هيئة علماء المسلمين في العراق: التعداد السكاني يجري في ظل حملات إعدام ممنهجة وتغيير ديموغرافي طائفي
هيئة علماء المسلمين تؤكد على أن العراق في ظل نظامه السياسي الحالي يواجه معوقات كبرى عدة في مسألة التعداد السكاني؛ حيث ما زال الفشل هو السمة السائدة لحكوماته المتعاقبة على مدى عقدين من الزمن.
عمان – الرافدين
أكدت هيئة علماء المسلمين في العراق أنّ “عمليات التعداد السكاني تُعد من أهم مصادر البيانات والمعلومات، التي لا يستغني عنها راسمو السياسات والمخططون في أي بلد في العالم؛ لتكون خططهم التنموية في المجالات: الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها؛ مبنية على أسس علمية مكينة؛ حيث يوفر التعداد المعلومات اللازمة لوضع السياسات والبرامج التي تلبي الاحتياجات الحقيقية للسكان، في ظل رؤية سياسية رشيدة تقوم بها الحكومات؛ لتحقيق الأهداف المحددة لخدمة شعوبها وترقيتها”.
وقالت الهيئة في بيان لها بشأن التعداد السكاني المزمع إجراءه يوم 20 تشرين الأول إنه “إذا ما نظرنا إلى التعداد المزمع تنفيذه في العراق خلال اليومين القادمين، في ضوء ما تقدم ذكره؛ فإننا سنجد أن العراق في ظل نظامه السياسي الحالي يواجه معوقات كبرى عدة في هذا الصدد؛ حيث ما زال الفشل هو السمة السائدة لحكوماته المتعاقبة على مدى عقدين من الزمن، في ظل إخفاق مستمر في توفير الاحتياجات الضرورية للعراقيين، وغياب للتخطيط الدقيق وافتقاد للإنجاز المتقن، وفقر مدقع في رسم سياسات متينة أو اتخاذ قرارات ذات جدوى في هذا المجال، فضلًا عن القيام بما يمكن التعويل عليه في التهيئة لمستقبل يحفظ للعراقيين حقوقهم، ويسهم في صيانة نسيجهم المجتمعي وتركيبتهم السكّانية من الآفات التي تكاد تودي بهم.
وأشارت الهيئة بأنه “لا بد لنا من بحث موضوع التعداد في العراق من الناحيتين: المبدئية العامة، والإجرائية الخاصة بالتفاصيل المتعلقة بنوعية البيانات التي سيتم جمعها، فضلًا عن مدى جدية التركيز على الهدف التنموي المفترض للتعداد فقط دون غيره من أهداف ذات مقاصد وغايات سياسية يُراد لها أن تتحقق تحت مظلة إجراء التعداد.
ونبهت الهيئة في بيانها على عدة أمور تتعلق بناحيتي النظر المذكورتين: أولًا: يجري هذا التعداد بالتزامن مع قضايا أكثر أهمية وأدعى لأن تبذل من أجلها الجهود، ومنها؛ بل في مقدمتها ما يجري من حملات الإعدام الممنهجة والمكثفة في السجون الحكومية في البلد، الذي يشهد أوسع عمليات تغيير ديموغرافي على أساس طائفي وعرقي منذ أكثر من عشرين سنة، فيما يرزح عشرات الآلاف من أبنائه في السجون والمعتقلات. علمًا أنه كان يمكن للحكومات المتعاقبة -لو كانت جادة في قضايا التنمية وتوفير أسباب العيش الكريم وتطوير حالة المواطن العراقي- أن تقوم بالتعداد السكاني من سنين مضت، ولا سيما أنها تمتلك قاعدة لا بأس بها من الإحصاءات بفضل معلومات البطاقة التموينية، التي ما زال معمولًا بها إلى اليوم.
ثانيًا: التعداد السكاني شأنه كباقي الموضوعات التي يكثر السجال فيها في الأوساط السياسية؛ سيُفجّر -بلا شك- الخلافات بين القوى السياسية المتصارعة ولا سيما عند إقرار الموازنة العامة، التي ستعتمد القوى السياسية في إقرارها على نتائج التعداد -فيما إذا أعلنت نتائجه بشكل سليـم وصريح- إذ تظـهر فـي كـل مرة خلافات حادة تـتـعلق بالنسب والـمخصصات الـمالية الـممنوحة لكل محافظة في الموازنة، بحكم تعلقها بعدد السكان في كل محافظة.
ثالثًا: إصرار النظام السياسي في العراق منذ نشأته على عدم إجراء التعداد السكاني في مراحل متعددة طوال العشرين سنة الماضية، وسعيه بكل ما يستطيع من أجل إحباط أي تحرك بهذا الصدد؛ ولا سيما في السنوات الأولى من عمر الاحتلال؛ يثير اليوم تساؤلات عدة عن جدوى إجرائه في هذا التوقيت، ومقاصد القوى السياسية من وضع العراقيل أمامه سابقًا؟ ويكفينا هنا التذكير بجهود القوى المناهضة للاحتلال ومنها (هيئة علماء المسلمين) في هذا المجال، ومطالبتها بإجراء تعداد للسكان عام (2004م)، في أثناء الجولات التي كان يقوم بها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة؛ لإيجاد مخرج ما للكارثة السياسية التي حلت بالعراق على يد الاحتلال والقوى المتحالفة معه، ورفض القوى السياسية والمراجع الدينية -حينها- إجراءه بذرائع شتى.
رابعًا: لا توفر إجراءات التعداد في صورتها الحالية أي ضمانات بعدم استعمال بيانات التعداد أو الواقع الذي سيعرضه التعداد عن التوزيع السكاني؛ لأغراض سياسية أو إثنية أو ديموغرافية، أو غير ذلك، مما يمكن أن ينعكس على حجم التمثيل السياسي في ضوء المحاصصة التي تقوم عليها العملية السياسية -بغض النظر عن موقفنا المبدئي منها- ولا سيما ما يتعلق بعدد المقاعد النيابية، وتوزيعها، ومقدار حصص المحافظات من الموازنة، وبما يلقي ظلالًا كبيرة من الشك في مآلات النتائج التي سيتمخض عنها التعداد، ويكشف عن غايات النظام السياسي ومقاصده من سماحه بإجراء التعداد في هذا التوقيت.
خامسًا: عطفًا على النقطة المتقدمة، يبدر تساؤل مهم عن المآلات المتوقعة لعملية التعداد في المناطق التي يصطلح عليها بـ(المناطق المتنازع عليها) في شمال العراق؛ وهل سيتم التعامل مع بيانات التعداد في تلك المناطق تعاملًا سليمًا، بناءًا على (التطمينات) التي يطلقها القائمون على التعداد أم أنها ستفتح الباب لتقرير واقعٍ سياسيٍ ما، يهيئ لاستغلالها في سياقات أخرى؛ فتمهد بذلك لمرحلة أخرى من مراحل الصراع بين أحزاب السلطة في بغداد وشمال العراق، بشأن السيطرة على هذه المناطق الخاضعة للمادة (140) من دستور الاحتلال؟. وهنا؛ لا بُدَّ أن نذكِّر بموقف هيئة علماء المسلمين من دستور العملية السياسية منذ مرحلة كتابته، والذي قلنا عنه -في ذلك الحين-: إنه مليء بالألغام التي يُراد لها أن تفجّر الأوضاع في مراحل مخصوصة ومتى ما دعت حاجة النظام السياسي والقائمين عليه إليها. ومن الضروري هنا تنشيط ذاكرة العراقيين بمن خدعهم في تمرير الدستور من بوابة هذه المادة.
سادسًا: من المتوقع أن تحول الكثير من الوقائع دون تحقيق أهداف التعداد وتفرغه من معانيه، كالتوترات الأمنية في أنحاء مختلفة من البلاد، ووجود عدد كبير من النازحين داخليًا، فضلًا عن ضعف البنية التحتية وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق النائية التي تسيطر عليها ميليشيات وقوى داخلية أو خارجية، وغموض الموقف من كيفية إجراء التعداد في هذه المناطق التي باتت غير مأهولة بالسكَّان؛ بسبب تهجير أهلها بذريعة (الإرهاب)؛ حيث لا تستطيع حتى (الجهات الحكومية) دخول هذه المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة، فكيف بموظفي التعداد، الذين حتى إن دخلوها، فإنهم لن يستطيعوا استيفاء أي بيانات عنها؛ لخلوّها من السكّان! وعلى الرغم من أن أهل هذه المناطق سيتم تسجيلهم في المناطق التي يسكنونها حاليًا كونهم مهجّرين -بحسب ما يعلنه القائمون على التعداد- فإن هذا التسجيل -إن حصل- لن يمنحهم الحق بالعودة إلى مناطقهم الأصلية، ولن يستخدم لمنفعتهم؛ بل يخشى أن تستخدم بيانات التعداد (المكانية) لتثبيت الواقع الحالي للمناطق الخالية، ولا سيما أن الكثير منها مناطق زراعية ليس فيها سند تمليك وهي تدار بواسطة (العقود).
سابعًا: تكتنف عملية إجراء التعداد في ظل الظروف الحالية صعوبات كبرى، وتحوطه عوامل نقص خطيرة؛ ومنها عدم عدّ العراقيين المقيمين في الخارج. وهذا موضوع مهم وفيه تفصيل؛ حيث إن هذا سياق متبع وإجراء معمول به لدى دول كثيرة لا تشمل في التعداد مواطنيها المقيمين إقامة دائمة في الخارج؛ بحكم أن أهداف التعدادات تكون لصالح أغراض التنمية، وهذا يجعل المقيمين في الخارج غير مؤهلين لأن يضيفوا إلى قوة العمل أو الدخل شيئًا، فضلًا عن الصعوبات الأخرى، ومنها: التكاليف المادية الكبيرة، وسكنى المواطنين -في الغالب- بعيدًا عن سفارات بلادهم أو قنصلياتها؛ بحيث يعسر أو يتعذر عليهم الوصول إليها؛ فيؤدي ذلك إلى عدم ضمان العد الشامل.
وأضافت الهيئة أن الوضع في العراق -كما هو معلوم- مختلف، والحال غير مشابه لأحوال غيره من البلاد، ولا سيما أنَّ كثيرًا من أبنائه أخرجوا عنه قسرًا وعلى الرغم منهم، وكون غالبية العراقيين الخارجين هم من أصحاب الإقامات المؤقتة ولم تنقطع صلتهم عن بلدهم، ولا سيما في ظل عدم وجود ضمانات حقيقية بتسجيل من هم في الخارج بصفتهم مقيمين إقامة مؤقتة لأغراض: الدراسة، أو العلاج، أو العمل، وغير ذلك؛ حيث إنَّ إجراءات التعداد تجاه العراقيين المقيمين في الخارج إقامة مؤقتة مثل: الطلبة، أو المرضى، أو العاملين لمدد زمنية محددة ومعلومة؛ ليست بمعزل عن النقد؛ لما قد تترتب عليها من مشكلات فرعية أخرى؛ فإن هؤلاء -بموجب إجراءات التعداد- سوف يُعدون مع أسرهم في العراق بشرط تزويد فرق التعداد بنسخٍ من مستمسكاتهم للتأكد من أنهم عراقيون وأنهم أشخاص فعليون، وأنه لا تتم زيادة أي شخص غير موجود دون توفير مستمسكاته الثبوتية من قبيل: البطاقة الموحدة أو هوية الأحوال المدنية.
وأشارت الهيئة أن هذا الإجراء -على الرغم من ضروريته- فإنه سيولد معضلات كثيرة، فعلى سبيل المثال وكما هو متوقع؛ سوف يحرم كثير من العراقيين المقيمين في الخارج إقامة مؤقتة من الشمول بالتعداد -وفق ضوابط السلطات- لأن مستمسكاتهم بحوزتهم أو على مظنة الاتهام بتزوير صورها في حال إرسالها إلكترونيًا، ولا سيما أن الوزارة المعنية بتصديق ذلك أو تكذيبه؛ هي وزارة الداخلية ومديرياتها المختصة بالأحوال المدنية، التي تعاني أكثر من غيرها من مؤسسات الدولة من الفساد الإداري والمالي، فضلًا عن الاتهامات التي تطالها بالتعاون مع جهات حكومية وحزبية من أجل فرض نمط آخر من أنماط التغيير الديموغرافي، الذي تعمل عليه حكومة الاحتلال التاسعة على نحو غير مسبوق -استكمالًا لخطى الحكومات التي سبقتها- بمنح الجنسية العراقية لأعداد غير محصورة من الأجانب ولا سيما الإيرانيون منهم، مما يولّد ما هو أكبر وأكثر من مجرد المخاوف من تغيير هوية وثقافة المجتمع العراقي.
وختمت الهيئة في بيانها إنه بالنظر إلى المعوقات الفنية والإدارية والبشرية التي تُسهم في عدم إجراء تعداد سكاني دقيق ومنضبط في العراق في ظل الظروف التي يمر بها الآن؛ يتضح حجم العبث الذي تسعى السلطات الحكومية إلى إحلاله في المجتمع العراقي وزجّه في أنفاق وغياهب المجهول، وإن من المناسب في هذا المقام التذكير بما أشرنا إليه في التقرير الدوري الرابع عشر عن الحالة السياسية في العراق ومتعلقاتها، الصادر عن القسم السياسي في الهيئة بتأريخ (24 /8 /2024م)؛ بشأن التعداد السكاني الذي تتهافت السلطات على إجرائه؛ بينما يعيش العراقيون ويشهدون الكثير من الويلات والمصائب الناجمة عن العملية السياسية وشخوصها الغارقين بالفساد والمنشغلين بملفاته وتداعياتها في ظل الصراعات والتنافس المفضي إلى تصفية بعضهم بعضًا، وترك العراقيين يعانون شظف العيش، الذي بات يزداد وطأة وشدة يومًا بعد يوم، مع تفاقم التضخم المالي، وتهاوي قيمة الدينار العراقي، ولجوء الحكومة إلى أسلوب التعيينات وتوزيع المرتبات دون خطة إنتاج وتشغيل حقيقي للأيدي العاملة والكفاءات، وبما يضع العراقيل والحواجز الكبرى أمام التنمية بأصنافها وأنواعها كافة.
إن عامل الزمن -والحال هذا- لا يصب في خدمة الشعب العراقي، وإن كل مرحلة تزيد من عمر المنظومة السياسية الفاسدة والموغلة في الفشل؛ تعني ضريبة باهظة الثمن يدفعها العراقيون من دمائهم، وحرياتهم، ومستقبلهم، وقد آن لصبر العراقيين أن ينفد، وحانت للغضب الجمعي ساعته، وليس أمامنا اليوم من مخرج يؤول بنا إلى برّ الأمان وشاطئ السلامة سوى عمل جمعي وجهد تكاملي تزول به آثار الاحتلال كلها بحكوماته وميليشياته ودستوره وقوانينه، ويمهد لمرحلة نقية مزدهرة تليق بالعراق وشعبه وتأريخهما العريق.