سوء الإدارة وعدم تشييد سدود جديدة يتسببان بهدر مياه الأمطار في العراق
خبراء الموارد المائية يجمعون على فشل الحكومات المتتابعة بعد الاحتلال في إدارة ملف المياه وعجزها عن بناء السدود الأمر الذي ساهم بهدر كميات كبيرة من المياه العذبة بعد أن امتزجت مع مياه البحر المالحة في الخليج العربي.
بغداد – الرافدين
حث مختصون في الموارد المائية السلطات الحكومية في العراق على بناء السدود واتخاذ الإجراءات المثلى للتحكم في مياه الأمطار التي تشهدها خلال موسم الشتاء من كل عام وتخزينها بما يضمن الحد من مخاطر الفيضانات، وتلبية الاحتياجات المتزايدة للمياه.
وأكد المختصون أن الحكومات المتتابعة في العراق لم تنجح ببناء سد واحد بعد نحو 22 عامًا أعقبت الاحتلال في وقت أهدرت فيه أموالًا ضخمة نتيجة فسادها فضلًا عن تسببها بهدر كميات كبيرة من المياه العذبة التي ذهبت إلى الخليج العربي جراء سوء الإدارة وعدم تشييد السدود.
ويراقب العراقيون بحسرة وفي تناقض واضح، كميات هائلة من مياه الأمطار والسيول التي تساقطت على مدنهم ووديانهم خلال الشهر الحالي والذي سبقه، وهي تذهب سدى في الوقت الذي هم بأمس الحاجة إلى تلك المياه سواء في الزراعة والثروة الحيوانية وغيرها من المجالات، وسط دعوات للاستفادة من تلك المياه وتخزينها كما تفعل الدول الأخرى.

وتشهد مناطق عديدة من العراق خلال موسم الشتاء سيولًا هائلة تجتاح المدن والجبال والوديان، وتتسبب بخسائر مادية، فيما تكتفي السلطات بتعطيل الدوام الرسمي فيها، بعدما تغرق الأمطار الشوارع والأزقة وبعض القرى وتقطع الطرق فيها.
وتُتهم السلطات في العراق بالإخفاق في الاستثمار الأمثل لمياه الأمطار والاستفادة منها بسبب عدم الاحتفاظ بغالبية مياه الأمطار والسيول والإيرادات الواردة من دول المنبع داخل الأراضي العراقية لعدم وجود سدود كافية على امتداد نهري دجلة والفرات والأحواض المائية في المحافظات الوسطى والجنوبية، إضافة إلى السدود القليلة في شمال وغرب العراق.
ويؤكد الخبير في الري والسدود المهندس نجم العبيدي وجود حاجة ملحة لبناء سدود جديدة في العراق لاستيعاب مياه الأمطار والسيول بدل تركها تذهب هدرًا إلى الخليج العربي أو الأهوار، منوهًا إلى عدم قيام حكومات ما بعد 2003 ببناء أية سدود كبيرة واكتفاءها بما موجود من سدود قديمة.
وذكر العبيدي أن العراق لديه إمكانيات مالية كبيرة وطواقم هندسية كفوءة، تمكنه من بناء سدود في مختلف مناطق البلاد، لتخزين مياه الأمطار والسيول ومياه الثلوج، إلا انه استدرك بأن حكومات بغداد لم تعر هذا الملف الاهتمام الذي يستحقه، بالرغم من تحذيرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من كارثة جفاف تنتظر العراق، نتيجة الخفض المتعمد لحصة العراق من مياه الأنهار من قبل دول المنبع تركيا وإيران، داعيًا إلى بناء السدود الصغيرة والمتوسطة الحجم في مختلف المحافظات لمواجهة الجفاف.
ونوه إلى أن دول منابع الأنهار تبرر تقليص حصة العراق بقلة الأمطار كما تنتقد هدر مياه الأمطار في العراق وعدم بناء سدود كافية إضافة إلى أساليب الري الزراعي القديمة فيه، كاشفًا أن تركيا عرضت على العراق تقديم خبرتها الفنية لبناء السدود وتطوير أساليب الري الزراعي، ولكن الاستجابة لها من بغداد كانت ضعيفة.

ويواجه العراق منذ سنوات مصيرًا كارثيًا جراء الجفاف وشح المياه التي تراجعت كمياتها إلى مستوى ينذر باحتمال فقدان مياه الشرب، في ضوء انخفاض المخزون المائي الاستراتيجي إلى 7.5 مليارات متر مكعب للمرة الأولى بتاريخ البلاد، وفق ما أفادت به وزارة الموارد المائية.
ومؤخرًا كشف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية والتنمية غلام إسحاق زاي بأن 90 بالمائة من مياه نهري دجلة والفرات مياه سطحية ملوثة، وعلى العراق اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع هدر المياه.
وأشار زاي في لقاء متلفز، أن “العراق واحد من الدول التي تعاني أشد معاناة من آثار احترار العالم والتغير المناخي، الذي كان كان له أثر كبير في تراجع مناسيب مياه نهري دجلة والفرات اللذين يعتمد عليهما العراق، ولدينا إحصائية تخبرنا بأن نحو 37 ألف شخص هاجروا من مناطق في جنوب العراق وغيروا مواطنهم بسبب آثار التغير المناخي”.
ونوه إلى أن “هناك إحصائية خطيرة تقول إن العراق سيفقد 20 بالمائة من مياهه السطحية ومياه الأمطار بحلول العام 2050”.
ويتفق خبراء الموارد المائية على إخفاق الحكومات العراقية بالتعامل مع ملف إدارة الموارد المائية وخاصة في مجال بناء السدود لخزن المياه في مفارقة تتمثل بذهاب مياه الأمطار والسيول في العراق إلى الهدر وعدم الاستفادة منها في الوقت الذي يعاني البلد من جفاف كارثي أسفر عنه تقليص المساحات الزراعية وهجرة واسعة من الريف إلى المدن وخسائر كبيرة في الثروة الحيوانية.
ويوضح المختص في شؤون المياه، حسين الظاهر، أن “هناك حاجة ملحّة لتعزيز البنية التحتية الخاصة بتخزين المياه وأن العراق يملك إمكانيات طبيعية كبيرة تمكنه من بناء سدود وخزانات جديدة تسهم في استثمار المياه المتدفقة من الأمطار والسيول بشكلٍ فعّال”.
وأشار الظاهر إلى أن “بناء السدود الصغيرة والمتوسطة الحجم في مختلف المحافظات سيسهم في خفض الفيضانات وضمان توفر المياه خلال فترات الجفاف”.
وتطرّق الظاهر إلى “أهمية أنظمة الحصاد المائي، حيث يمكن الاستفادة من المياه التي تتجمع على أسطح المباني والمناطق السكنية من خلال تخزينها في خزانات خاصة، لاستخدامها في أغراض الري وتلبية الاحتياجات اليومية للسكان، خاصة في المناطق الزراعية التي تعتمد بشكل رئيس على الأمطار”.
ودعا المختص في شؤون المياه إلى “إعادة تأهيل المسطحات الرطبة والأهوار كونها تشكل خزانات طبيعية لمياه الأمطار وتساهم في استقرار المناخ المحلي، كما تسهم في تقليل مخاطر الفيضانات التي تهدد بعض المناطق، خاصة خلال فترات ذروة هطول الأمطار”.
ويمتلك العراق 19 سدًا، شُيّد معظمها على نهري دجلة والفرات وروافدهما بهدف السيطرة على تدفق مياه النهرين عند وفرة الإطلاقات بشكل يحمي المدن من الفيضانات، علاوة على استعمال خزينها في أوقات الشحّة.
ويرجع تاريخ إنشاء السدود في العراق الحديث إلى عام 1913، عندما شيّد في محافظة بابل أواخر العهد العثماني سد الهندية بهدف تحويل مياه نهر الهندية إلى نهر الحلة الذي شحّت فيه المياه، حيث تم بناء السد على أنقاض سدٍ شيّد عام 1836، وتحطم أكثر من مرة نتيجة سوء التخطيط.
وبالرغم من تبني الدولة العراقية الحديثة خطة طموحة لتأسيس مشاريع الري وبناء السدود إلا أن أنها تعطلت أكثر من مرة نتيجة عوامل خارجية، في مقدمتها الحروب العالمية والإضرابات السياسية التي رافقتها.
وخلال الفترة الممتدة من استقلال العراق عن الانتداب البريطاني في 1932 ونهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، لم ينجح البلد سوى ببناء سدٍ واحد هو سد الكوت الذي افتتح في 1939، قبل أن يعود إلى مباشرة مشاريعه المائية في خمسينات القرن الماضي تنفيذًا لاستراتيجية مجلس الإعمار العراقي الذي تأسس عام 1952، وخصّص 70 بالمائة من عائدات النفط للمشاريع الاستراتيجية والبنية التحتية.
وتمت المباشرة في بناء العديد من السدود التي لا تزال قائمة حتى اليوم مثل سد دوكان، وسد دربندخان، وسد الثرثار، وسد الرمادي، إلى جانب العديد من مشاريع النواظم المائية وقنوات الريّ.
وتواصلت عمليات بناء السدود في العهد الجمهوري لكنها شهدت فترات من التراجع والتباطؤ، نتيجة ظروف مختلفة في وقت أقامت فيه دول الجوار (تركيا وإيران وسوريا) -خلال تلك الفترة- العديد من المشاريع المائية التي تركت تأثيرًا سلبيًا في العراق الذي لم يستعد للظروف المائية القاسية.
ويقول خبير الزراعة والموارد المائية تحسين الموسوي، إن غالبية السدود الرئيسة في العراق شيدت بين خمسينات وسبعينات القرن الماضي، من أجل التعامل مع الفيضانات خلال فترات الإطلاقات المائية العالية لنهري دجلة والفرات.
ويوضح أن السدود لعبت دورًا مهمًا في خزن المياه عندما كانت نسبة الإطلاقات المائية من النهرين مرتفعة، غير أن التراجع الكبير في الإطلاقات قللّ من الأهمية النسبية للسدود في شكلها القائم.
ونتيجة التراجع الكبير في الإطلاقات المائية من النهرين وبالنظر إلى أن غالبية السدود العراقية سدود إملائية صمّمت لغرض حجز مياه النهرين، يؤكد الموسوي “عدم حاجة العراق إلى السدود الإملائية بصيغتها الحالية، متسائلًا (في حال عدم توفر الإطلاقات المائية، ما هي القيمة المضافة للسدود؟”.
وحول السدود التي يحتاجها العراق، يشير الموسوي إلى سدود “الحصاد المائي” التي تستطيع التعامل مع السيول والفيضانات المصاحبة للأمطار بشكل يعزز المياه الجوفية، ويقلل من نسب الفاقد نتيجة التبخر.

وتتهم الحكومات المتعاقبة بعد 2003 إلى جانب سوء إدارة ملف المياه وعدم استثمار مياه الأمطار بشكل صحيح وإهمال بناء السدود، بفشلها السياسي في تنظيم العلاقات مع دول الجوار بما يضمن حصول العراق على حصصه المائية.
وسبق أن سلط تقرير صادر عن مركز “تمكين السلام” العراقي، الضوء على إهمال حكومات ما بعد عام 2003 لهذا الملف وإحجامها عن مواجهة دول الجوار، مشيرًا إلى أن الأحزاب التي ظهرت بعد 2003 إما تعتمد على دول الجوار للحصول على الدعم السياسي، أو تخشى قوتها.
ووصف التقرير دبلوماسية المياه في العراق على مدى السنوات الماضية بأنها “غير متسقة”، ما انعكس على الميزانيات المخصصة لوزارة الموارد المائية التي يُنظر إليها منذ عام 2003، على أنها كيان “هامشي”.
ويشير التقرير إلى “تجنب متعمد” لمواجهة إيران، وينقل عن مسؤولين في وزارة الموارد المائية القول إن السلطات العليا طلبت منهم “عدم التحدث إلى إيران بشأن ذلك”.
وشهدت إيران مؤخرًا تشييد سد مياه عملاق يدعى سد شريف شاه على منحدرات وادي حران، أحد أهم الوديان الحدودية مع محافظة ديالى التي تستقبل سنويًا كميات كبيرة من السيول القادمة من عمق الأراضي الإيرانية باتجاه العراق”.
وتؤكد مصادر مطلعة أن “هذا السد دخل حيز التشغيل فعليًا وهو يمتص قرابة 70 بالمائة من مياه السيول الموسمية التي كانت تتدفق نحو المناطق الحدودية العراقية، بما في ذلك مندلي والمناطق المحيطة وأن هذا السد يقع على بعد 30 كيلومترًا فقط من الحدود العراقية، ما أثر بوضوح على كميات المياه الواصلة إلى الأراضي العراقية”.
ويرى الخبير المائي، علي المهداوي أن “العراق يواجه موتًا بطيئًا بحرمانه من المياه”، وأن السد الإيراني الجديد خطير للغاية، وأن العراق يواجه حصارًا مائيًا سيقضي بالتدريج على صفته بلدًا زراعيًا، وهو ما يحتم على الحكومة أن تعالج الملف وتتحمل مسؤوليته، لا أن تنتظر قتل الزراعة في العراق”.
وأضاف المهداوي أن “سياسات العراق المائية ضعيفة جدًا وتسببت بهدر كميات كبير من المياه نحن بأمس الحاجة إليها”.
وخلص بالقول إن “الحكومات المتعاقبة فشلت بإدارة ملف المياه، وتركت إيران وتركيا تتحكمان بالحصص المائية للعراق، من دون أن تكون هناك أي إجراءات ومعالجات عدا تقبل هذا الواقع وتقليص المساحات الزراعية وحرمان محافظات عدة من الخطط الزراعية بالكامل”.