اليوم العالمي للعلم والسلام والتنمية يكشف واقعًا تعليميًا غارقًا بالأزمات في العراق
أكاديميون يجمعون على أن قطاع التعليم في العراق يسير وفق تحكم جهات حزبية وطائفية تكرس الجهل والتخلف لعرقلة دوران عجلة التنمية في البلاد بغية الوصول إلى مجتمع مدجن يتخذ من الأميين والجهلة نماذج يقتدي بهم.
بغداد – الرافدين
حذرت أوساط أكاديمية من وجود مخطط ممنهج لتجهيل المجتمع العراقي وإشاعة التخلف بالتزامن مع احتفال العالم باليوم العالمي للعلم والسلام والتنمية في الفترة ما بين السابع و العاشر من شهر كانون الأول الجاري.
وبينت الأوساط الأكاديمية أن الحكومات المتتابعة بعد الاحتلال وأحزابها وميليشياتها تبنت إشاعة الجهل والأمية وسعت جاهدة على تقزيم دور العلم والمعرفة بعدما منحت المناصب والأموال والجاه للجهلة والشاذين فكريًا لتسويقهم كنموذج تخريبي لأبناء المجتمع لكي يحتذون بهم ويهملون العلم والتعلم وقيمهما الأصيلة.
وتأتي فكرة اليوم العالمي للعلم والسلام والتنمية انطلاقًا من قياس تأثير العلم والتعلم على صناعة السلام في مجتمعات الدول وبناء التنمية والنهوض بتلك الدول، تقديرًا لقيمة التعليم والعلم ودورهما في تحسين الحياة من خلال الفهم الصحيح والرؤية الصائبة.
ويوجد 12 مليون أمي في العراق وفق الإحصاءات الرسمية الأخيرة يقابلها، عملية تجهيل للمجتمع وبث أفكار طائفية وتقسيمية وخرافات داخلية على حساب القيمة المعرفية للعلوم والآداب.
ولا تكتفي الأمية في العراق بانعدام القراءة والكتابة، بل أن عملية “التجهيل” للمجتمع العراقي متعمدة من قبل جهات وقوى سياسية وطائفية تعمل على تجهيل المجتمع من أجل تفكيكه وبالتالي السيطرة عليه سياسيًا.
وتبين إحصاءات البنك الدولي أن 90 بالمائة من الطلاب العراقيين لا يفهمون ما يقرأونه، بسبب الصراع الذي عاشه العراق وأوجه القصور فيه وضعف نواتج التعليم الذي “يعجز عن تقديم المهارات الأساسية إلى الطلاب والتي تشكل أساس التعلم وتنمية المهارات”.
وأظهرت نتائج تقييم لمهارات القراءة ومهارات الرياضيات للصفوف الأولى كان قد أجراه البنك الدولي أنه “بحلول الصف الثالث لم تكن الغالبية العظمى من الطلاب العراقيين الذين تم تقييمهم قد اكتسبوا بعد المهارات الأساسية الكافية”.
ولم يتمكن “ما يقرب من ثلث طلاب الصف الثالث من الإجابة بشكل صحيح على سؤال واحد حول أحد النصوص المناسبة لأعمارهم قرأوها لتوهم”، بينما “لم يتمكن 41 بالمائة من طلاب الصف الثالث من حل مسألة طرح حسابية واحدة بشكل صحيح”.
ويرى البنك الدولي أنه جراء نواتج التعلم المتدنية “تبرز الحاجة الماسة إلى التركيز على الطلاب من الفئات الأكثر احتياجًا والمعرضين لخطر التخلف عن الركب والتسرب من نظام التعليم”.

ويذهب بعض الاختصاصيين في مجال التربية والتعليم إلى أن اتساع الفوارق الطبقية بين فئات المجتمع العراقي وشرائحه أدى الى عدم كبح نزيف التسرب من المدارس وبالتالي صب هذا التسرب في ارتفاع نسب الأمية ووصولها لهذه الأرقام الخطيرة.
ويؤكد هؤلاء المختصون أنّ تفشي الأمية في العراق مرتبط بالأزمات التي أحدثتها الحكومات المتعاقبة وسوء إدارتها للبلاد، لافتين إلى أنّ الأرقام الحقيقية أكبر مما أعلنت عنه الوزارة.
وقال الأكاديمي والباحث السياسي الدكتور محمود المسافر بأن الفساد المالي والإداري الذي ينخر الدولة منذ الاحتلال وحتى اليوم ساهم بتردي واقع التعليم.
وأكد المسافر في تصريح لقناة “الرافدين” بأن الاحتلال والحكومات التي اعقبته ينفذون خطة ممنهجة لإعادة العراق إلى عهد ما قبل الصناعة بمساعدة بعض الدول التي لا تريد للعراق أن ينافسها في المنطقة ولاسيما إيران.
ووفقًا لتقرير لمنظمة اليونيسف صادر عام 2023 فإن نحو 30 بالمائة من أطفال العراق لا يكملون تعليمهم الابتدائي، ويزداد الوضع خطورة في المرحلة الثانوية، إذ تقترب معدلات التسرّب المدرسي إلى 45 بالمائة، وقد تصل إلى 50 بالمائة في بعض المناطق.
وقد جاء في تقرير اليونيسف أن “معدّل الوصول إلى التعليم الابتدائي مرتفع، إذ يبلغ معدّل الالتحاق الصافي 91.6 بالمائة، ولكن معدّل إكمال التعليم الابتدائي منخفض، إذ يبلغ 76بالمائة.
ويبلغ معدّل الالتحاق بالتعليم الثانوي الإعدادي 57.5 بالمائة، بينما يبلغ 33 بالمائة في التعليم الثانوي العالي، مع وجود تفاوت كبير بين الجنسين.
وكان اتحاد التعليم الدولي قد حذر من كارثة تعليمية تنتظر أطفال العراق بسبب عدم قدرتهم للوصول إلى حق التعليم المشروع والتسرب المبكر من المدارس بسبب الفقر والفشل والفساد الحكومي.
وأكد الاتحاد الذي تنضوي تحته 383 منظمة، تمثل أكثر من 32 مليون معلم في 178 دولة، في تقرير مفصل، على العراق يواجه أزمة تعليمة حادة، بينما تؤمن الحكومة أموالا أقل لهذا القطاع، في حين يتزايد عدد التلاميذ الذين يتركون الدراسة بسبب الحاجة الماسة للعمل لإعالة أسرهم.
وأضاف “على الرغم من الأحكام الدستورية والقوانين التي تنص على مجانية التعليم في المراحل الدراسية كافة، إلا أن ملايين الأطفال محرومون من الوصول إلى التعليم، بما فيهم النازحين مع أسرهم في مخيمات تفتقر للشروط الإنسانية”.
وأشار تقرير اتحاد التعليم الدولي، إلى أن الحكومة في العراق عمدت إلى تخفيض أو قطع المساعدات بشكل كبير عن نحو 5.2 ملايين طفل، وأنه منذ العام 2013، هناك 770 ألف طفل نازح يعيشون في ظروف حافلة بالمخاطر، وفي غالب الأحيان في ملاجئ مؤقتة.
وذكرّ بأن هؤلاء الأطفال جرى اقتلاعهم من منازلهم بسبب الصراع وسيطرة ميليشيات حكومية على مناطقهم، وتعرض حقهم بالتعليم إلى خطر كبير، وأنه بالرغم من الحقوق الدستورية، إلا أنهم يجدون أنفسهم في حالة حرمان من الوصول إلى المدارس والمعلمين والموارد التعليمية.
وشدد التقرير على أنه في ظل فشل الحكومة في تطبيق توصيات الأمم المتحدة فإن هذه الأزمة شهدت تفاقمًا.
وتتعلق توصيات الأمم المتحدة بشكل خاص بالحاجات التعليمية للنازحين داخل العراق، وأنه في الوقت الذي دعت الأمم المتحدة إلى تقديم التمويل لدعم تعليم الأطفال، إلا أن الحكومة العراقية لم تقدم سوى نصف المبلغ المطلوب وهو 35 مليون دولار فقط.
وطالب اتحاد التعليم الدولي بتطبيق إجراءات بشكل فوري، محذراً من أنه من دون التدخل فإن العملية التعليمية معرضة لخطر الانهيار في العراق.
ودعا الحكومة العراقية إلى منح الأولوية للتعليم، وتخصيص الأموال اللازمة، والعمل من أجل ضمان حصول كل طفل مهما كانت ظروفه، على التعليم الجيد، لأنه بإمكان العراق من خلال الإصلاحات الشاملة، إقامة نظام تعليمي يساهم في تمكين الشباب، وتوفير مستقبل مشرق للبلد.
ونقل التقرير عن المجلس النرويجي للاجئين، قوله “بالرغم من الوضع الاقتصادي الجيد بالنسبة للعراق، غير أن مدارسه تعمل على فترات الدوام المزدوج والثلاثي، وهناك أكثر من 650 طالبًا في كل فترة، وأن نصف المباني المدرسية تدمرت خلال الحرب على تنظيم داعش التي استمرت أربع سنوات”.

وتاريخيًا صنفت “يونسكو” النظام التعليمي في العراق منتصف سبعينات القرن الماضي، كأحد أفضل النظم التعليمية على مستوى العالم، واحتل العراق حينها المركز الأول عربيًا، وبعد أكثر من 4 عقود أظهر مؤشر جودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في “دافوس” خروج العراق من معايير جودة التعليم العالمي مع الحروب والصراعات.
وتقول منظمة “اليونيسف” إن عقودًا من الصراعات وغياب الاستثمارات في العراق دمرت النظام التعليمي الذي كان يعد في ما مضى أفضل نظام تعليمي في المنطقة، وأعاقت بشدة وصول الأطفال إلى التعليم الجيد، حيث إن هناك اليوم ما يقرب من 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدرسة.
ورصد مسح للمنظمة مؤخرًا أسبابا عديدة لأزمة التعليم منها المناهج القديمة، وضعف التطوير المهني للمعلمين الأكفاء، لأن بين أكثر من 394 ألف معلم في العراق، هناك حوالي 292 ألفا فقط مؤهلون أكاديميًا، في حين أن حوالي 100 ألف معلم لديهم معرفة قديمة ويحتاجون إلى إعادة تدريب وإعادة تأهيل.
وفي المسح ذاته وُجد أن 54 بالمائة من الأطفال من الخلفيات الاجتماعية الفقيرة لا يكملون تعليمهم الثانوي، وينتهي بهم المطاف في سوق العمل غير الرسمي، فيصبحون عرضة للإساءة والاستغلال.
وبسبب الفقر المدقع، كثيرًا ما يُطلب من الأطفال ترك مدارسهم والالتحاق بسوق العمل لإعالة أسرهم. مما يؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على الالتحاق بالمدارس وإكمال تعليمهم. وتقدّر المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق أن عدد الأطفال العاملين في البلاد يصل إلى أكثر من 700 ألف طفل.
ولا يخفي عراقيون أساهم على واقع التعليم في البلاد بعد إبادته كليا والسماح لمؤسسات طائفية بالتدخل في مناهجه وفرض وصايات على البحوث والدراسات والسماح لجهات فاسدة مرتبطة بدول خارجية بفتح مدارس ومعاهد وجامعات تجارية لا تبالي بوطنية العملية التعليمية.
وفي هذا الصدد يشير الأكاديمي الدكتور علاء الموسوي إلى وجود تداعيات خطيرة تهدد مسيرة التعليم في البلاد على المدى القريب والبعيد.
وأكد على أن جميع الكليات والجامعات الأهلية في العراق يمتلكها أشخاص هدفهم الأول الربح المادي دون مراعاة للجوانب العلمية.
وبين الموسوي أن التعليم في العراق أصبحت تتحكم به جهات عدة، وليس على أسس ومعايير علمية، فالتدخلات الحزبية والجوانب المالية أضعفت التعليم كثيرًا، فالكليات الأهلية تهدف إلى زيادة عدد الطلبة بغض النظر عن الجانب العلمي أو النجاح او الرسوب وهناك بعض الأساتذة يتعرضون لضغوط من قبل بعض مجالس إدارة الجامعات الأهلية بسبب الرسوب أو الضغط على الطلبة.
ويعاني التعليم العالي أسوة بالتعليم الأولي في البلاد من اختلالات هيكلية مرتبطة بفشل الدولة على عدة مستويات والفساد المستشري الذي أنتج حالة الشلل في الرؤى التعليمية والاجتماعية والثقافية لدى المؤسسات التي تصنع القرارات وترسم السياسات.
وتخلت وزارة التعليم العالي عن دورها التخطيطي والرقابي وسمحت لجهات غير تخصصية خارج الوزارة بإجراء معادلة الشهادات، حتى لو كانت مزورة بحسب ما تكشفه التقارير المحلية والدولية المعنية بشؤون التعليم البحث العلمي.
وأظهرت إحصائية لمنظمة التعليم العالمي وهي منظمة دولية لها مقر في بغداد ارتفاع نسب تزوير الشهادات في العراق، إذ احتلت فيها محافظة البصرة المركز الأول بواقع تزوير نسبته 19 بالمائة تلتها العاصمة بغداد بفارق نصف درجة.
وكشفت المنظمة أن الكثير من المسؤولين والوزراء والنواب وأصحاب الدرجات الخاصة، يحملون شهادات مزورة صادرة من جامعات معروفة أو غير معروفة وأن هؤلاء يحظون بامتيازات الشهادة رغم الكشف عن بطلانها ما جعل الشهادة العلمية لا قيمة لها في نظر الشارع العراقي.
وأشارت إلى عدم جدية الجهات الرقابية في محاسبة المخالفين للقانون ومزوري الشهادات، مبينة وجود عدد من النواب لا يحملون أي مؤهل علمي أو شهادة أكاديمية سليمة، وأنهم يمارسون التزوير عند الترشيح للبرلمان.