تزايد ملحوظ للإتجار بالبشر وأعضائهم في عراق ما بعد الاحتلال
تسجل ظاهرة الإتجار بالبشر وبيع الأعضاء البشرية في العراق تزايدًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة مع ارتفاع نسب الفقر والبطالة وانتشار عصابات الجريمة المنظمة، وسط تجاهل حكومة الإطار التنسيقي التحذيرات من خطر تنامي هذه الظاهرة.
بغداد – الرافدين
حذرت أوساط حقوقية من تحول العراق بشكل تدريجي إلى مصدر رئيس للإتجار بالبشر والأعضاء البشرية على الصعيد الإقليمي والدولي مع تزايد النشاط الإجرامي وتوفر البيئة الخصبة لهذه التجارة المحظورة دوليًا.
وعزت الأوساط الحقوقية أسباب اتساع ظاهرة الإتجار بالبشر وبيع الأعضاء البشرية في العراق إلى تزايد الفقر واتساع مساحة البطالة والجهل وضعف الأمن وغياب القانون والرقابة، فضلًا عن تقديم الدعم من قبل الميليشيات للشبكات الإجرامية والانتفاع منها ماديًا.
وحملت حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني مسؤولية تفاقم الظاهرة، جراء تقصيرها وتهاونها في إدارة هذا الملف الخطير على الرغم من تشكيل لجنة عليا لمكافحة الإتجار بالبشر بموجب المادة “2” من قانون مكافحة الإتجار بالبشر، برئاسة وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، وعضوية 16 وزارة وجهة حكومية أخرى ساندة.
وأصدرت منظمة الهجرة الدولية تقريرًا عن عمليات الاتجار بالبشر في العراق منتصف تشرين الثاني الجاري، وأشارت إلى أن البلاد تحولت إلى ممر لعمليات تهريب أشخاص غير عراقيين أيضًا.
وفي ضوء ذلك حذر المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، من عمليات اتجار بالبشر تحت “غطاء” الهجرة تقوم بها عصابات دولية.
وقال المركز إن “العراق مر بعدة محطات في ملف الهجرة، وكل هذه المحطات لها أسبابها المتعددة، سواء ما يتعلق بالحروب والنزاعات التي حصلت، وما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، واضطرت العائلات للتفكير بالهجرة وخرجت للعديد من الدول، خاصة الدول الأوروبية”.
وأشار إلى أن “الأمر لا يتعلق بالهجرة فقط، بل ربما بالإتجار بالبشر، وشاهدنا الكثير من الأشخاص كانوا ضحايا لهذه العمليات”.
وأكد أن “العراق بدأ يُستغل ضمن مساحة العمليات الدولية للإتجار بالبشر”.

وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد ذكرت في تقريرها القطري عن حالة حقوق الإنسان في العراق لسنة 2024 أن “المتاجرين بالبشر، يستغلون الضحايا المحليين والأجانب في العراق، ويستغل المتاجرون الضحايا من العراق في الخارج”.
ويعرّف القانون العراقي الإتجار بالبشر بأنه “تجنيد أشخاص أو نقلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم، بوساطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو بإعطاء أو تلقّي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سلطة أو ولاية على شخص آخر بهدف بيعهم أو استغلالهم في أعمال الدعارة أو الاستغلال الجنسي أو السخرة أو العمل القسري أو الإسترقاق أو التسوّل أو المتاجرة بأعضائهم البشرية أو لأغراض التجارب الطبية”.
لكن من ثغرات هذا القانون، بحسب وزارة الخارجية الأمريكية، وبما لا يتسق مع تعريف الإتجار بالبشر وفقًا للقانون الدولي، هو “وجوب توافر عنصر العنف أو الاحتيال أو الإكراه كي يعد جريمة إتجار بالأطفال لأغراض الاستغلال الجنسي، ولذلك لم يجرم القانون جميع أشكال الإتجار بالأطفال لأغراض الاستغلال الجنسي”.
وتتعدد أشكال الإتجار بالبشر في العراق لتشمل كذلك ظاهرة بيع الأعضاء البشرية التي ينطلق الوسطاء المتورطون فيها من استغلال الوضع المعيشي السيء للكثير من الشباب خصوصًا من يعيش ظروفًا صعبة جراء البطالة المتفشية في البلاد.
ومن أبرز الفئات المستهدفة في تجارة الأعضاء البشرية، إلى جانب الطبقات الفقيرة، والعاطلين عن العمل من فئة الشباب، فإن الأطفال المشردين، والعمالة الأجنبية، خاصة المخالفين لشروط الإقامة، يتعرضون كذلك غالباً لعمليات خطف تليها عمليات انتزاع لأعضائهم وبيعها بعد قتلهم أو تخديرهم، عبر سماسرة يتعاملون مع هذه التجارة.
وتتجنب البيانات الرسمية الحكومية من الدوائر ذات العلاقة تقديم إحصاءات رسمية توثّق عدد عمليات زراعة الأعضاء في محاولة منها للتغطية على بعض الجهات المرتبطة بتلك الشبكات الإجرامية وسط حديث عن تسجيل عشرات الحالات سنويا ومخاوف من ارتفاع الأرقام في المستقبل القريب.
وفي هذا الصدد، يوضح رئيس منظمة “مصير” لمكافحة الإتجار بالبشر، باسم جبر، أن “عام 2023 شهد اختطاف نحو 80 طفلًا في مختلف أنحاء العراق، نقل قسم منهم إلى كردستان العراق وبعض دول الجوار، حيث تتم عمليات انتزاع أعضائهم وبيعها”.
ولفت إلى أن عام 2022 كان قد شهد “خطف أكثر من 90 طفلًا”، مشيرًا إلى “العشرات من حالات بيع الأطفال في العراق سنويًا”، مؤكدا وجود احتياجات “أكثر فعالية” للقضاء عليها، خاصة أنها أصبحت تشكل “تهديدًا للأمن المجتمعي”.
وأوضح جبر أن “الأعضاء الأكثر طلبًا في تجارة الأعضاء البشرية هي الكلى، بالإضافة إلى جزء من الكبد وأجزاء من الجهاز التناسلي الذكري”.
وأضاف أن الفقر والجهل هما السببان الرئيسيان وراء تفشي تلك الجرائم، حيث تستغل الشبكات الإجرامية المواطنين الفقراء والبسطاء لتحقيق مصالحها.
وتعجّ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالحملات الترويجية لبيع وشراء الأعضاء مقابل مبالغ مالية تعد مغرية بالنسبة للشرائح المعدمة ولاسيما من يعاني من ويلات الفقر والبطالة.
ففي منصّات مواقع التواصل الاجتماعي تلك قد يجد الشخص – الضحية – طريقًا سهلًا للتخلّص من أعبائه المادية الكثيرة المترتبة عليه، لكنّه هذا الشخص الضحية حين يقرّر التخلّي عن عضو من أعضائه، فهو لا يفكّر بتبعات قراره الذي قد يأخذه إلى الموت لأسباب كثيرة.

ويروي حسام ( 23 عامًا) قصته المريرة بعدما ظنّ أنّه ببيع كليته سيتمكن من التخلّص من معاناته التي فرضتها عليه الظروف الصعبة التي دفعته مرغمًا إلى ترك منزل والده الذي توفي، وذلك بعد ضغوط مورست عليه من قبل زوجة أبيه.
وهكذا وبين ليلة وضحاها، وجد حسام نفسه بين أنياب تجّار الدم وعلى باب غرفة عمليات في مدرسة جُهزت لغرض استئصال كليته.
ويقول الشاب إنه “في إحدى المرّات كنت أتصفّح الهاتف، فوجدت على موقع فيسبوك منشورًا يفيد بأنّ ثمّة أشخاصًا يريدون شخصًا آخر للتبرّع لهم بكلية من دون موافقة ولي الأمر”.
ويشير المنشور إلى أنّ هؤلاء الأشخاص يتحمّلون كلّ التكاليف المالية ومصاريف كل الإجراءات والفحوصات بالإضافة إلى الإقامة.
وأضاف حسام أن “صفحة الشخص الناشر كانت تحمل اسمًا وهميًا، وكنت حينها مذهولًا لأنّ المبلغ المالي الذي كان معروضًا مقابل الكلية، كان كبيرًا وأنا عاطل عن العمل”.
وبعد مرور 4 أيّام على المحادثة بين الوسيط وحسام، أخبره الأخير أنّه قرّر قبول العرض، وأنّه مستعد لإجراء تلك العملية.
وقد أقدم حسام على إجراء العملية بشكل سرّي إذ كان ذلك شرطاً فرضه الوسيط بقوّة.
وما إنْ وثق الوسيط بالشاب حسام حتّى أرسل له رقم هاتفه للتواصل معه، وحدّد له موعدًا للقاء من أجل الشروع بالأمر في إحدى المحافظات الشمالية.
وتابع “عندما دخلت إلى المكان، كنت أعتقد أنّني الشخص الوحيد، لكنّني وجدت أنّ هناك شخصين وسيّدة يتجاوز عمرها الثلاثين عامًا في حين لم يُسمح إليّ بالتحدث إلى أحد من هؤلاء، وقد قال لي الوسيط بشكل عاجل أدخل إلى غرفتك تلك وكن جاهزًا غداً الساعة 08:00 صباحًا”.
ويبين أن “المكان الذي وصلنا إليه في اليوم التالي لم يكن مركزًا صحيًا، إنّما كان ما يشبه مدرسة قديمة يتواجد فيها عدد من الأطباء، لكنّ هؤلاء لا يرتدون أثوابهم البيضاء كما المتعارف عليه وكما نرى في المستشفيات وكان يتوجّب عليّ الدخول أوّلًا وفق ما تقرر، وقد أعطى الوسيط كلًّا منّا المبلغ كاملًا، ومن ثمّ دخلت إلى العملية لاستئصال الكلية، والغريب في الأمر أنّنا لم نوقع على أيّ ورقة حتّى”.
وانتهى الأمر الآن وقد باع الشاب حسام كليته مقابل المال، وهو بعد تجربة قاسية يخلص إلى نتيجة مفادها أنّ هؤلاء التجّار أو الوسطاء لا يحترمون الشخص لشخصه، إنّما لما يمتلك من أعضاء إذ أنّه يشكل بالنسبة لهم بنك أعضاء وقد يعودون إليه في أيّ لحظة ووفق الحاجة.
وتختلف قصة الشابة العراقية لمياء، عن قصة حسام، بعدما اكتنف تفاصيلها الكثير من الغموض والاستغراب إذ لم تلجأ هذه الشابة إلى بيع أيّ من أعضائها مقابل المال، إنّما تعرّضت للسرقة في واحدة من مستشفيات العاصمة بغداد، وهنا تكمن الخطورة.
وتبين لمياء إنّها دخلت إلى المستشفى الحكومي لإجراء “عملية البواسير”، لكن ما حصل معها كان مثيرًا للريبة.
وتوضح قائلةً إنها “أجريت العملية في مستشفى مدينة الطب في العاصمة بغداد، لكن بعد انتهاء العملية بقي الألم مستمرًا لنحو 3 شهور! فذهبت وزوجي إلى أحد الأطباء في محافظة القادسية ، وبعد إجراء الفحوصات قال لي: أنتِ في الأصل لم تجرِ أيّ عملية بواسير، بل تمّ نزع المبيض الأيمن خلال تلك العملية”.
وتتابع لمياء أننا “وعندما واجهنا الطبيبة التي أجرت لي العملية بالأمر أنكرته كلياً، فما كان منّا إلّا أن تقدمنا بشكوى قضائية ضدّها، إلى أن اعترفت في نهاية المطاف أنّ المبيض موجود لديهم في المستشفى”.
وأضافت “حاولوا إسكاتنا بدفع المال لنا من أجل عدم إثارة ذلك الأمر وإحداث بلبلة لأنّه ذلك يندرج في إطار الاتجار بالأعضاء البشرية”.
وبينت أن “الغريب أنّني أمّنت على صحتّي وذهبت إلى مستشفى حكومي لأجري عملية بواسير، وإذ بي تتم سرقة المبيض، وحتّى اليوم لم أتمكن من تحصيل أيّ شي”.

ويبدو أن رواية لمياء تؤكّد أنّ نشاط المتاجرين بالأعضاء لا يقتصر على الغرف السوداء أو الأقبية السرّية فقط في العراق، إنّما يتعدى ذلك أيضًا إلى حدّ التأثير على أطباء يتواطؤون مع شبكات الاتجار بالبشر وأفرادها لانتزاع أعضاء هم بحاجة إليها وهو ما يفسر كذلك تغاضي الجهات المختصة عن تقديم إحصاءات دقيقة لضحايا هذه المتاجرة المحظورة وفق القانون.
وتترك تجارة الأعضاء البشرية تداعيات مؤلمة على ضحاياها، سواء كانوا قد باعوا أعضاءهم بسبب الحاجة المالية أو أُجبروا على التخلي عنها بطرق قسرية.
ويوضح أخصائي الطب النفسي، حسن الشماع، أن هذه التداعيات تشمل جوانب صحية ونفسية معقدة.
فمن الناحية الصحية، أشار الشماع إلى أن أبرز المضاعفات الجسدية التي قد يواجهها الضحايا، هي تلك الناتجة عن العمليات الجراحية لاستئصال الأعضاء أو نقلها.
وعلى الرغم من أن الإنسان قادر على العيش بكلى واحدة، فإن أي قصور في وظائفها مستقبلاً قد يعرض الشخص للإصابة بأمراض الكلى المزمنة، التي غالباً ما تنتهي بالفشل الكلوي أو الحاجة إلى غسيل الكلى.
وأضاف الشماع أن نقص الأعضاء مثل الكلى والكبد يؤثر سلباً على قدرة الجسم على التخلص من السموم، مما يؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بأمراض مزمنة.
كما أن نقل الكلى أو استئصالها من أكثر العمليات الجراحية شيوعًا في هذا الجانب والتي ينبغي لها أن تجرى في مستشفيات مؤهلة تتوفر فيها كافة التجهيزات الطبية، كونها عملية معقدة وتحتاج عمليات فحص دقيقة”.
أما من الناحية النفسية، فقال الشماع إن الأشخاص الذين يبيعون أعضاءًا من أجسادهم مقابل المال، غالبًا ما يعانون من تغيرات مزاجية واكتئابية، فهم يتخلون عن أعضاء أساسية لا تعوض، مما قد يثير لديهم مشاعر الندم المستمر، خاصة إذا تعرضوا لاحقًا لأي أزمة صحية.
كما أنهم يفقدون ثقتهم بأنفسهم ويشعرون بالعار، إذا اكتشف المحيط الاجتماعي أمرهم، وفق كلام الشماع.
ويعاني أولئك الذين يتعرضون لعمليات استئصال الأعضاء قسرًا، من صدمات نفسية مزمنة، إذ يفقدون أعضاءهم دون إرادتهم، مما يترك أثرًا نفسيًا عميقًا على حياتهم.
وزاد الشماع “يؤثر ذلك على قدرتهم في بناء علاقات اجتماعية سليمة، وهذا الشعور بالحرمان يدفعهم إلى الانعزال الاجتماعي، مما يوصلهم إلى اضطرابات نفسية مزمنة تؤثر في طبيعة حياتهم”.