لماذا يتفاقم الانتحار في العراق، أبحث عن فقدان الأمل!
ارتفاع معدلات الانتحار في العراق إلى نحو غير مسبوق وسجلت الجهات الأمنية قرابة 300 حالة انتحار في النصف الأول من عام 2024 دون وجود حلول حكومية للحد منها.
نينوى – الرافدين
اتهم ناشطون مدنيون من مدينة الموصل وزارة الداخلية ومجلس محافظة نينوى بالتعتيم على مشكلة تزايد حالات الانتحار في المدينة خلال السنوات الأخيرة، مؤكدين أن حالات الانتحار العلنية التي تكون جسور نينوى ونهر دجلة مسرحًا لها تتكرر فيما لا يعرف شيئا عن الحالات المخفية حيث لا تفصح الجهات الصحية أو الحكومية عن أي إحصائيات دقيقة بشأن ذلك.
وفي ظل صمت السلطات وتفضيلها عدم القيام بتحقيقات دقيقة في عمليات الانتحار وأسبابها، واكتفائها في الغالب بتحقيق أولي ينتهي بالإشارة إلى أن الضحية كان يعاني من اضطرابات نفسية، يرى ناشطون أن الانتحار لم يعد مجرد حالات منفردة سواء في الموصل او العراق بنحو عام، وأنها تحمل مؤشرًا اجتماعيًا خطيرًا في مجتمع محافظ يعتبر أن المنتحر ارتكب خطيئة.
وفوجئ المارة على مجسر المثنى في الجانب الأيسر لمدينة الموصل، برجل يطعن نفسه بسكين مرات عدة قبل أن يلقي بنفسه من فوق المجسر ليستقر جثة هامدة على أسفلت الشارع في الأسفل.
وتعاملت الشرطة المحلية في المدينة الواقعة على بعد 405 كم شمال بغداد، وتعد مركزاً لمحافظة نينوى، بتكتم مع الحادث، ولم يصدر عنها أية تفاصيل تتعلق بالمنتحر أو سبب أقدامه على ذلك، مع أنها استمعت للشهود المتواجدين وفقاً لأحد الشهود، الذي قال إن “السلطات تبقي في الغالب حوادث الانتحار بعيدا عن وسائل الإعلام رغم تكررها ووجود شهود عليها كون العديد من المنتحرين يختارون أماكن عامة كالجسور للإقدام على الانتحار ربما في رسالة احتجاج يائس”.
وأعلنت مديرية شرطة نينوى، تسجيل ارتفاع في معدلات الانتحار التي تشهدها المحافظة.
وقالت المديرية إن “حالات الانتحار في نينوى سجلت ارتفاعًا خلال الأعوام الأخيرة، وإن العام الحالي سجل حالات انتحار أعلى من الذي سبقه”.
وأضافت المديرية أنه “في العام الحالي ولغاية مطلع شهر تشرين الأول، تم تسجيل 74 حالة انتحار”، مؤكدة أن “من أهم أسباب الانتحار ودوافعه الحالات النفسية والوضع الاقتصادي السيء والفشل في المجتمع”.
لم يعرف الانتحار عمرًا أو جنسًا محددًا في العراق، حيث بات يقطف الضحايا أطفالا ومراهقين ومسنين وشبانا، رجالا كانوا أم نساءً، مرة ينهي حياتهم بسلاح الفقر والعوز ومرّات بسلاح الضغوط النفسية، فيما تقف الحكومات المتعاقبة عاجزة دون إيجاد معالجات علمية للحد من هذه الظاهرة، باستثناء معالجة واحدة ابتكرتها امانة بغداد بأنها ستبنى أسيجة على الجسور لتمنع الشباب من الانتحار.
وينتظر مشروع قانون مناهضة العنف الأسري في العراق المصادقة عليه في مجلس النواب منذ أكثر من 4 سنوات على إقراره من قبل الحكومة، بينما تشهد البلاد ارتفاعا ملحوظا في نسب الجرائم الناجمة عن العنف الأسري، والتي تتدفع العديد إلى الانتحار.
ويتعامل القضاء العراقي مع حالات العنف الأسري وفق المادة (41- 1) من قانون العقوبات رقم (111 لسنة 1969)، الذي ينص، على أنه “لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالا لحقٍ مقرر بمقتضى القانون، ويعتبر استعمالا للحق: 1–تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عُرفاً”.
المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر، ذكر بأن معدلات الانتحار في العراق وفي الشرق الأوسط مازالت أقل من المعدلات العالمية، بسبب شيوع المعتقدات الدينية والتقاليد الاجتماعية والثقافية التي تؤثر بشكل ما في السلوكيات الانتحارية، على حد تعبيره.
وأشار إلى احصائيات مجلس القضاء بشأن حالات الانتحار في البلاد، المسجلة في الأعوام الأخيرة، هي: 178 حالة في العام 2017، و306 في 2018، و 316 خلال العام 2019، و 233 في 2020.
وهي أرقام يشكك صحفيون ومنظمات مدنية، بدقتها خاصة في ظل نقل وسائل الاعلام ومنصات التواصل، للعديد من الحالات يوميًا.
وبالعودة إلى المتحدث باسم وزارة الصحة، فهو يشير إلى أن إحصائيات وزارته تؤكد وجود 1028 محاولة انتحار في العام 2022 أغلبيتها لإناث.
وأقر بوجود ضعف في التسجيل والإبلاغ عن حالات الانتحار في العراق، عازياً ذلك إلى مجموعة عوامل هي ”أعراف المجتمع الثقافية والدينية، والوصمة الاجتماعية، والصحة النفسية وضعف الأنظمة الخاصة بمراقبة وتقييم الواقع الحالي المتعلق بالانتحار في العراق”.
ويشير مراقبون إلى وجود تناقض في ملف الانتحار بين الأرقام والاحصائيات التي قدمتها وزارة الصحة وتلك التي يقدمها مجلس القضاء الأعلى أو وزارة الداخلية، إذ كان الناطق السابق باسم الداخلية، خالد المهنا، قد أعلن في 2023، أن العراق سجل 772 حالة إنتحار في العام 2022، وان 36.6 بالمائة من المنتحرين أعمارهم أقل من 20 سنة، بينما كانت نسبة 32.2بالمائة من المنتحرين بأعمار بين 20-30 سنة، ونسبة الذكور 55.9 بالمائة، و 44.8بالمائة في العام 2022.
كما أن أيًا من الجهات الرسمية لم تقدم إحصائيات لسنة 2023، على الرغم من تداول وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لعشرات الحالات المعلنة شهريا، في مختلف انحاء العراق.
ما يؤكد ارتفاع معدلات الإنتحار بنحو غير مسبوق، هو إعلان وزارة الصحة في 29 شباط 2024، إطلاق الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار للفترة من 2023 لغاية 2030. مما يعني أن إجراءات تطبيقها كانت قد بدأت منذ العام المنصرم.
وسجلت الأجهزة الأمنية في العراق منذ بداية عام 2024 حتى آيار الماضي، 285 حالة انتحار بين الذكور والإناث في عموم العراق عدا محافظات كردستان العراق، من بينهم منتسبين أمنيين وموظفين حكوميين، فيما كانت بغداد الأكثر بمعدلات الانتحار بحسب الإحصائيات الرسمية.
ويعتقد الباحث في الشأن الاجتماعي خلدون مصطفى، أن “الاستراتيجية المزعومة للوقاية من الانتحار ستكون حبرًا على ورق، ولن تفضي إلى نتائج لأن قرار الإنتحار بيد الشخص الراغب في الإقدام عليه مدفوعا بمشاكله، والحل ليس بمحاولة منع المنتحر من قتل نفسه، بل معالجة المشاكل التي يعاني منها”.
ويوضح أن “معالجة الحالات النفسية تكون عبر التوعية المباشرة، وعبر بث الوعي في المجتمع بأن المرض النفسي شأنه شأن أي مرض آخر يمكن معالجته، ولابد من رفع أعداد الأطباء النفسيين وافتتاح عيادات واقسام نفسية في المستشفيات، وكذلك مكافحة المخدرات وافتتاح مراكز علاج وإعادة تأهيل في جميع المحافظات”.
ويرى أن “الأصل هو معالجة المشاكل التي تسبب الاضطرابات النفسية، وعلى رأسها المعضلات الاقتصادية التي هي المسبب الرئيس في الكثير من حالات الإنتحار، بما فيه تقليل نسب البطالة، من خلال تشغيل الشباب الى جانب تفعيل الأنشطة الرياضية والثقافية وإتاحة الفرص أمامهم للتعبير عن أنفسهم واطلاق مواهبهم”.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل أربعة عراقيين من هشاشة نفسية في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص، في مقابل 209 أشخاص في فرنسا مثلا، مشيرة إلى أن إنفاق العراق على الصحة النفسية لا يتجاوز نسبة اثنين في المئة من ميزانيته للصحة، وذلك رغم حقيقة أنه في مقابل كل دولار أميركي يستثمر في تعزيز علاج الاضطرابات الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، يتحقق عائد قدره خمسة دولارات أميركية في مجال تحسين الصحة والإنتاجية.
وعدّ الباحث الاجتماعي بيار أحمد، حل المشكلات النفسية والقضاء على البطالة أمرًا أساسيا لمواجهة تزايد حالات الانتحار، مبينا أن “المشاكل الاقتصادية وعدم قدرة رب العائلة على تأمين متطلبات عائلته، تؤدي في الغالب الى مشاكل اجتماعية داخل الأسرة، ومع تراكمها تشكل ضغوطا قد تدفع البعض الى التفكير بالانتحار خاصة في حال غياب الحوارات بين الأفراد داخل الأسرة، وهذا يشمل الذكور والإناث على حد سواء”.
وتعتقد وفاء أحمد، من مركز الإرشاد في الشرطة المجتمعية، أن من المهم تحديد ومعرفة الأسباب وراء حالات الانتحار ليمكن بعدها الوصول إلى حلول، وتلفت إلى أن هنالك من ينتحر بسبب الفقر والبطالة، لذا فأن الحل يكمن في تحسين الحالة الاقتصادية من خلال توفير فرص العمل للشباب.
وأن هنالك من الفتيات والنساء من تتعرض وبنحو مستمر إلى العنف داخل الأسرة، وفي حال عدم مساعدتها وإيجاد حل لها، فستندفع الى الانتحار كأقرب حل بالنسبة إليها.
وفضلاً عن المثالين اللذين ذكرتهما تضيف الابتزاز، وتصفها بظاهرة متفاقمة وهي تسبب الكثير من حالات الانتحار حين تعجز الفتاة عن ايجاد حل، في ظل ضعف القانون، وخوفها من عدم تفهم العائلة لها بل واضطهادها أكثر في حال اكتشاف تعرضها للابتزاز والاستغلال من قبل شخص كانت على تواصل معه بأي صورة كانت.
وبالعودة للحديث عن حالات الانتحار في الموصل، يؤكد الدكتور وعد الأمير الأكاديمي المتخصص بالشأن الاجتماعي من جامعة الموصل، بأن “هنالك أسبابًا عديدة وراء حالات الانتحار في نينوى ففضلاً عن الأسباب اقتصادية والنفسية، هنالك أسباب متعلقة بالأسرة ذاتها كتكرر حصول المشاكل وحالات الشجار بين المتزوجين، وفي النهاية الأسرة هي من تتحمل العبء بعد نجاح عملية الانتحار، وأيضاً حين فشلها”.
وبرر الأمير لجوء البعض للانتحار من فوق الجسور “لأنها تشكل رمزية كبيرة بالنسبة لأبن مدينة الموصل، فهي مرتبطة بموروث شعبي وتاريخي، وإنهاء حياته من فوقها يشكل صرخة قوية بوجه المجتمع والأسرة، ورسالة قاسية يفترض أن تقرأ بنحو صحيح من قبل الجميع، سواء الأسر أو الجهات الحكومية المعنية”.
ويستدل فيما ذهب إليه، إلى حادث انتحار رجل مسن من فوق أقدم جسور الموصل المعروف باسم (الجسر العتيق) في 24 شباط 2022. إذ ترك في المكان قصاصة ورقة كتب فيها “وداعا أيها المجتمع!”.
ويرى الأمير بأن التحولات والتغييرات السريعة والكبيرة التي يشهدها المجتمع في نينوى لها تأثير سلبي “فتراجع دور الأسرة وتحديدًا الوالدين، بسبب الظروف المعيشية الصعبة لغالبية السكان، ومشاغل أولياء الأمور سواء كانوا أغنياء أو فقراء والتي تمنعهم من التواصل اليومي والجلوس مع أبنائ
هم وبناتهم، فهم منشغلون على الدوام عن أداء واجباتهم في المتابعة والتربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية ونقل القيم”.
ويرى أن تزايد حالات الانتحار “ناجم عن فشل المجتمع في تلبية حاجاتهم، فمع الإحباطات والأزمات النفسية والاقتصادية المتكررة لايجدون من يمد لهم يد العون، ويشعرون أن الأسرة والمجتمع والدولة تخلت عنهم وهي غير مهتمة بوجودهم، فتأتي أزمة يشعرون معها بعدم قيمة حياتهم”.
ويجد بأن الحل يتطلب اشتراك جميع قطاعات المجتمع وتعاونها “لكن البداية تكون من الأسرة عبر المتابعة والتواصل بين أفرادها، ومن ثم يأتي دور المدرسة، ودور العبادة، ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والناشطين والمنظمات المدنية، والأجهزة الأمنية، وكل جهة تكون على تماس مع حياة الفرد”.
وفي دراسة أعدها الدكتور وسام إبراهيم نعمت السعدي، أستاذ القانون الدولي المساعد وعميد كلية الحقوق بجامعة الموصل، قدمها لوزارة الداخلية، يوضح أن الانتحار “ظاهرة عالمية” إذ يموت 800 ألف شخص بالانتحار في العالم سنويًا، أي بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية.
وينبه الى أن “الرغبة بالانتحار تتشكل لفترة محددة لدى الشخص ويمكن له تخطي هذه المرحلة لكن عندما لا تؤدي محاولة الانتحار إلى الوفاة، يبقى هنالك خطر تكرار المحاولة، ويعد هؤلاء الأشخاص الأكثر عرضة للمحاولات المستقبلية”.
وبشأن الأسباب الكامنة وراءها، يعتقد إضافة إلى تأثير الضغوط الاقتصادية، أن “تفشي المخدرات في العراق، عامل رئيسي في زيادة حالاته، وارتفاع معدلات الجريمة بنحو عام، كون المتعاطي يفتقد في كثير من الأحيان القدرة على التفكير السليم واتخاذ القرار الصحيح”.
ودعا في دراسته إلى تفعيل دور الإعلام في التثقيف، للحد من حالات الانتحار، وتطوير عمل المؤسسات الصحية وخاصة الأقسام المعنية بالصحة النفسية وتهيأتها لمواجهة مخاطر الانتحار، وتوفير العلاجات الطبية للمرضى الذين يعانون من أزمات نفسية واعتلالات عصبية.
وتوفير فرق عمل متخصصة في مجال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من محاولات الانتحار، وتطوير المجالات البحثية، وتفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها بنحو فاعل، مع العمل على زيادة الوعي العام بضخامة المشكلة.