللغة إلى إبداء الاستعداد لتعديل السياسات التي اعتمدتها إيران من قبل، بل حتى الإستراتيجية التي اعتمدتها في السابق. لقد قال الرئيس الإيراني في لقاء مع الدبلوماسيين الإيرانيين، سنعمل على تعديل السياسة الخارجية برمتها، في إطار الإستراتيجية والأساليب التي يعتمدها النظام.
كما بدأنا نسمع نغمات جديدة تتضمن إشادة بالرئيس الأمريكي المقبل، قبل تنصيبه رئيسا، إذ قال عضو بلجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، أن فوز ترامب يمكننا –أي إيران- من التفاوض بسهولة أكبر مع أمريكا.
وقد كشفت الأيام الأخيرة، أن هذا التراجع في طريقه ليصبح سلوكا عمليا يترجم في تفاهمات أو تراجعا دون مواربة. لقد انهت إيران مرحلة التعامل مع الولايات المتحدة عبر وسطاء ودخلت في تفاوضات مباشرة، إذ التقى إيلون ماسك –المسمى وزيرا بإدارة ترامب- مع ممثل إيران في الأمم المتحدة، وهو ما كشف عن تخلي إيران عن قصص وروايات العداء، وعن رغبة إدارة ترامب في استكشاف أو اختبار مدى التحول الجاري في السياسة الإيرانية.
وقد ترافق إجراء هذا اللقاء مع اختبار عملي آخر جرى باتجاه البرنامج النووي، إذ قام مدير عام هيئة الطاقة الذرية بزيارة إلى طهران، طرح خلالها خطوات محددة مع الإشارة للحرب كبديل. خلال مؤتمر صحفي مشترك مع محمد إسلامي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، قال رفائيل فروسي مدير عام هيئة الطاقة النووية، إن “من الضروري التوصل إلى نتائج ملموسة واضحة تظهر أن هذا العمل المشترك يحسن الوضع، ويبعدنا عن الصراعات، وفي نهاية المطاف، عن الحرب” وهو أطلق تلك الإشارة بعدما كان قال في لقاء مع قناة “سي إن إن” الأمريكية، إن الإيرانيين “يمتلكون كميات كبيرة من المواد النووية التي يمكن استخدامها لتصنيع أسلحة نووية”، مضيفا “ليست لديهم أسلحة نووية في هذه المرحلة”.
وتلك الزيارة جرت وسط أحاديث عن ضرورة توسيع حركة المفتشين والتصريح لهم بمراقبة المواقع النووية، وعن ضرورة إبداء استعدادها، كذلك لوقف إجراءاتها بشأن زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم.
ماذا حدث؟
كما يبدو للعيان أن إيران وصلت لخلاصات واضحة، بأن القادم سيكون مختلفا عما فات. وإنها باتت محاصرة بين خيارين، الأول العودة لمواجهة استراتيجية أقصى العقوبات، والثاني مواجهة قصف منشآتها النووية.
إيران باتت تدرك أن “الصراع الهامشي” بين الإدارة الديموقراطية المغادرة، واليمين الصهيوني الممثل في نتنياهو والمهووسين أمثال سموتريتش وبن غفير، قد انتهت لمصلحة هؤلاء “المهاويس” بوصول ترامب إلى السلطة.
وإن هذا الخلاف الهامشي، ورؤية الديموقراطيين والدولة الأمريكية العميقة بالضرورة الإستراتيجية للحفاظ على إيران قوية –وهو ما منح إيران فرصه للمناورة والتحدي- قد اضمحل الآن.
وبالمعنى الإجمالي، باتت إيران تدرك أن هامش الخلافات لم يعد يسمح لها بالاستمرار في لعبة التحدي، وأن الظروف باتت تستدعى تغييرا في سياستها، وإن لم يعد من طريق أمامها سوى طريق تقديم التنازلات حتى لا تجرفها العاصفة التي تتحضر.
والعاصفة التي تتحضر لا تخيف إيران باعتبارها قادمة من الكيان الصهيوني، بل باعتبارها عاصفة أمريكية. هذا ما استنتجه من ترشيح ترامب لماركو روبيو لوزارة الخارجية، وهو المشتهر بمواقفه المناوئة للصين وإيران، ورأت أنه قادم لتنفيذ آرائه المعلنة بضرورة التطبيق الأكثر صرامة للعقوبات النفطية على إيران وفنزويلا.
وفي الخلفية كان الاكثر خطرا، هو ما قاله ترامب نفسه خلال الحملة الانتخابية. لقد انتقد ترامب الرئيس جو بايدن بسبب تصريحاته التي قال فيها: لا ينبغي لإسرائيل أن تستهدف المواقع النووية الإيرانية. وصف ترامب هذه التصريحات بأنها “أكثر شيء مجنون سمعه على الإطلاق”.
وقال “هذا هو الخطر الأكبر الذي نواجهه. وترك هذه الأسلحة دون التعامل معها ليس الإجابة الصحيحة”.
وعبر عن جزمه بأن إسرائيل يجب أن تضرب المواقع النووية في إيران ردا على إطلاقها للصواريخ الباليستية تجاه إسرائيل !
هكذا وجدت إيران نفسها بين خيارين أحلاهما مر. مواجهة إستراتيجية أقصى الضغوط أو انتظار احتمال قصف منشآتها النووية، فقررت تغيير لغتها وتخلت عن التفاوض غير المباشر، وأعلنت عن تغيير سياستها وإستراتيجيتها، وأسرعت للتفاوض لتقديم التنازلات.