مافيات تجارة الدواء تسترخص أرواح العراقيين وتغرق الأسواق بسموم صيدليات الأرصفة
أوساط طبية تؤكد على أن سوق الدواء في العراق بات مسرحًا لأحد أخطر أنواع الفساد المتمثل في عمليات استيراد الأدوية منتهية الصلاحية وإعادة تدوير الدواء الذي تتخلص منه المستشفيات كنفايات طبية قبل بيعه مجددًا على الأرصفة.
بغداد – الرافدين
أجمع أطباء وصيادلة على خطورة إغراق سوق العراق بالأدوية منتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستخدام البشري بعد فسح المجال أمام شبكات تجارة الأدوية المهربة للسيطرة على المذاخر الطبية بالتزامن مع اتساع ظاهرة ما بات يعرف بـ “صيدليات الأرصفة”.
وحذر الأطباء والصيادلة من خطورة الأدوية المهربة إلى العراق التي تديرها منظومة الفساد في وزارة الصحة ووزارات أخرى في ظل حالة الفوضى التي تشهدها المنافذ الحدودية وغياب المراقبة.
وأكدوا أن “الفساد المالي والإداري المستشري في النظام الصحي لعب دورًا كبيرًا في ظهور الصيدليات الوهمية وتزايدها فضلا عن انتشار باعة الأدوية في قارعة الطريق وعلى الأرصفة بالقرب من المستشفيات والمراكز الصحية”.
ولفتوا إلى أن “اتساع هذه الظاهرة مرتبط بعصابات تهريب الأدوية وبعض العاملين في المستشفيات الحكومية ممن ليس لديهم إجازات رسمية لمزاولة المهنة، أو أولئك الذين يستغلون وجودهم للحصول على كميات من الأدوية المجانية التي هي من حصة المريض الفقير بالأساس”.
واشاروا إلى أن “غياب وضعف المتابعة الجدية والرقابة الصارمة من قبل الحكومة والجهات الصحية المعنية، دفعت بالبعض من ضعاف النفوس إلى التغاضي عن هذه الظاهرة الخطيرة مقابل رشوة أو مبالغ مالية من أصحاب تلك البسطيات أو المحلات غير مرخصة، دون الاكتراث بحياة الناس”.
ويقول طبيب الباطنية غازي فيصل إن “بيع الأدوية على الطرقات في بغداد أمر شائع من 2003، معربًا عن استغرابه الشديد من عدم إيجاد حل للمشكلة حتى الآن، رغم ان الحلول موجودة”.
واضاف فيصل أن “النظام المعمول به في الدول المتطورة وحتى بعض دول الشرق الأوسط، من أجل الصحة العامة يقضي بمنع الكثير من أصناف الأدوية كالمضادات الحيوية وغيرها إلا بوصفة من الطبيب، ترسل من قبله إلى الصيدليات، ولايستلمها المريض إلا بعد تقديم رقمه المدني الشخصي أو تقديم ما يثبت شخصيته، وفيما عدا ذلك فأنه يسمح للصيدليات ببيع باراسیتامول والمعقمات وقطرات الأنف وغيرها”.
ويرى بأن هذه الطريقة، تمنع تسرب الأدوية أو بيعها من قبل جهات غير مرخصة “وتمنع التلاعب بالكميات لأن هنالك رقابة مفروضة على الطبيب والصيدلية في ذات الوقت”.

وفي سوق وسط العاصمة بغداد، كانت سيدة في عقدها الخامس تجلس إلى جوار بسطيّة مليئة بالأدوية المختلفة بعضها مسكنات وخافضات حرارة، قالت بأنها تشتريها من تجار وهي أدوية مضمونة وجديدة، وبدا عليها معرفة عامة بفوائد كل دواء وحتى أعراضه الجانبية.
ووجه أحد المستطرقين سؤالًا لها عن أحد الأدوية المعروضة في بسطيتها فأجابت على الفور بأنه “الفلاجيل للإسهال الحاد والالتهابات”، ثم أشارت إلى مجموعتها بالقول إنها لديها “إبر خاصة للأطفال، وكفلكس، وحبوب للصداع، وشروب للسعال”.
وعلى مقربة من البسطية الصغيرة، كانت تقف السيدة جميلة القيسي (57سنة) وهي تراقب المشهد وتستمع إلى المحادثة، قالت بانها مغتربة في فلندا بين 2014 و2021، وأضافت أنها لا تذكر حصولها على مضاد حيوي من طبيب العائلة هناك على الرغم من مراجعاتها العديدة إليه، بسبب نزلات برد أو آلام في مفاصلها.
وتابعت مبتسمة “غالبًا ما كان يقول لي الطبيب، خذي حبة باراسیتامول، وأكثري من شرب المياه، ومارسي رياضة المشي”.
وأضافت وهي تضع يدها على فمها “بعد عودتي إلى العراق، أستطيع الحصول على أي دواء أريده بمجرد ذهابي الى الصيدلية، بل وأستطيع تحديد النوعية التي أريدها، وأشتري أحيانًا مراهم من على الأرصفة يؤكد بائعوها أنها أصلية ومن مناشئ أوروبية وبلا أعراض جانبية”.
توافقها البائعة بحركة من يدها، وتقول لها بحماس “أنا أضمن لك بأن جميع أدويتي أصلية ولاتسبب أعراضًا جانبية!”.
وتكمن خطورة الأدوية المباعة في البسطيات على جوانب الطريق تبعًا لمصادرها ولاسيما تلك التي تجمع من النفايات الطبية قبل أن يعاد تدويرها بطرق بسيطة وإعادة تغليفها لتبدو جديدة، وفقًا لمتعاملين بها في سوقها الرائجة بالعاصمة بغداد.
وتطرح مستشفيات بغداد ومراكزها الصحية وصيدلياتها نحو 4200 طنًا من المخلفات والنفايات الطبية في السنة الواحدة، يعاد بيع نصفها في الأسواق بعد معالجتها.
ويقول ابراهيم عبود الموظف في دائرة العيادات الشعبية في بغداد، إن المخلفات الطبية تكون في العادة خطرة على الصحة كونها ملوثة، وأن هناك من يعمل على جمعها لإعادة تدويرها واستخدامها.
ويتابع “لايمكن السيطرة تمامًا على تسريب المخلفات إلى السوق فهنالك مافيات تنسق مع عيادات الأطباء لشراء المخلفات وإعادة الحياة لها بطرق بدائية”.
لكن الطبيب فاضل تحسين، من بغداد، ينفي مسؤولية الأطباء عما يحدث، أو وجود دور لهم في تسرب المخلفات الطبية ونفاياتها من خلال عياداتهم.
ويوضح الدكتور فاضل تحسين أن “أغلب المستشفيات والعيادات الشعبية تفتقر إلى الرقابة ولا تتبع البروتوكولات وأن من يقوم بتسريب المخلفات هم عمال التنظيف والأجراء وهؤلاء يعرفون ماهو الثمين منها لذلك يتسابقون على رفع المخلفات بسرعة”.
ويلفت كذلك إلى قضية أخرى تتعلق بالأدوية منتهية الصلاحية التي لا تحرص بعض الصيدليات على التخلص منها وحتى إن فعلت فإنها ستعود مجددًا بتحويرات بسيطة لتباع في صيدليات المناطق الشعبية أو على الأرصفة بعد إعادة تغليفها وتزوير تواريخ الصلاحية أو محوها بطريقة واضحة ومشوهة”.

ولا تجري تجارة الأدوية منتهية الصلاحية أو المزورة عن طريق أصحاب بسطيّات الأدوية فقط، من الذين يطلق عليهم شعبيًا تسمية (أطباء الأرصفة) وإنما تقوم بها صيدليات استثمارية كبرى بمساحات أرضية قد تصل إلى 500 متر مربع، وهذه الصيدليات الكبيرة أخذت تنتشر في الشوارع التجارية وهي تروج لامتلاكها أدوية أصلية و “مضمونة”.
ويطلق عامة الناس على هذه الصيدليات تسمية “مول”، ولكن “حسين. م” وهو موظف رقابي يعمل في وزارة الصحة العراقية، يقول عنها بأنها “أوكار للغش وتجارة الموت”.
وأوضح أن “الأدوية المعروضة في هذه المحلات تدخل عن طريق موانئ البصرة، حيث تصل حاويات مليئة بالأدوية منتهية الصلاحية، ويتم إدخالها على أساس كونها بضاعة أخرى، ثم تصل إلى مذاخر بغداد ليتم تغليفها من جديد وبيعها على انها أصلية إلى صيدليات المول”.
وأضاف “بعض هذه الصيدليات تعترف لزبائنها بأن أدويتها تصل عن طريق التهريب، وبهذه الطريقة يقومون برفع الأسعار عند كل شح يحدث في تلك الأدوية التي في الغالب تستخدمها فئات محددة (للتنحيف أو بناء الأجسام)”.
ويعبر عن استغرابه في أن أغلب هذه الأدوية “تكون ممهورة بلاصق يؤكد فحصها من قبل وزارة الصحة وأن الشركة معتمدة من قبل الدولة العراقية، ولا يمكن التأكد من صحة ذلك”.
وعن مخاطرها يقول حسين إن “الكثير لا يهتم بما تشكله هذه الأدوية من مخاطر، والسعر المرتفع للدواء هنا يصبح معيار الجودة الذي يقيس به الغالبية من الناس الأمر، وإذا سألت أحدهم عن ذلك، سيقول لك الموت في النهاية هو أمر بيد الله وحده!”.
من جانبها تقول إيمان (57 سنة) وهي مواطنة مصابة بمرض السرطان في مراحله الأخيرة إن “الأدوية منتهية الصلاحية التي اضطررت إلى شرائها من السوق السوداء، لندرة توفرها، تسببت بتدهور حالي على رغم من غلاء أسعارها، إذ يبلغ سعر دواء يحتوي على 24 حبة فقط ما كلفته أربعة آلاف دولار أميركي”.
يقول زوجها، “اضطررنا لبيع منزلنا الذي يقدر بـ200 ألف دولار أميركي لسد تكاليف جزء من علاج زوجتي، وللأسف لم يسهم ذلك في شفائها بل ساءت حالها لتضارب وصفات علاج الأطباء لها، ووقعت هي فريسة تجاربهم وكانت سببًا في كثير من الآلام والمتاعب لها”.
ويختم “لو كان هنالك إشراف من الدولة على الرحلة العلاجية للمرضى وبالذات مرضى السرطان لتغيرت إحصائيات هذا المرض ونتائج مرضاه، لأنهم يعانون بشدة ولا يجدون رحمة لدى طبيب أو صيدلي إلا ما ندر، وإن كان وضعنا المادي معقولًا، فالفقراء يعانون بلا أمل”.
وتشير مصادر، إلى أن العراق ينفق نحو ثلاثة مليارات دولار سنويًا على استيراد الأدوية من مناشئ عالمية مختلفة، وبحجة ارتفاع أسعار البعض منها يلجأ تجار إلى طرق التهريب لتأمين أدوية مقلدة أو مغشوشة ويبيعونها بأسعار زهيدة”.
وتشدد تلك المصادر، على أن التعامل مع الأدوية المهربة او تلك التي تباع على الأرصفة من مسؤولية الجهات الأمنية، واأن الجهات الرقابية تبلغ باستمرار عن وجود هذه الظاهرة وتطالب بمكافحتها.
وفي ظل قلة الإنتاج المحلي، تشكل الأدوية المستوردة النسبة الأكبر من مجموع الأدوية في الصيدليات والمستشفيات في العراق، وهو ما يتم عبر المؤسسات الحكومية أو القطاع الخاص ما فسح المجال لعمليات تهريب كميات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الطبية غير المرخصة والموافقة لمعايير الاستخدام البشري، أو منتهية الصلاحية قبل أن ينتهي بها المطاف لتكون سلعة تباع في البسطيات والمحال غير المرخصة.
ويرجع عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي، أسباب دخول الأدوية المهربة إلى “سوء التنظيم ووجود ثغرات في عملية الاستيراد من قبل وزارة الصحة العراقية، واستغلالها من قبل متنفذين”.
ويؤكد الغرابي أن الحل يكمن في الإرادة الحقيقية لتفعيل التسعيرة الدوائية الموحدة وتطبيق قانون الضمان الصحي كمرحلة أولى حتى تكون الأدوية تحت سيطرة الجهات المخولة من الدولة، وإن طبق ذلك فيمكن السيطرة على 70 بالمائة من تهريب الأدوية”.
وسبق أن كشف معهد تشاثام هاوس البريطاني في تقرير له عن حالة الفوضى في القطاع الطبي في العراق وما رافق ذلك من فساد غير مسبوق في قطاع الأدوية، مشيرًا إلى أن 30 بالمائة فقط من الأدوية الموجودة في الصيدليات صالحة طبيًا، أما الأدوية الأخرى فهي على الأغلب مزيفة أو منتهية الصلاحية.
ووفق التقرير، فإن منظومة الفساد تحقق أرباحًا سنوية تعادل 5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للعراق وتقدر بنحو 7 مليارات دولار، بحسب معلومات حصل عليها المعهد من مسؤولين حكوميين.
وأشار التقرير إلى مشاركة وزارات النقل والداخلية والمالية والتخطيط في عمولات عقود وتراخيص بالنيابة عن الأحزاب وصفقات توريد أدوية من شركات غير مسجلة أو استيراد أدوية غير مرخصة من قبل وزارة الصحة التي بدورها تضم موظفين تابعين لأحزاب سياسية متنفذة وميليشيات مسلحة، يسهلون عملية إدخال الأدوية الفاسدة إلى العراق.
وعرض المعهد في تقريره بشكل مفصل، رحلة الفساد لشحنات الأدوية من ميناء الفاو في البصرة جنوبي العراق وصولًا إلى بغداد، حيث تفرض نقاط تفتيش تابعة للميليشيات رسومًا تصل إلى ألف دولار على كل شاحنة صغيرة محملة بالأدوية.