شبهات الفساد تحوم حول اتفاقيات جديدة وقعتها بغداد لإنشاء محطات لتوليد الكهرباء
لم تحسّن العقود الموقعة مع الشركات الأجنبية من قطاع الطاقة في العراق، إذ لا يزال المواطنون يعانون من انقطاعات مستمرة ونقص حاد في ساعات تغذية الكهرباء، وهي أزمة تفاقمها عوامل الفساد وسوء الإدارة، واستغلال الشركات لهذين الجانبين.
بغداد – الرافدين
يتصاعد القلق في العراق من تفاقم أزمة الطاقة الكهربائية مع تولّي دونالد ترامب، رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، واحتمال إلغاء الإعفاءات التي كانت تمنحها واشنطن لبغداد من أجل استيراد الغاز الإيراني لتوليد الطاقة الكهربائية.
ودفعت هذه المخاوف حكومة الإطار التنسيقي في بغداد إلى الإعلان عن توقيع اتفاقية جديدة لتوريد الغاز من تركمانستان تشوب جدواه الكثير من الشكوك.
وخلال ولايته السابقة، استثنى ترامب العراق من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وسمح باستيراده الغاز الإيراني من أجل تشغيل محطات الكهرباء.
ووفقًا لموقع “أويل برايس” المعني بشؤون الطاقة، فإنّ فريق الرئيس المنتخب يدرس فرض عقوبات اقتصادية جديدة على شخصيات عراقية متورطة في تسهيل التجارة الإيرانية، واستغلال استثنائه من العقوبات الأمريكية من أجل تصدير الغاز والنفط الإيراني نيابةً عنها إلى دول أخرى.
وإلى جانب توقيع عقد الغاز مع تركمانستان تحث الحكومة في بغداد الخطى لإنشاء المزيد من محطات توليد الطاقة الكهربائية بعد توقيعها اتفاقيات مع شركات طاقة دون أن تفصح عن تفاصيل هذه العقود ما يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن شبهات فساد رافقت تلك الصفقات بعدما شهدت العديد من الاتفاقيات المماثلة طوال السنوات الماضية حالات فساد وهدر بالمال العام وسوء إدارة.
وضمن هذا المسار المتعثر للطاقة الكهربائية في العراق، اتفقت الحكومة في 19 كانون الثاني الجاري، مع شركة “ستلار إنرجي” الأمريكية، من أجل تعزيز الشبكة الكهربائية، عبر إنشاء خمس محطات تحويلية تولّد 400 كيلو فولت، و25 محطةً أخرى تولّد 132 كيلو فولت، بالإضافة إلى 100 محطة بطاقة تتراوح بين 11 و33 كيلو فولت، ولم يعلَن عن التفاصيل أو كلفة هذا العقد ومدّته حتى الآن.
ووفقًا لدائرة البحوث والدراسات النيابية، تمتلك البلاد، باستثناء كردستان العراق، 75 محطةً توليديةً، تضمّ نحو 482 وحدةً توليديةً غازيةً وكهرومائيةً وديزل.
ويبلغ إجمالي إنتاج هذه المحطات 27 ألف ميغاواط، بحسب التقارير الرسمية، ولكن هذا الرقم غير دقيق، فبيانات أخرى تؤكد أنّ إجمالي الإنتاج هو 18 ألفًا فقط، وقد أكد تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية، في نيسان 2019، أنّ قدرة العراق الإنتاجية من الطاقة الكهربائية تبلغ نحو 32 ألف ميغاواط، لكن ضعف كفاءة المحطات ورداءة شبكات النقل يتسببان في فقدان نحو 40 بالمائة منها في أثناء التوزيع.

وتحتاج البلاد إلى أكثر من 42 ألف ميغاواط/ ساعة سنويًا، وتلجأ الحكومات المتعاقبة إلى التعاقد مع شركات استثمارية أجنبية من أجل سدّ النقص ومع ذلك، فإنّ الفساد وسوء الإدارة يعيقان أيّ تقدّم ملموس.
ووفق مصدر رفيع في وزارة الكهرباء، تتورط جهات سياسية وأحزاب، في ملفات الفساد في وزارة الكهرباء، إذ تمتنع الشركات المستثمرة عن العمل بسبب اختلاس هؤلاء لمستحقاتها، أو التلكؤ في دفعها.
وفي مثال شاخص على ذلك سبق أن علّقت شركة كار التركية أعمالها، في أيلول الماضي، بعد مطالبة محافظة صلاح الدين بمبلغ 400 مليون دولار نظير تجهيز الكهرباء في أثناء فترة سيطرة تنظيم داعش على المحافظة، وقدّمت الشركة تواقيع مسؤولين تؤيد مطالبها، ولكن البعض اتهمها بتجهيز كهرباء وهمية، ودفع ذلك عددًا من النواب، للتحقيق في هذا الادعاء.
وأضاف المصدر أنّ “عقود الوزارة تُدار من قبل سماسرة معينين، يشترون ذمم المسؤولين فيها مقابل مبالغ تقارب 500 ألف دولار ومليون دولار، ويحصلون مقابل توسطهم على عمولات تصل إلى 10 بالمائة من قيمة العقود، وهؤلاء قادرون على اختلاس المبالغ الاستثمارية أيضاً بسبب نفوذهم”.
وليس هذا فحسب، فالوزارة تشتري من شركات وهمية محولات كهربائية غير صالحة للعمل أو معدات وهمية، بضغط من جهات حزبية أو جهات مقربة منها، بحسب تصريح المصدر نفسه.
وكان ديوان الرقابة المالية الاتحادي، قد كشف في آب 2023، جزءًا من الهدر المالي الحاصل في عقود وزارة الكهرباء، وأرجع في تقريره، خسائر الوزارة البالغة 937 مليون دولار بين عامي 2017 و2022، إلى اعتمادها مبدأ “Take or Pay” في الشراء والعقود، ويلزمها هذا المبدأ بدفع مبالغ مالية عن طاقة غير مستلمة، بالإضافة إلى أنها منحت كفالات سياديةً للشركات استثمارية المتعاقدة معها وبمبالغ تصل إلى 33 ملياراً و508 ملايين دولار أيضًا.
ويمخُر الفساد في ملف الكهرباء منذ عام 2003، حيث بلغ مقدار الهدر المالي 108 مليارات دولار، منها 47 مليار دولار كانت مخصصةً للاستثمار في المحطات الجديدة وشبكات التوزيع، وهو مبلغ كافٍ لبناء محطات كهربائية متكاملة، تضاهي تلك الموجودة في الدول المتقدمة، إذ أسست الإمارات على سبيل المثال أكبر محطاتها الكهربائية بسعة 2.4 غيغاواط مقابل 1.1 مليار دولار فقط.
ويُعدّ الإهمال الإداري من أسباب تدهور قطاع الكهرباء في البلاد، وقد تسبب في مشكلات جذرية مثل نصب المحطات بشكل خاطئ واحتراقها، والإخفاق في فرض معايير السلامة، وتلف المعدات بسبب سوء التخزين.
وتتحمل كلّ من الوزارة والشركات المتعاقدة هذه الأخطاء، وتستغلّ الأخيرة تلاعب الوزارة بالعقود الأصلية عبر إضافة ملاحق إضافية تغيّر جوهر العقد المبرم، مثل إمكانية التعاقد مع شركات أخرى في نصب التوربينات، في التنصل من المسؤولية، باعتبارها غير معنية بأي خطأ حاصل في أثناء نصب التوربينات أو المعدّات.
وسبق أن حصلت شركة “جنرال إلكتريك” الأمريكية، في كانون الأول 2008، على عقد بقيمة 2.8 مليارات دولار، لتجهيز العراق بـ56 توربينًا غازيًا وبطاقة 7 غيغاواط، وتبيّن لاحقاً وجود عيوب مصنعية وتشققات في بدن 6 من أصل 10 توربينات في محطة الخيرات في كربلاء.
كما تستغل بعض الشركات الإهمال الحاصل في العراق حيث سبق أن دفع العراق مبلغ 250 مليون دولار للشركة نفسها، نظير شراء مواد احتياطية، برغم أنّ تجهيز هذه المواد كان جزءًا من العقد الأصلي.
شركات أخرى، مثل “إنكا تكنيك” التركية، التي أنشأت محطة النجيبية الغازية شمالي البصرة بكلفة 400 مليون دولار، وبطاقة 500 ميغاواط، ساهمت في الفوضى البيئية، فبعد أشهر قليلة من تشغيل المحطة، تم إيقاف عملها على إثر تسرب بقع زيتية ناتجة عن مخلفات حرق الوقود فيها إلى شط العرب.
وفي عام 2011، تعاقدت الحكومة العراقية مع شركات من إيران ومصر وكوريا الجنوبية، بعقود قيمتها 900 مليون دولار، لنصب توربينات مستوردة من شركة “سيمنز” الألمانية، لكن الأخيرة عكفت عن إرسالها لمدة عام كامل بسبب امتناعها عن التعامل مع الشركات الإيرانية، وتعرضت التوربينات في أثناء إرسالها لضرر بالغ، كما تلفت معدات أخرى بسبب سوء التخزين في ميناء أم قصر.
وكان من المؤمل أن تسهم هذه العقود في تحسين قطاع الطاقة في البلاد، لكن يد الفساد وسوء الإدارة كانت نافذةً، ووفقاً لأحد مسؤولي وزارة الكهرباء، فإن جوانب سوء الإدارة تظهر أيضًا في إرسال موظفين غير مختصين إلى دورات تدريبية متعلقة بتركيب وصيانة المحطات الكهربائية، بسبب المحاباة والقربى، ويضيف أنّ ذلك عزز تسمية الوزارة بـ”مقبرة الوزراء”، ففيها يتحمل كل وزير جديد مسؤولية الملفات المتراكمة من عهد سلفه.
ومن بين تسعة وزراء للكهرباء تولوا المنصب منذ 2003، اثنان فقط لم تُوجه إليهما اتهامات بالفساد، هما حسين الشهرستاني الذي تتهمه الصحافة الأجنبية بالفساد، وماجد مهدي، أما الآخرون، فقد سُجن وزيران بسبب الفساد، ويخضع البقية للتحقيق، أو صدرت بحقهم أوامر قبض ومنع سفر.

في المقابل لا يزال المواطنون في العراق يعانون من انقطاعات مستمرة ونقص حاد في ساعات تغذية الطاقة الكهربائية، الأمر الذي انعكس سلبا على حياتهم فضلًا عن تهديدها لأرواح الكثير ولاسيما المرضى.
ففي بغداد يخوض علي سجاد الموسوي، صراعًا يوميًا مع الموت، فحياته تعتمد بالكامل على الطاقة الكهربائية لتشغيل منظمات القلب وأجهزة التنفس المرتبطة بجسده، بسبب مرض فشل القلب الاحتقاني.
يصف ابنه منتظر، هذه المعاناة قائلاً إن ” انقطاع الكهرباء بالنسبة لأبي، لا يعني مجرد توقّف الأجهزة، بل موته الأكيد”.
واضطرّ منتظر، إلى شراء مولّد كهربائي خاص، لضمان استمرار عمل الأجهزة الطبية عند الانقطاعات الطويلة، وقد جهّزها أيضًا ببطاريات عاكسة USB، لمنع توقّفها عند التبديل بين التيار الوطني والأهلي.
وتعد قصة علي، صورة مصغّرة عن الأزمة التي يعيشها العراقيون منذ أكثر من عقدين، وبرغم مليارات الدولارات التي صُرفت على تحسين الكهرباء بعد عام 2003، إلا أنّ الواقع يسير نحو الأسوأ.
بدوره يلخص محمد راضي، وهو صاحب معمل لتصفية المياه في بغداد، جانبًا من تأثير أزمة الكهرباء على عمله، فيقول إنني “تضررت كثيرًا بسبب كثرة الانقطاعات، إذ لا أستطيع تشغيل معدّات تصفية المياه أو تعبئة البراميل بشكل منتظم بسبب الانقطاعات المُتكررة، ما يتسبب في تلف العديد من الأجهزة التي أعتمد عليها في عملي”.
من جانبها تعبر لميس الراوي، وهي طالبة في الصف السادس الإعدادي، عن مأساتها قائلةً إن “الكهرباء راح تدمر مستقبلي، وكل لحظة تنقطع والجو بارد والنفط شبه معدوم في بلد نفطي، ومستحيل الواحد يقرا بهذي الظروف”.
وتمثل أزمة لميس، حالةً عامةً تعكس تدهور الكهرباء في العراق الذي يعتمد بشكل كبير على الغاز في تشغيل محطاته، وتُعدّ هذه المحطات الأحدث والأكثر كفاءةً، وتجهّز البلد بـ34.06 بالمائة من احتياجاته، بمعدل إنتاج يصل إلى 53.55 ألف ميغاواط/ ساعة في عام 2024، وهي نسبة قليلة مقارنةً بعام 2023 الذي سجل مساهمتها بـ56.81 بالمائة من احتياجات البلاد، بمعدّل 79.28 ألف ميغاواط/ ساعة.
يُذكر أن العراق يدفع سنويًا 6 مليارات دولار لإيران، نظير عقد توريد الغاز الذي يشغل هذه المحطات، ويرجع سبب التراجع الحاصل إلى زيادة معدلات الاستهلاك في إيران.
ويدفع تراجع إمدادات الغاز الإيراني الباحث الاقتصادي نبيل جبار العلي، إلى التحذير من أنّ الصيف المقبل، سيكون أكثر صعوبةً على العراقيين، في ظل احتمال توقف إمدادات الغاز والطاقة الإيرانية بالكامل بسبب الضغوط الدولية وسياسات ترامب المحتملة، خاصةً إذا استمرت العلاقات السياسية بين إيران والعراق على هذا النحو.
ويرى العلي، أنّ سوء إدارة ملف الكهرباء ناتج عن افتقار العراق إلى دراسات جدوى شاملة لكل مرحلة من مراحل الإنتاج والنقل والتوزيع، وغياب تطوير خططها.
ويبقى السؤال قائمًا: هل تمتلك الطبقة السياسية في العراق القدرة على استغلال الغاز المصاحب للنفط واستثماره بعيدًا عن الفساد والتلكؤ والتأثير الإيراني الخارجي؟