واشنطن تضيق الخناق على عمليات غسيل الأموال في سوق العقار العراقي
واشنطن تفرض المزيد من الرقابة على النظام المصرفي في العراق فيما يتعلق بسوق العقار بعد اتساع ظاهرة تشييد المجمعات الفارهة وسط حديث عن شبهات فساد وعمليات غسيل أموال منظمة تتخذ من سوق العقارات وسيلة لها.
بغداد – الرافدين
أصدر البنك المركزي العراقي تحت وطأة الضغط الأمريكي قرارًا بحظر بيع العقارات فوق 100 مليون دينار (70 ألف دولار)، بعدما وجه خطابًا رسميًا إلى دائرة التسجيل العقاري، بشأن عدم تسهيل بيع العقارات إلا عبر المصارف العراقية، في محاولة للحد من اتساع ظاهرة غسيل الأموال.
وجاءت هذه القرارات الجديدة في أعقاب زيارة وفد سياسي ومصرفي حكومي إلى أمريكا التي لم تخف امتعاضها من اتخاذ جهات متنفذة أزمة السكن وسيلة لإخفاء عمليات غسيل الأموال بعدما وصلت أسعار بيع الوحدات السكنية إلى أرقام وصفت بـ “الفلكية” وبما يفوق قدرة المواطن المتضرر من هذه الأزمة.
وترأس وزير الخارجية في حكومة الإطار التنسيقي فؤاد حسين وفدًا اقتصاديا ومصرفيًا رفيع المستوى في زيارة رسمية إلى واشنطن خلال الأيام الماضية، وبحث من خلالها جملة من الملفات التي وصفت بـ”المهمة”، ومنها ما يتعلق بتطوير وإصلاح السياسة النقدية، ومواجهة التحديات الراهنة في المستويين النقدي والمصرفي، وما تعكسه هذه الإجراءات من إصلاح للنظام المصرفي عبر مكافحة الفساد وغسيل الأموال.
وقال نائب في البرلمان الحالي إن “واشنطن أبلغت العراق عبر لقاءات جمعت مسؤولين أميركيين مع وزير الخارجية فؤاد حسين، ومدير البنك المركزي والوفود التي تشترك في اللقاءات الرسمية، أنها لا تريد أن يستمر العراق بمنح الفرص لأصحاب الأموال غير المشروعة بمواصلة غسل أموالهم عبر شراء العقارات وفتح المشاريع الوهمية”.
وأضاف مفضلًا عدم الكشف عن اسمه أن “بغداد خلال المرحلة المقبلة لا تريد أي تصادم مع الأميركيين، ناهيك عن كون الوضع العراقي تدهور كثيرًا من جرّاء ارتفاع أسعار العقارات، وتحديدًا في بغداد بسبب غسيل الأموال الذي يمارسه سياسيون وزعماء أحزاب وأذرعهم الاقتصادية والتجارية”.
وكان قاضي محكمة تحقيق النزاهة وغسيل الأموال إياد محسن ضمد، قد أكد في تصريحات صحفية سابقة أن العقارات أكثر القطاعات استهدافًا بجرائم غسيل الأموال.
وبيّن ضمد أنه “بسبب الرقابة الشديدة المفروضة على حركة الأموال وضرورة معرفة مصادرها قبل قبول إيداعها في المصارف أو إجراء الحوالات البنكية بخصوصها يلجأ مرتكبو الجرائم الأصلية إلى إتباع أساليب كثيرة تهدف إلى قطع صلة الأموال بالجريمة التي أنتجتها وإظهار الأموال القذرة وكأنها أموال مشروعة وناتجة عن مشاريع وأعمال قانونية”.

ووصل عدد المجمعات السكنية في بغداد إلى 46 مجمعًا، تفتقر غالبيتها إلى التخطيط السليم وهي مُقامة بشكل يزيدها بعدًا عن حل أزمة السكن أو معالجة العشوائيات، برغم تمركزها على أراضي الدولة المخصصة للاستثمار، والتي تُمنح للمستثمر بأسعار رمزية وشبه مجانية، وفقًا لقانون الاستثمار العراقي رقم 13 لعام 2006.
ويُقسم البناء الحاصل في المجمعات السكنية إلى قسمين؛ الأول يمثّله البناء العمودي وبناء العمارات والشقق السكنية، فيما يمثل البناء الأفقي مثل المنازل والقصور، القسم الثاني.
ويتكون هذان القسمان من اجزاء عدة أخرى؛ المجمعات الفارهة، وتتمركز غالبًا في المناطق الحيوية داخل المُدن، وتباع بأسعار باهظة، فيما تتمركز المجمعات الاقتصادية على أطراف المُدن الخارجية، وتباع بأسعار أقلّ من الأولى، وبرز مؤخرًا قسم آخر، يتوسط هذين القسمين، تُمثّله تلك المجمعات المقامة على الأطراف الداخلية للمُدن.
وتتميز كل هذه المجمعات، باستحداث الطاقة الكهربائية والمياه والمجاري بنسبة 100 بالمائة، وتكون هذه الخدمات متوافرةً لقاء بدل شهري محدد مسبقًا، يدفعه المشتري.
ويفتح القانون الحالي المجال لاستغلال مواد محددة تعطي الكثير من الميزات والتسهيلات للمستثمرين، إذ تنص المادة العاشرة منه على منحهم التسهيلات والاستثناءات في المجمعات السكنية، مثل حقّ تملكهم أراضي الدولة، واستثنائهم من أحكام قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم 32 لعام 1986، أو أي قانون يحلّ محله.
وتنص المادة 15 من القانون، على “تمتع المشروع الحاصل على إجازة الاستثمار من الهيئة، بالإعفاء من الضرائب والرسوم لمدة عشر سنوات من تاريخ بدء التشغيل، وهي قابلة للتمديد 15 عاماً إذا كانت نسبة الاستثمار العراقي 50 بالمائة”.
ويُمنح المستثمر وفقًا لهذا القانون المثير للجدل تخفيضات على أسعار المواد الإنشائية والبنائية.
وترتبط أحزاب كبرى وشخصيات سياسية من الطبقة العليا، في ملف الفساد الحاصل في المجمعات السكنية، إذ يمتلك كُثر منهم شركات استثمار خاصة، وهذه تحوز على عروض استثمارية كثيرة بسبب نفوذ أصحابها.
وتدرّ هذه الاستثمارات أموالًا ضخمةً لهم، ليس عبر الاستحواذ على عقود بناء المجمعات فحسب، ولكن نتيجةً للرشى المقدّمة لقاء التسهيلات التي يوفرونها للمستثمرين أيضًا.
وتصل قيمة الرشى بحسب مصدر في هيئة الاستثمار، إلى ملايين الدولارات نظير تسهيل الفوز بإحدى المناقصات الخاصة بالمجمعات السكنية، أو تخذ هذه الرشى شكلًا مختلفا يتمثل بمنحهم نسبةً مئويةً في المشروع.
كما يطلب المستثمر غالبًا من السياسيين إبعاد اللجان الرقابية عنه، من أجل غضّ النظر عن جودة المواد المستخدمة في البناء، أو تلاعبه بأسعار البيع.
ويضيف المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه، أن الطرف السياسي يضع ممثلًا عنه داخل الشركة المنفّذة، غالباً لتسهيل الاتصال بين الطرفين، وقد يلجأ الأخير إلى المطالبة بأموال إضافية مقابل الجهد الذي يقدّمه.
ويدفع هذا الجشع المالي بعض المستثمرين إلى الانسحاب، أو رفع قيمة العقار لتسديد متطلبات الفساد السياسي المستمر، وهو فساد سياسي يلبس زيّ المافيا.

ولا تبدو أغلب أسعار المجمعات السكنية في متناول الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل، ففي منطقة الزعفرانية التي تعد ذات أغلبية من محدودي الدخل، بلغ سعر المتر المربع الواحد في مجمع سكني لشقق بمساحة 158 مترًا مربعًا، والذي يتم بناؤه حاليًا، مليونًا و350 ألف دينار (نحو 880 دولارًا وفقًا لسعر الصرف في السوق الموازي حاليًا)، ويتم التسديد على شكل ست دفعات بين كل دفعة وأخرى خمسة أشهر.
ويتجاوز سعر الشقة بمساحة 133 مترًا مربعًا في مجمع دار السلام السكني 200 مليون دينار، ويحتاج رب العائلة مبلغ 50 مليون دينار كمقدمة لشرائها، فيما تبلغ الدُفعات الشهرية مليوناً ونصف مليون دينار، أما الشقة بمساحة 200 متر مربع فكلفتها تتجاوز 300 مليون دينار بدفعة أولى تبلغ 78 مليون دينار وقسط شهري يتجاوز مليوني دينار.
في المقابل فإن أسعار العقارات في بعض المناطق وصلت إلى 20 ألف دولار للمتر الواحد وفي مناطق أخرى تتراوح ما بين 3500 إلى 14 ألف دولار للمتر الواحد.
ووصلت قيمة سعر المتر الواحد في حي اليرموك ما بين 4000 و20000 دولار، بينما في حي الحارثية المجاورة، تراوح بين 3500 و14000 دولار، وفي القادسية بين 3200 ولغاية 14000 دولار، بينما تراوح في المنصور وزيونة والجادرية بين 3300 و13000 دولار، وفي حي الجامعة بين 2500 ولغاية 11000 دولار، بينما تقل القيمة كلما كانت المنطقة باتجاه أطراف العاصمة.
ويحاول سليمان سعدون، الموظف في وزارة التجارة، منذ أربع سنوات الحصول على إحدى الوحدات السكنية للخلاص من “لعنة الإيجار” كما يسميها، لكن من دون فائدة.
فراتب الرجل لا يكاد يكفيه حتى آخر الشهر، ويضطر بسببه للعمل كسائق سيارة أجرة لتغطية مصاريف عائلته المكونة من ستة أشخاص.
وأضاف سعدون أن “جميع الفرص المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي والشركات الإلكترونية، وبعد التواصل معهم اتضح له أن من المستحيل الحصول على وحدة سكنية في بغداد لأسعارها الفلكية، فتوجه إلى المجمعات السكنية على أطراف العاصمة، لكنها هي الأخرى كانت مقدمتها أكثر من إمكانيته المتواضعة”.
وخلص بالقول إن “الحكومة وهيئة الاستثمار وعدتنا بحلول لأزمة السكن التي نعاني منها، لكن نجد في كثير من المجمعات السكنية مقدمة مالية عالية وأقساطاً شهرية كبيرة، فكيف يتوقعون أن نسدد تلك المبالغ”.
وفي الوقت الذي لا يتمكن المواطن من الحصول على وحدة سكنية في هذه المجمعات فإنها تتحول يوما بعد آخر إلى مجرد واجهات لغسيل الأموال، تتورط فيها شخصيات بارزة وحكومية أيضًا عبر الشركات الاستثمارية المرتبطة بها.
ويرى الباحث السياسي سلام العزاوي أن “عمليات غسيل الأموال الحاصلة داخل هذه المجمعات ترجع إلى الأزمة المالية التي ضربت العالم خلال السنوات الماضية، ودفعت الكثير من الفاسدين إلى استرجاع أموالهم من خارج العراق، خوفًا من خسارتها في العواصف الاقتصادية العالمية”.
ويعتقد العزاوي، أن “هناك ضرورةً لزجّ هذه الأموال في الأسواق لتبرير مصادرها وزيادتها في آن واحد، نظرًا إلى حجمها، الأمر الذي يدفع من يملك هذه الأموال إلى وضعها غالباً داخل المحافظ الاستثمارية الخاصة بالمجمعات السكنية”.
بدوره يؤكد الباحث في الشأن الاقتصادي، أحمد عيد أن “اللجوء الى الاستثمار العقاري في العراق “وسيلة آمنة للكثير من عمليات غسل الأموال”، خاصة بعدما تعرضت التحويلات الخارجية للأموال للمراقبة والمتابعة والحظر من قبل الخزانة الأمريكية والفيدرالي الأمريكي، “ليتجه معظم الفاسدين إلى غسل الأموال داخليًا من خلال شراء العقارات والاستثمار بها”.
ويكشف عيد، أن “استثمار المشاريع السكنية لا يخلو من الفساد، حيث هناك الكثير من المجمعات والمدن السكنية تشوبها الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة الشركات الاستثمارية المنفذة، أو جودة مواد البناء التي تستخدمها هذه الشركات في عمليات الإنشاء والتجهيز”.
ويتابع “كما هناك مجمعات سكنية أحيلت للاستثمار إلى شركات منفذة منحت الأراضي والإجازات الاستثمارية وفقاً لعلاقاتها مع الجهات المعنية، ولم تكن بالمستوى المطلوب في جودة عملها والمواد المستخدمة في إنشاءاتها، حيث لا تُقارن كلفة الإنشاء البسيطة مع مستوى مبالغ البيع الهائلة”.
وانتهى الباحث في الشأن الاقتصادي بالقول، إن “المواطن لا يستفيد من هذه الاستثمارات لأنها تعود لشركات ربحية تعمل وفقًا للسياسة الاحتيالية، كما أنها تابعة لجهات سياسية أو مكاتب اقتصادية لميليشيات وأحزاب متنفذة، ولا تمتلك الخبرة الكافية”.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد كشفت في تقرير مطول عن قيام لصوص الدولة في العراق بغسيل الأموال التي استولوا عليها ببناء مجمعات سكنية وأسواق، مؤكدة على أن الاستثمار العقاري في بغداد بات أداة رئيسية لغسيل الأموال في العراق.
ووفقًا لما جاء في تقرير الصحيفة الأميركية فإن بغداد ومحافظات عراقية أخرى تشهد حركة بناء حثيثة تستبدل البساتين والحدائق الخضراء بأبراج خرسانية تتجاهل تغيرات المناخ، فضلًا عن أن أسعار وحداتها السكنية باهظة لا تتحملها الطبقة الوسطى.
وأشارت الصحيفة في تقريرها إلى أنه في حين أن بعض عمليات إزالة المساحات الخضراء غير قانونية أو حصلت على تصاريح بناء احتيالية، فقد تم تنفيذ المشاريع الكبرى التي أدت إلى تدمير آلاف الدونمات من البساتين بموافقة السلطات الحكومية.