ابتذال المحلل السياسي
لم يشهد تعريف “المحلل السياسي” هذه الدرجة من الابتذال إلا بعد أن استحوذ قطاع طرق القنوات الفضائية على موجات البث، وصار التلفزيون ناطقا باسم قدسية الحكومات والتغاضي عن فساد الأحزاب وتجار السياسة ولصوص الدولة.
مهلا! لكن كم نتحمل نحن الصحافيين من مسؤولية شيوع هذا الابتذال؟ هناك الكثير جدا من الأسباب التي تجعلنا نعترف بتحمل المسؤولية في مجملها عندما نتهاون بإطلاق تعريف مفخم، بل يكاد ينفجر بوجه المشاهد “خبير، محلل سياسي، مرموق…” على أشخاص يعبرون عن عجزهم اللغوي والمعرفي في صناعة الأفكار والتوصل إلى خلاصات من هذا المزيج المربك والمتناقض في الأحداث.
إن المهتمين بالسياسة، مثلهم كمثل غيرهم من المهتمين بعلوم الاجتماع والطبيعة، يجمعون البيانات ويصلون إلى الأفكار التي تبدو لهم مفيدة. لكنهم أكثر حذرا من تحويل التنبؤات إلى حقائق وكأنها ستحدث غدا، كي لا تتحول خلاصاتهم إلى مجرد وعود زائفة، مما يؤدي إما إلى جمع افتراضات غير ذات صلة أو إلى بناء نظريات مضللة.
ظهر التحليل السياسي جنبًا إلى جنب مع دراسات الثقافة السلوكية، على اعتبار أن النظام السياسي يدمج جميع الأنشطة التي تتم من خلالها صياغة السياسة الاجتماعية وتنفيذها. سبق وأن عرّف عالم السياسة الأميركي ديفيد إيستون السلوك السياسي بأنه “التخصيص السلطوي للقيم”، والمحلل السياسي وفق التخويل الأخلاقي الذي يحصل عليه من القناة الفضائية يخضع لسلطة القيم أيضا.
ذلك ما لا يحصل غالبا عندما يتحول “المحلل السياسي” إلى مجرد ناطق آخر باسم الحكومات ورجال الإعمال، بل يصبح مبتذلا عندما يبرر الخدمات الصحفية مدفوعة الأجر التي تقدمها القناة الفضائية للسياسيين أو الحكومات.
السياسة ربما تكون أكثر الظواهر الاجتماعية صعوبة في صياغة نظريات حولها. مع ذلك لا تنقصنا النظريات. بل إن هناك نظريات عديدة تتنافس على تفسير الخيارات السياسية أو توجيهها. وما يزيد الأمور صعوبة، وفق تحليل منهجي يدرسه طلاب جامعة كامبريدج، أن النظريات المتعلقة بالسياسة تتراوح بين النظريات المعيارية “ما ينبغي أن يكون” والنظريات الإيجابية “ما هو كائن”. ولأن السياسة معقدة، والنظريات السياسية تشتمل على عناصر إيجابية وأخرى معيارية، فإن الوافدين الجدد لا يستطيعون أن يحددوا من أين يبدأون أو بماذا يؤمنون.
كانت المدرسة الفكرية السائدة في العلوم السياسية هي نظرية الاختيار العقلاني التي ترى أن التاريخ والثقافة لا علاقة لهما بفهم السلوك السياسي؛ بدلا من ذلك، تكفي معرفة مصالح الجهات الفاعلة والافتراض بأنها تسعى إلى تحقيقها بعقلانية. لكنها تعرضت إلى انتقاد عاصف وتم التخلي عنها عمومًا باعتبارها مجرد تجريدات غير قابلة للتحقق ولا تتمتع بقوة تفسيرية أو تنبؤية كبيرة. فالساسة انتهازيون إلى ما لا نهاية، ولا ينبغي على من يضع أداءهم تحت المجهر أن يكون أكثر انتهازية منهم!
أما التلفزيون فقد كان أداة للحكم حينما كان محليا، الحكم بطريقة التحذير والتخويف الذي تستخدمه الحكومات، أما حين أصبح فضائيا فقد أصبح أداة للثرثرة الفارغة وسباقا للإمساك بالهراء وإذلال اللغة. يشترك في كل ذلك لسوء حظ مدونة القيم الصحفية المستضيف والضيف على حد سواء.
فهل دخل العالم العربي عصر التحليل السياسي من باب الإذعان للحكومات وتجار السلطة والطوائف والأديان وحفاري القبور وتجار الدعارة وأصحاب الثراء الفاحش، بعد أن صار التلفزيون بيدهم بلا قيمة معرفية أو صناعة رأي على درجة من المنطق المقبول.
مع كل خيبة الأمل تلك، صار الجمهور لا يشاهد التلفزيون بعيونه بل بغريزته، ويكاد المشاهد يتصرف وكأنه شريك فعلي لما يبث عليه، وإذا كان الحوار سياسيا فإنه لا يتوقف عن مقاطعة المتكلمين وتسفيه كلامهم أو اتهام أحدهم بالجهل والكذب، وكأن المشاهد أحد المشاركين في داخل أستوديو البث!