الانتحار جرس إنذار لأزمة نفسية ومجتمعية متفاقمة في العراق
الانتحار في العراق ليس مجرد رد فعل فردي على الأحداث الشخصية، بل هو انعكاس للظروف العامة التي يعيشها العراقيون بشكل يومي، من الانهيار الاقتصادي، وغياب الرعاية النفسية حتى فقدان الأمل لجيل كامل من الشباب.
بغداد – الرافدين
أجمعت أوساط حقوقية على أن تزايد حالات الانتحار في العراق يمثل جرس إنذار خطير، يكشف عن حجم المأساة التي يعيشها المواطن العراقي في ظل الأزمات المتلاحقة التي تمر بها البلاد.
وحذرت تلك الأوساط من أن استمرار هذه الظاهرة قد يكون له تداعيات سلبية على النسيج الاجتماعي العراقي، ويؤثر بشكل مباشر على استقرار المجتمع وتماسكه”.
وأجمعت تقارير حقوقية على أن الانتحار في العراق أصبح يشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن الاجتماعي، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والفوضى السياسية التي دامت لعقود.
وأكدت على أن العديد من الدراسات بينت أن الفئات الأكثر تأثرًا هي الشباب، خصوصًا أولئك الذين يعانون من البطالة أو الفقر المدقع، مما دفعهم إلى اتخاذ خطوات يائسة للهروب من واقعهم المرير.
وأوضحت أن الظروف المعيشية الصعبة، وخاصة بعد انتشار المخدرات، قد أسهمت في تزايد هذه الظاهرة، حيث أظهرت نتائج أبحاث أن الانتحار في العراق ليس مجرد رد فعل فردي على الأحداث الشخصية، بل هو انعكاس للظروف العامة التي يعيشها العراقيون بشكل يومي، من الانهيار الاقتصادي، وغياب الرعاية النفسية.
ولفتت إلى أن غياب الدعم النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى محدودية الرعاية الصحية النفسية، جعل من الصعب على الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب والضغوط النفسية الوصول إلى مساعدة فعالة، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة الانتحار في المجتمع”.

وكشفت المفوضية العليا لحقوق الإنسان عن زيادة معدلات الانتحار في العراق.
وقال مدير قسم العلاقات والإعلام في مكتب للمفوضية، سرمد البدري إنه في “الآونة الأخيرة شهدنا ازدياداً كبيراً في حالات الانتحار”.
وبيّن أن “إحصاءات وزارة الداخلية سجلت أكثر من 700 محاولة للانتحار، فضلا عن حالات غير مسجلة حدثت خلال العام الماضي”.
وعزا البدري ازدياد حالات الانتحار بين الشباب، إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مطالباً القطاع الخاص “بأخذ دوره من خلال إعداد المشاريع وتوفير فرص العمل والاستفادة من هذه الشريحة المهمة”.
وسجلت محافظة ذي قار ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الانتحار، حيث بلغ المعدل قرابة ثلاث حالات يومياً خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2024
وبحسب مفوضية حقوق الإنسان في ذي قار، فقد وصل إجمالي حالات الانتحار إلى 113 حالة، منها 33 حالة تخص النساء، مما يعكس نسبة عالية تبلغ 30 بالمائة
وأكد مدير مكتب المفوضية في ذي قار، داخل عبد الحسين، أن غالبية المنتحرين هم من فئة الشباب، الذين يواجهون تحديات كبيرة في مجتمعاتهم، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، مما يفاقم من معاناتهم النفسية ويزيد من خطورة هذه الظاهرة وأن الأسباب وراء هذه الحالات تعود إلى مزيج من الأزمات إلى جانب تزايد انتشار آفة المخدرات التي باتت تؤثر بشكل سلبي على فئة الشباب كما أشار إلى أن نحو 10 بالمائة من حالات الانتحار كانت ناتجة عن معتقدات دينية منحرفة.
وقال مدير شرطة نينوى اللواء فلاح الجربا إن “حالات الانتحار في نينوى شهدت ارتفاعًا خلال الأعوام الأخيرة”، مشيرًا إلى أن “العام الحالي 2024 سجل حالات انتحار أعلى من العام الذي سبقه”.
وأوضح أن “لغاية مطلع شهر تشرين الأول من العام 2024، تم تسجيل 74 حالة انتحار”، مضيفًا أن “أسباب الانتحار متعددة، أبرزها الحالات النفسية، الوضع الاقتصادي السيء، والفشل الاجتماعي”.
وأكد على أن “أكبر نسبة من الحالات تم تسجيلها نتيجة القفز في نهر دجلة من جسور المدينة، مشيرًا إلى أن فرق الشرطة والإنقاذ تمكنت من التدخل وإنقاذ العديد من الحالات قبل وقوع الانتحار”.
وتشهد محافظة البصرة ارتفاعاً في عدد حالات الانتحار أو محاولة الانتحار، وذلك عائد لعدة أسباب، منها اقتصادية ومنها اجتماعية.
وقال مدير مكتب حقوق الانسان في البصرة مهدي التميمي إن “المحافظة تشهد، كمعدل يومي، حالتي انتحار أو محاولة انتحار”.
وأشار إلى أنها “تتراوح بين الفشل في الدراسة، والحالة الاقتصادية، وتعاطي المخدرات، والمشاكل الاجتماعية، وغياب استراتيجية الدولة بالاحتواء، وغياب مثالية الإبلاغ عن الحالات، والفراغ الذي يعيشه الشباب، وغيرها من الأسباب”.
وأكد على ضرورة تعزيز آليات دمج الشباب في العمل وفي المجتمع، وتطبيق نظام رقابي للإبلاغ السريع عن هذه الحالات، فضلاً عن رصد حالات الشباب الذين لديهم ميول للانتحار والابلاغ عن ذلك، عن طريق القائممقاميات أو النواحي.
وأكد رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان فاضل الغراوي، تسجيل ارتفاع بمعدلات الانتحار في العراق، وصفها بأنها باتت يومية في العراق، مضيفا أن هناك “حالات انتحار تكون غير معلنة ويتم التكتم عليها من قبل ذوي المنتحرين، ولهذا الإحصائيات غير الرسمية هي أعلى بكثير من الأرقام التي تعلن”.
وبين الغراوي أن “غالبية حالات الانتحار تكون لفئة الشباب وتكون بسبب مشاكل عائلية أو مشاكل نفسية نتيجة لارتفاع نسبة الفقر والبطالة، إضافة إلى أن عمليات الابتزاز تدفع بالكثير إلى الانتحار خشية من الفضيحة المجتمعية والعشائرية”.
وأرجع أيضا “انتشار حالات الانتحار في العراق إلى ارتفاع نسبة تعاطي المخدرات والعنف الأسري، وهذا الارتفاع يجب أن يكون له تحرك حكومي لمعالجة الأسباب، وأبرزها توفير فرص عمل للشباب وخفض نسبة الفقر والبطالة، إضافة إلى القضاء على المخدرات والعمل على تشديد العقوبة بحق مرتكبي العنف الاسري، عبر قوانين صارمة”.
من جهته قال النائب سجاد سالم إن “الحكومة كانت قد أقرت الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار 2023-2030، لكن لغاية الآن لم نر أي شيء من هذه الاستراتيجية، رغم أن حالات الانتحار ترتفع بشكل كبير وخطير في مختلف المحافظات”.
وأوضح أن “الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشباب، دفعت بالكثير منهم إلى الانتحار أو التفكير بالانتحار، وهناك إهمال حكومي كبير لهذا الملف الخطير طيلة السنوات الماضية، وحتى الآن لم نر أي تحرك حكومي ملموس للتصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت منتشرة داخل المجتمع العراقي”.
وأضاف “لا نبالغ عندما نحمل القوى السياسية المتنفذة مسؤولية ارتفاع معدلات الانتحار في العراق، كونها أخفقت بتوفير حياة كريمة وكذلك أعطت صورة بأنه لا أمل للتغيير، وكانت هناك حالات يأس بصفوف الشباب، الذين يشكلون النسبة الكبرى بحالات الانتحار”.

وقال عضو لجنة الصحة النيابية باسم الغرابي إن “استراتيجية رئاسة الوزراء في الوقاية من الانتحار تعتمد على وضع برامج معينة وهذه البرامج تحتاج إلى ميزانية ضخمة”.
ولفت إلى أنه حتى هذه اللحظة نعاني من نقص في توفير الأموال اللازمة لتغطية مثل هكذا استراتيجيات، كما أن أغلب الوزارات توقف الصرف فيها ولا توجد فيها سيولة مالية كافية.
بدوره يشير الناشط في المجتمع المدني محمد جمعة، إلى أن “الأزمة الاقتصادية ونقص الخدمات الأساسية كالكهرباء وارتفاع درجات الحرارة، والعديد من الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية الأخرى تسببت في زيادة الأمراض النفسية في المجتمع العراقي وتؤدي في النهاية إلى الانتحار”.
وقال إن “معدلات حالات الانتحار في العراق خطيرة ودليل على ظاهرة اجتماعية رهيبة”.
وأضاف أن “هناك عدة أسباب رئيسية أدت إلى ارتفاع معدلات حالات الانتحار في العراق ويجب على الجهات المعنية تحمل مسؤوليتها واتخاذ الإجراءات اللازمة”.
وتابع أن “الأزمة الاقتصادية في العراق تشكل عاملاً رئيسيا في العنف الاجتماعي، وخاصة الانتحار”.
وأردف أن “الأزمات المتراكمة أدت إلى زيادة الأمراض النفسية التي تؤدي لاحقا إلى الانتحار”.
بدوره قال أستاذ علم الاجتماع في جامعة النهرين ببغداد، محمد السعدي، إن “عوامل عديدة فاقمت قضية الانتحار في المجتمع العراقي، قد يكون سببها الأول تراجع الأمل بوجود تحسن في الحياة العامة من ناحية الخدمات المقدمة وأيضا المستوى المعيشي”.
ووفقا للسعدي فإن “العدد الذي يتم تداوله بشأن من سجل “مُخيف”، ويظهر أن العامل المشترك بين الضحايا أنهم يسكنون في مناطق فقيرة أو شعبية مكتظة وتعاني من مشاكل كثيرة”.
من جهتها، أكدت الباحثة في الشأن المجتمعي، هدى عز الدين، أن “المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية والجهات الأمنية مقصرة بهذا الملف”
وبينت أن “تلك الجهات مطالبة بتبني برامج توعوية وتثقيفية للتحذير من تلك الظاهرة والابتعاد عن أسبابها”.