المباني المشوهة والملونة المفتقرة إلى الذوق تغتال الطراز المعماري الفريد في بغداد وتدمر هويتها
يشبه معماريون ونقاد عراقيون تصاميم الأسواق والمباني المنتشرة حالياً في المدن العراقية بديكور فيلم هندي تتقاطع فيه الألوان الصارخة، فيما تنعدم الوظيفة لواجهات جمالية في بيوت لا تعبر إلا عن ذائقة أصحابها من الطبقة الأوليغارشية المختطفة للبلاد، بعد أن تريفت بغداد وتراجعت مدنيتها
بغداد – الرافدين
أجمعت الدراسات والنقد المعماري على أن “بغداد التي كانت تشتهر بمعمارها التاريخي الفريد، أصبحت اليوم شاهداً على التدهور العمراني الكبير، حيث حلّت المولات والأسواق التجارية مكان المباني التاريخية التي كانت تمثل هوية المدينة الثقافية”.
وبينت هذه الدراسات أن “المولات لم تقتصر على سرقة روح بغداد، بل تسابقت الحكومات وأصحاب الأموال على تشييدها لأغراض شخصية، مما حول بغداد إلى ساحة للتنافس على مشاريع تجارية لا تليق بتاريخها وحضارتها”.
وأوضحت التقارير المعمارية أن “هذا التوجه لم يقف عند حدود التجديد العمراني، بل تجاوز ذلك إلى تدمير المعالم البغدادية الأصيلة، حيث تم هدم بعض المواقع التاريخية لبناء المولات عليها، مما أسهم في إضعاف الهوية الثقافية للمدينة”.
ولفتت الأصوات النقدية إلى أن “هذه المشاريع لا تقتصر على تأثيراتها السلبية على المعمار فقط، بل تعكس أيضاً غياب الرؤية الثقافية والسياسية الجادة للحفاظ على ما تبقى من التراث العراقي، وتوجيه الأموال نحو مشروعات تفتقر للجوهر التاريخي”.
وأشارت بعض الآراء إلى أن “شارع الرشيد والمناطق التاريخية في بغداد تعاني من الإهمال المتعمد، حيث لا تحظى هذه الأماكن التي كانت تمثل مركزاً حضارياً باهتمام الحكومة، بينما تُخصص الموازنات الضخمة لبناء مولات تتناقض تماماً مع هوية المدينة المعمارية”.
وأعربت بعض الأصوات عن القلق من أن “هذه المولات قد تكون جزءًا من عملية غسيل الأموال الهائلة، التي يتم من خلالها تحويل الأموال بشكل غير شفاف، مما يضيع فرصة إعادة الحياة للمعالم القديمة وترك بغداد تشهد المزيد من التشويه المعماري في مقابل مكاسب شخصية”.
ويشبّه معماريون ونقاد عراقيون تصاميم الأسواق والمباني المنتشرة حالياً في المدن العراقية بديكور فيلم هندي تتقاطع فيه الألوان الصارخة، فيما تنعدم الوظيفة لواجهات جمالية في بيوت لا تعبر إلا عن ذائقة أصحابها من الطبقة الأوليغارشية المختطفة للبلاد، بعد أن تريّفت بغداد وتراجعت مدنيتها.
وتعبر التصاميم المعمارية الجديدة، بامتياز عن الانهيار الثقافي والاجتماعي السائد وتراجع الذائقة البصرية في البلاد كمعادل للانهيار السياسي.
وتشتت المعمارية في البناء العراقي، وفقدت خصوصيتها ويمكن أن نجد ذلك في التصميم المتطفل على خصوصية المعمار الموصلي، بتواطؤ من اليونسكو عندما اختارت تصميماً لجامع النوري يفتقد إلى الخصوصية المعمارية العراقية.

وكتب الصحفي العراقي كرم نعمة “المعمار المشوه هو أحد امتدادات التشويه المتعمد لما يجري في العراق منذ عقدين، انهارت لغة الحكي العراقي وتحولت إلى لهجة محطمة بذيئة بلا جذور، سقطت القيم، ساد الفساد وأصبح ميزة لدى الأشخاص، انكسر الفن وتحولت الموسيقى إلى نغمة واحدة مكررة لدى الجميع مستمدة من التخلف والهيجان العشائري والطائفي، وهكذا غابت الذائقة البصرية لمن يصممون واجهات البيوت ومداخلها في العراق.”
وقال “إنه رسم صورة مبالغ فيها حد الفجاجة اللونية للبيت يفقده الألفة والوظيفة التاريخية التي وجدت له منذ أول بيت في التاريخ، لكنه بالمقابل يكشف أبهة المال الفجة وغرور الاستعراض المتغطرس، وهذا أمر قد يميز أصحابه من وضيعي المعرفة وأثرياء المال المسروق. بيد أن سقوط المصمم المعماري في فخ تلك الفجاجة يصنف كجريمة بصرية، ولسوء حظ عيوننا لا يحاسب عليها القانون، قبلها علينا أن نسأل إذا كان ثمة قانون ثقافي أصلا في العراق الحالي”.
وأعربت المهندسة المعمارية لينا الموسوي عن قلقها حول الصورة التي سترسم وتعبر عن الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الآنية للعاصمة بغداد، مؤكدة على أن “الأحياء تحولت إلى بيوت صغيرة غير مدروسة المخططات وأبنية جميلة راقية مستنسخة من مختلف الدويلات لا تمتلك هوية أو أصول تعكس حضارة وتاريخ العاصمة الجميلة بغداد”.
وشددت على أنه “يجب على من يعيش في العاصمة بغداد ويقوم بالبناء أن يدرك أن “بغداد هي عاصمة أسسها عمالقة العمارة من بلد الحضارات عميقة الجذور غنية في الفكر والتاريخ والتراث، وأن العمارة ليست مجرد بنايات ومعامل ومولات، إنها أسس وأنظمة وانعكاس لتطور المجتمعات”.
وترى الكاتبة في مجلة الكاردينيا سرور ميرزا محمود أن “بعد عام 2003 بدأت بغداد تفقد هويتها وخصوصيتها، بغداد بدلًا من أن تصدر جمالها إلى مدن العراق كلها تنقل نظامها ودقة مرورها وجمال مناطقها وشوارعها وأزقتها وبيوتاتها، استوردت كل القبح والعشوائيات من الريف والمدن”.
وأكدت أن “بغداد تعرضت لتدمير مجتمعي للمدينة وطغيان للمد الريفي والتوسع الحضري غير المدروس، الأمر الذي جعل المشهد مرتبكاً للغاية، فتعرضت التركيبة السكانية فيها والنوع المجتمعي لتغيير كبير وانحسار، حتى اللهجة البغدادية تأثرت بذلك، كما تعرضت معظم منازل بغداد لتشويه عمراني بسبب غياب الدولة والقانون والأرصفة تم التجاوز عليها”.
وأضافت “انتشرت العشوائيات والوحدات السكنية المجزأة من خلال أنماط طارئة بحيث تحولت كثير من الحدائق المنزلية الى مساكن غير نظامية، وكثرت أبواب المنازل، لا تراعي أية شروط عامة للسكن الصحي، والبعض ممن يملكون دورًا تراثية قاموا بهدمها، بغية إنشاء عمارات إسمنتية وشققا على الطراز الغربي، وبذلك دمروا طابعها المعماري الفريد ذو الهوية البغدادية”.
ولفتت إلى أن “العاصمة بغداد فقدت معالمها العمرانية القديمة، مع تقلص أعداد الأبنية التراثية التاريخية التي كانت تنتشر على شاطئ نهر دجلة من جهتي الرصافة والكرخ، ولم يبقَ منها سوى العشرات نتيجة توسع ظاهرة التمدن العشوائي والمراكز التجارية التي شيّدت حولها، كل ذلك أثر بشكل كبير على النمط الاجتماعي وحتى السلوكي للسكان، ناهيك عن تشويه المدينة وجمالها المعماري”.
وانتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة إنشاء مراكز تجارية “مولات” بشكل كبير في العاصمة بغداد والمحافظات أيضا، وتحولت أغلب المناطق التجارية التي كانت تضم محالاً اعتيادية إلى مناطق تعج بـ”المولات” المتراصفة جنبًا إلى جنب، وكل منها يتكون من طوابق متعددة.
وشخّص خبراء اقتصاديون سلبيات عديدة لظاهرة انتشار المراكز التجارية “المولات” في العاصمة بغداد، أبرزها زيادة النزعة الاستهلاكية والقضاء على المساحات الخضراء والتجاوز على التخطيط الأساسي للعاصمة بغداد وزيادة الزخم المروري، في حين عزوها إلى مساع لغسيل الأموال التي يصعب إخراجها إلى خارج البلاد بفعل الضوابط والعقوبات الدولية المفروضة على أصحابها من السياسيين والمتنفذين، أشاروا إلى توفيرها فرص عمل للشباب العاطل.
ويرى الخبير الاقتصادي منار العبيدي أن “الاستثمار في العراق اقتصر في معظمه على إنشاء المولات، وساعده في ذلك تحول تلك المولات إلى أماكن للترفيه، في ظل افتقار البلاد إلى مواقع من هذا النوع، ما حول المجتمع إلى مستهلك بالدرجة الأولى”.
ولم يستبعد العبيدي “استخدام هذه المولات في غسيل الأموال، لكن الأمر يحتاج إلى معطيات حقيقية”، منوها إلى أن “العراق يفتقر لإحصائية واضحة بعدد تلك المراكز التجارية المنتشرة في عموم البلاد، بالإضافة إلى تقييم لجدوى انتشارها، في ظل غياب المعايير العملية والمهنية لتسمية مول”.
وترى النائبة السابقة ندى شاكر جودت أن “العشوائية وعدم التخطيط هي السمة الأساس لانتشار مراكز التسوق (المولات) في العراق، كونها داخل المدينة وقرب عيادات الأطباء، وبالتالي خلفت زخماً مرورياً كبيراً، كونها بنيت في أماكن خاطئة”.
وبينت أن “المناطق الخضراء تحولت إلى مولات، في حين كان من المفترض عدم التلاعب بالحدائق والمتنزهات وتحويلها إلى كتلة كونكريتية، كونها متنفساً للمواطنين، وهذا ما ساهم بارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ”.
ونوهت إلى أن “انتشار هذه المولات، عبارة عن عملية هدم للنسيج الحضري للمدينة، حيث يدفع المواطن العراقي ثمن سوء التخطيط من ناحية الزخم واختفاء المناطق الخضراء، حيث يجب أن يكون للسلطة دور في إيقاف التجاوز الحاصل على تصميم المدينة للمناطق السكنية والزراعية والصناعية والترفيهية”.