قوة حكومية ترضخ لسنن العشائر في واسط دون الاحتكام للقانون الذي تمثله
تنتشر بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي جلسات تحديد "الفصل العشائري" (جلسة صلح بين المتنازعين) حتى بات بعضها يتجاوز المليار دينار عراقي في ظل صمت حكومي مريب يرافقه ضعف واضح للقانون وغياب صريح لمؤسسات الدولة.
واسط – الرافدين
أثار تداول صور لجلسة فصل عشائري بين ضباط يمثلون قوة الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الإطار التنسيقي وأفراد من إحدى العشائر في محافظة واسط ردود فعل غاضبة بعد لجوء قوة رسمية تمثل الدولة إلى تطبيق السنن العشائرية بعيدًا عن السياقات القانونية.
وعقدت جلسة الفصل العشائري في قضية مقتل الشاب المتظاهر سيف حسن البدري الذي قتل خلال تظاهرات للمزارعين على نهر الرحمة قبل حوالي شهرين وحضرت عشائر الأكرع ومياح والشريفات وعنزة لإرضاء عشيرة البو بدر حيث كان أبناء هذه العشائر جزءًا من القوة الأمنية أثناء الاشتباك مع المتظاهرين.
وقضت الجلسة بدفع دية القتل المتعارف عليها في السنن والبالغة (30) مليون دينار، كما جرى الاتفاق كذلك على دفع فصل يعرف محليا باسم (عضاب) لشقيق الشاب سيف حسن البدري وقدره بحسب السنن ذاتها (15) مليون دينار.
وانتقد عراقيون تفاعلوا مع الحدث الحال الذي وصلت إليها البلاد نتيجة غياب القانون الذي يعجز عن إنصاف الضحايا الأمر الذي يضطرهم إلى اللجوء إلى تطبيق سنن العشائر التي باتت سلطتها أكبر من سلطة الدولة ومؤسساتها الرسمية.
وتزايدت ظاهرة لجوء بعض شرائح المجتمع العراقي إلى السنن العشائرية والأعراف القبلية لفض نزاعاتهم بدلًا من القضاء ضمن ما يُعرف بالفصل العشائري بعد العام 2003 الذي تحول إلى أداة ابتزاز مالي خاصة في محافظات وسط وجنوب العراق.
واتسعت هذه الظاهرة أو ما يعرف “بالكوامة” بعد الاحتلال الأمريكي، وما أعقبه من تفكك للدولة ومؤسسات القضاء وهشاشة الأجهزة الأمنية وفشلها في ترسيخ الأمن العام.
وقد وصلت أموال الفصل العشائري إلى أكثر من مليار دينار في بعض الأحيان ما يعكس سطوة متزايدة لسلطة العشائر التي باتت تنافس سلطة القضاء الهشة في حل المشاكل والنزاعات المجتمعية بل تتفوق عليها.

وتحولت الفصول العشائرية إلى ساحة لاستعراض العضلات خاصة في ظل انتشار السلاح وانتماء العديد من أبناء العشائر للمليشيات وصار التهديد المتبادل بين العشائر المتخاصمة يتم بإطلاق النار والمعارك شبه اليومية في الأحياء السكنية بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية كما أظهر تسجيل في منصات التواصل الاجتماعي في مشهد يختزل حجم الفوضى العارمة في العراق في ظل انعدام القانون ووجود الدولة.
ويقول الشيخ محمد الشمري وهو أحد الذين يقدمون أنفسهم كوسطاء لحل المشاكل العشائرية إن “الفصل العشائري أصبح أكثر من السابق لاسيما بعد عام 2003 حيث أصبحت الأوضاع أكثر انفلاتًا، والوضع الأمني في تدهور مستمر، فضلًا عن تسييس القضاء وفقدان المجتمع العراقي تمامًا ثقته بالمنظومة القضائية.
ويضيف الشمري أن هناك العديد من القضايا التي عجز القضاء والقانون عن فضها الأمر الذي أجبر المتخاصمين على اللجوء الى الفصل العشائري وعادة ما يجري الفصل العشائري بعد مفاوضات طويلة بين المتنازعين، وفي حضور شيوخ من الطرفين ووجهاء وشيوخ قبائل أخرى وربما قيادات أمنية للوصول إلى تسوية مناسبة بين المتخاصمين.
وتشمل المفاوضات دفع مبالغ مالية كبيرة كعقوبة للحيلولة دون تكرار النزاعات، وفرض هيبة عشيرة على حساب أخرى.
ففي ديالى على سبيل المثال وخلال جلسة فصل عشائري اتهم أحد شيوخ قبيلة بني تميم قائد عمليات ديالى اللواء الركن علي فاضل عمران، بدفع مبلغ ضخم في محاولة للتنازل عن قضية لم يتسن لنا معرفة حيثياتها في خطوة عدها مدونون سابقة خطيرة حينما يقدم ضابط رفيع بتقديم الأموال لإرضاء شيخ عشيرة.
وعلى إثرها أعلنت وزارة الدفاع فتح تحقيق بشأن هذا المقطع المصور كاشفة إن، وزير الدفاع وجه بإرسال لجنة لتقصي الحقائق لمعرفة تفاصيل ماورد في المقطع المصور لكن ناشطين شككوا بنتائج هذه اللجنة على غرار نتائج اللجان التحقيقية الحكومية السابقة.
ويشير قانونيون إلى أن مثل هذه الحوادث تتكرر كل يوم في حين يقف القانون عاجزًا عن التدخل، مؤكدين “أن الخلل يكمن في تحطيم بنية المجتمع بعد 2003 الذي بات يلوذ بالعشيرة وليس قوانين الدولة ويؤكد القانونيون أن دور الدولة بعد عام 2003، صار ضعيفًا.
ويرى بعض العراقيين أن تنامي نفوذ سطوة العشيرة في حل الخلافات بين الناس، فسح المجال لبعض العاطلين عن العمل لاستغلال اسم القبيلة لجني الأموال دون مشقة، وهي حالة يدفع ضريبتها المواطنون المغلوب على أمرهم، وقد يصل الأمر إلى ترويعهم وتهديدهم.
وتواجه السنن العشائرية في العراق، نقاشًا ساخنًا حيث يجمع العراقيون على اعتبارها مظهرًا من مظاهر ضعف الدولة وسط مطالبات بوضع حد لها.
والسنن العشائرية هي قضاء عرفي شائع تحكم به العشائر في حل النزاعات بين المتخاصمين بغير الاحتكام إلى قوانين الدولة ويتضمن أعرافا توصف بعضها بالخروج عن القانون، ومن أبرز تلك السنن التي لاقت رفضا شعبيا ما تعرف بـ”الدكة العشائرية”.
ووفقًا لهذا العرف، يقوم العشرات من شباب وشيوخ العشيرة بإطلاق النار من أسلحتهم الخفيفة والمتوسطة على منزل المراد تهديده مباشرة، ويرددون شعارات الفخر بعشيرتهم وقوتها أمام منزله، مما دفع بمجلس القضاء الأعلى العراقي عام 2018 للتوجيه بالتعامل مع الدكة العشائرية وفقًا لأحكام قانون مكافحة الإرهاب.
ويرى الناشط علي خيون، أن سنن العشائر أضعفت الدولة من خلال إبراز رجل العشيرة بصيغة المتحدث عن القانون.
وقال خيون، إنه “حسب آخر الإحصائيات والمتابعة لمواقع التواصل، وجدنا العديد من القضايا التي كان فيها حكم العشيرة مهيمنا على باقي القوانين النافذة، حيث أصبح المواطن لا يلجأ إلى حل المشاكل بشكل قانوني بل يلجأ إلى العنف والعشيرة بطرق سلبية تساعد على تفكيك النسيج المجتمعي وتطوير الصراعات بين أبناء المجتمع”.
وتابع “من المفترض أن يعمل القضاء العراقي والمؤسسات الأمنية بشكل قانوني للحفاظ على المجتمع، أما العرف العشائري والفصل فهو محفز للجريمة ولا يخدم المجتمع العراقي”.
بدورها تبين الباحثة الاجتماعية، شهرزاد العبدلي، أن “القانون العشائري موجود قبل تأسيس الدول الحديثة المدنية وبوجود الدول الحديثة أصبحت الحاجة للقوانين الوضعية”.
وأضافت العبدلي أن “العراق إلى الآن يعتمد على قانون العشائر ويعتبره هو الأساس”، مؤكدةً أن “قوة سلطة العشيرة أقوى من سلطة القانون والدولة”.
وأشارت إلى أن “القانون العشائري سلبي في كثير من الحالات مثل التهديد والقتل والظلم من دون حق وتصل للتهجير والترحيل وحرق الدور والتسبب بنزاعات تضعف الأمن”.
وبينت أن “بعض الحالات تساند العشائر ابنها القاتل أو المجرم وهو ما يتعارض مع القانون العراقي”.
وطالبت العبدلي “الحكومة بفرض سيطرتها وتحجيم دور العشائر ومنع حالات الاقتتال والعنف الحاصل حالياً عبر إقرار قوانين صارمة”.

وأصبحت “الفصول العشائرية” بابًا من أبواب الكسب المادي السريع وعملية تجارية حتى سموها البعض بـ “الإتاوات” وتحول نمطها من الدفاع عن المظلوم إلى الدفاع عن الظالم في ظل غياب القانون، بحسب المراقبين والناشطين.
ورافق الفصول العشائرية مصطلح “الفصلية” إذ إنه إلى جانب المال المأخوذ كفصل تعطى فتيات بأعمار صغيرة إلى أصحاب الفصل للتكفير عن الفعل المرتكب بحقهم، الأمر الذي وصفه حقوقيون بـ “الانتهاك الخطير” لحقوق الإنسان، وسط غياب الإجراءات الحكومية.
ويرجع رئيس رابطة العشائر العراقية لحل النزاعات محمد الجابري، استفحال تلك الظواهر التي وصفها بالمرفوضة، إلى ضعف المؤسسات الحكومية في تطبيق القانون وتعطيل الكثير من المواد بشكل متعمد في بعض الأحيان، على حد قوله.
وأضاف أن “ما يؤخذ على الدولة، هو سكوتها عن انتشار السلاح بنحو لافت، في حين أن هذه الأسلحة تستخدم في المنازعات”.
ويحمّل الجابري أحزابًا سياسية (لم يسمها) مسؤولية تصاعد مثل تلك الممارسات واتهمها “بلعب أدوار مشبوهة من خلال دعمها هذا الشيخ أو ذاك”، مشيراً الى أن غالبية شيوخ القبائل هم دعاة سلام وصلح اجتماعي، “وما يدور الآن في المجتمع من أعراف وسنن بعيدة كل البعد عن العشائر الأصيلة”.
وليس بعيدًا مما يقوله الجابري، يعتقد الخبير القانوني أمير الدعمي، أن ضعف مؤسسات الدولة في تطبيق القانون هو من تسبب باستفحال الظاهرة، التي يتخذها البعض مهنة له للاستفادة المادية”.
ويبين الدعمي أن “هذه الممارسات باتت تشكل خطرًا على الدولة ومؤسساتها”.
ويشير إلى أن المادة 45 من الدستور الحالي “واضحة وصريحة في دعم الدولة لجهود العشائر النبيلة ورفض كل الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان، لكن للأسف ما يحصل اليوم هو إخلال لما جاء في الدستور”.
وتتمتع العشائر ولاسيما في جنوب البلاد بنفوذ وسلطة، ما يصّعب على الحكومة السيطرة عليها فضلاً على امتلاكها ترسانة عسكرية كبيرة وبمختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة على الرغم من الادعاءات الحكومية المتكررة بنجاح حملاتها المتعلقة بحصر السلاح بيد الدولة.
وعلى الرغم من احتفاظ بعض العشائر بعادات وتقاليد تتنافى من قوانين الدولة وعدم لجوئها إلى القانون في حل المشكلات إلا أن الطبقة السياسية دائمًا ما كانت تبحث عن رضا تلك العشائر وخصوصًا في فترة الانتخابات لغاية تثبيت حكمها القائم على المحاصصة والطائفية في أجواء مشحونة تتخذ من السلاح المنفلت بيئة لها.