أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيتقارير الرافدين

تسليع الرسائل الجامعية يجهز على ما تبقى من رصانة علمية في العراق

تنتشر مكاتب تسويق البحوث كسلعة تباع لطلبة الدراسات العليا في جوار الجامعات والكليات بشكل علني وتضع لافتات كتب عليها العديد من الخدمات التي تقدمها في هذا المجال دون أن أي تحرك من قبل السلطات الحكومية.

بغداد – الرافدين
شكك أكاديميون وأساتذة جامعيون بالإجراءات الحكومية والقرارات المتعلقة بتحجيم ظاهرة تجارة البحوث العلمية الجاهزة، التي راجت على نحو واسع في العراق خلال السنوات الأخيرة بعدما وصفوها بـ “الضعيفة”.
وأكد الأساتذة والأكاديميون أن الإجراءات لا ترقى لمستوى مخاطر الظاهرة على الرصانة العلمية بعدما اكتفت هيئة الرأي في وزارة التعليم العالي بقرار ترقين قيد الطالب الذي يعتمد على تلك البحوث.
ولم تتضمن لائحة “النشر العلمي” المصادق عليها في الوزارة، أي خطوات أو توجيهات أو عقوبات تطاول المكتبات التي تبيع البحوث الجاهزة، ولا حتى الأساتذة المختصين العاملين فيها.
وعلى الرغم من الإعلان عن اتخاذ هذه الخطوة، إلا أن غالبية المكاتب الموجودة في البلاد وأخرى على مواقع الإنترنت، لا تزال تعلن عن خدماتها البحثية من دون خشية الإجراءات الحكومية الأخيرة المتعلقة بترقين قيد الطالب الذي يثبت تعامله مع تلك المكاتب
وخلال السنوات الأخيرة، نشطت في العراق ظاهرة بيع وكتابة الرسائل والأطروحات والأبحاث الجامعية، إذ تعمل مكتبات معينة بالتعاون مع متخصصين، على كتابة دراسات علمية مقابل مبالغ مالية، وقد اعتمد الكثير من الطلاب في المراحل الأولية والدراسات العليا على تلك المكتبات للحصول على بحوث جاهزة.
وعلى الرغم من أن الترويج لتلك المكتبات وعملها يتم بشكل شبه معلن، إلا أن وزارة التعليم العالي والأجهزة الأمنية لم تتخذ أي إجراءات إزاء ذلك طوال 21 عاما خلت، وهو ما انعكس سلبٍا على الواقع التعليمي في البلاد، وزاد من انتشار الظاهرة.
ووفقًا لعضو في نقابة الأكاديميين العراقيين، فإن “الخطير في الملف أن تلك المكتبات تنتشر على نحو لافت، بسبب غياب الملاحقات والعقوبات القانونية”.
وبين عضو النقابة الذي فضل عدم الكشف عن اسمه أن “تلك المكتبات تتفق مع أساتذة مختصين يعملون لديها بكتابة البحوث كل حسب اختصاصه، وأن هذه الجريمة العلمية لم تُلاحق من الجهات المسؤولة”.
وأكد “نحن مع العقوبة المشددة ضد الطلاب، لكن في الوقت ذاته يجب أن تكون هناك خطة لملاحقة المكتبات ومعاقبة أصحابها، واتخاذ إجراءات قانونية بحق الأساتذة العاملين فيها ممن يقومون بكتابة البحوث”.
من جانبه أكد الأستاذ في جامعة بغداد، مصطفى الغراوي، أن تفشي ظاهرة البحوث العلمية الجاهزة أثرت كثيراً على مستوى الطلاب.
وبيّن الغراوي أن “نسبًا كبيرة من الطلاب يعتمدون على تلك البحوث، على الرغم من كشف البعض منها أحياناً، إلا أن الكثير لا يكشف ويحصل الطالب على درجة جيدة مقابل البحث الجاهز للأسف”.
وأكد على أن الكثير من طلاب المراحل الأولية وحتى الدراسات العليا يحصلون على شهاداتهم وهم لا يعرفون الأصول العلمية لكتابة البحوث بسبب اعتمادهم على تلك المكتبات، وهذا أمر خطير للغاية يتطلب تحركاً من وزارة التعليم والجهات المسؤولة الأخرى لمعالجة الظاهرة.
وشدد على أن الطلاب والأساتذة يعرفون المكتبات التي تتعامل بتلك البحوث ونحن نحتاج فقط إلى تحرك حكومي لإغلاقها ومحاسبة أصحابها.
وأشار إلى أن الحفاظ على الرصانة العلمية هي مسؤولية مشتركة بين الجامعات والوزارة والجهات الأخرى، لذا يجب أن تكون هناك خطة تنهي عمل تلك المكتبات وتغلق هذا الملف الخطير.

يجمع أكاديميون وأساتذة جامعيون على أن وزارة بمهام التعليم العالي خارج قدرة وزيرها الحالي نعيم العبودي نتاج ميليشيا العصائب

وتتفاوت أسعار البحوث العلمية الجاهزة بحسب المرحلة الدراسية وبحسب التخصص، وتبدأ من 100 ألف دينار عراقي تصل بعضها إلى مليون دينار (الدولار يعادل 1500 دينار عراقي)، أما كتابة الرسائل والأطاريح فتتراوح حسب التخصصات من خمسة ملايين دينار وتصل بعضها الى عشرة ملايين دينار.
وعلى رغم من أن مكاتب كتابة الأطاريح الجامعية وكتابة البحوث الخاصة بالأساتذة لأغراض الترقية العلمية وأغراض النشر تعمل بشكل علني، بل وتقدم كل خدمتها وأسعارها عبر مواقها على “فيسبوك” وتليغرام” وغيرها مع إظهار أرقام هواتفها، إلا أن كثيراً من أصحاب هذه المكاتب رفضوا التحدث بشكل مباشر حول هذا الموضوع.
ويقول أحد أصحاب مكاتب الأبحاث في بغداد، إن “العمل في مجال خدمات الأبحاث كان في بدايته محصوراً بدور مساعد للباحث، يوفر له المصادر والملخصات ويحرر المواد المكتوبة ويصححها لغوياً ويتابع ملاحظات المشرف ويقوم بالطباعة”.
ويتابع الرجل “شيئاً فشيئاً بدأت المكاتب تأخذ مجالاً أوسع حتى تولت مسؤولية البحث كاملاً سواء أكان للتخرج أو للدراسات العليا، وصولًا إلى أبحاث الترقية مقابل مبلغ مالي يتفق عليه الطرفان”.
ويوضح صاحب المكتب بعدما طلب عدم نشر اسمه، أن المبلغ الذي يتم إنفاقه على البحث أو الدراسة “يختلف بحسب العنوان والكلية التي ينتمي إليها الطالب فالمادة النظرية أرخص ثمنًا من المادة التي تتضمن جانبًا تطبيقيًا، ولا يمكن تحديد تكاليف دراسة دون معرفة التفاصيل المطلوبة”.
أما من يقومون بكتابة هذه الابحاث، “فبعضهم من خريجي كليات ولم يجدوا فرصة عمل فبدأوا يعملون في هذا المجال، وصولًا إلى أساتذة متخصصين بعضهم من ضمن السلك التدريسي، والبعض الآخر يعمل لحسابه الخاص”.
وتقدم المكاتب خدماتها في كتابة التقارير وبحوث التخرج وبحث الترقية العلمية لأساتذة الجامعات، وكذلك بحوث الترفيع في معهد الخدمة الخارجية للانتقال من مستوى دبلوماسي إلى آخر، وبعض المكاتب تذهب أبعد من ذلك، لتنجز بحوث الترقية لأساتذة الجامعات وتنشرها وتوفر أيضاً مستوى النشر الذي يطلبه الباحث، كأن يحتاج الباحث أن ينشر بحثه ضمن مستوى Q1 أو Q2 وهي مستويات تتعلق بتقسيم الدوريات المصنفة ضمن سكوبس (Scopus) ، فالتي يكون معامل التأثير الخاص بها أعلى من 25 بالمائة تكون ضمن صنفQ1، والتي تليها تصبح من صنف Q2 وهكذا تتصاعد المستويات .
وقد يستغرب البعض ويتساءل كيف يمكن لمكتب بعدد محدود من العاملين أن ينجز بحوثاً وأطاريح بتخصصات متنوعة (اجتماعية وعلمية)، لكن هذا الاستغراب يتلاشى عندما نعرف أن هذه المكاتب تعتمد على باحثين من تخصصات مختلفة، يقومون بتوفير ما يحتاجه المكتب وفقاً للطلبات التي توفد إليهم من قبل الطلاب أو الأساتذة، وتكون لهم نسبة من المبلغ المالي الذي يدفع للمكتب.
وفي هذا السياق يقول صاحب مكتب يعمل على كتابة وإعداد البحوث الجاهزة في بغداد، إن نحو 10 أساتذة بتخصصات مختلفة يعملون معه على كتابة الأبحاث في مقابل مبالغ مالية.
وبين بعدما رفض هو الآخر الإشارة إلى اسمه أن “الإقبال كبير جدًا من قبل طلاب المراحل الأولية والماجستير والدكتوراه على شراء الأبحاث والأطروحات، إذ إن غالبيتهم لا يعرفون حتى أساسيات كتابة البحث، فضلاً عن أبحاث الترقية الذي يشتريها أساتذة متخصصون بهدف الحصول على الترقيات العلمية”.
ويشير إلى أن “أسعار الأبحاث تتفاوت بحسب المرحلة الدراسية والتخصص وأن الطلاب يدفعون جزءًا من المبلغ في البداية، ويسددونه كاملًا لدى الاستلام”.
ويرى أن “سبب الإقبال على شراء الأبحاث الجاهزة هو تراجع المستوى التعليمي في البلاد خلال السنوات الأخيرة، والخطط غير المدروسة بقبول أعداد كبيرة في الدراسات العليا، كما يعتمد طلاب الجامعات غير الرصينة في الخارج على البحوث الجاهزة”.
ويعد الفساد الذي تعانيه غالبية مؤسسات الدولة العراقية من أبرز التحديات التي تواجهها المؤسسة التعليمية فيها، إذ إنّ تأثيراته بدأت تتفاقم بشكل مستمر منذ سنوات عدة، فإدارة الوزارات التعليمية مسيطر عليها من قبل أحزاب السلطة من دون الاعتماد على مبدأ الكفاءة، وهو ما نتج عنه تراجع بمستوى التعليم والتخطيط.

الدكتورة موج يوسف: غياب المعايير الأكاديمية الصارمة للقبول في الدراسات العليا وراء تسليع البحوث الجامعية، حيث أصبحت الدراسات العليا متاحة للجميع ولا تميز بين متفوق وموهوب من عدمه

ويرى البعض أن عشوائية التعيين التي تنتهجها الحكومة أسهمت في تعيين أساتذة في كليات أو مراكز بحثية بعيدة من تخصصهم، وفي الغالب يكون هذا الأستاذ مطالباً بكتابة بحوث في تخصص الكلية أو المراكز التي عين فيها، مما يدفع البعض إلى اللجوء لمكاتب كتابة الأطاريح والبحوث للتخلص من عبء كتابة بحث لا يشبه تخصصه.
وترى الأكاديمية الناقدة موج يوسف، أن “الأستاذ الجامعي أصبح بعيدًا من البحث العلمي، لذلك يلجأ لهذه المكاتب لغرض أن تنجز له بحوثه الخاصة بالترقية العلمية، الأستاذ الجامعي أبعد ما يكون من البحث والتأليف والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية، هو يعطي محاضرته ويعود إلى بيته، ويجد من الأنسب شراء بحث جُهز له”.
وتبين يوسف التي تم إيقاف أطروحتها للدكتوراة في وزارة التعليم وخضعت للتحقيق بذرائع طائفية قبل أن ترغم على حذف فقرات منها أن “لجوء طلبة الدراسات العليا إلى مكاتب كتابة البحوث مرده إلى أمور عدة، منها ضعف الطالب من الناحية المعرفية والبحثية وعدم قدرته الذهنية على كتابة بحث من 150 صفحة كحد أدنى.
وترى يوسف التي حصلت على درجة الدكتوراة في بحثها عن الرواية النسوية في العراق أن هذا طبيعي بسبب غياب المعايير الأكاديمية الصارمة للقبول في الدراسات العليا، وتقول “أصبحت الدراسات العليا متاحة للجميع ولا تميز بين متفوق وموهوب من عدمه، ومرحلة الكتابة البحثية هي من تكشف عن فقره المعرفي، عديد من الجامعات قام أساتذتها بالكشف عن سرقة أو شراء البحث أثناء المناقشة، وقاموا باتخاذ الإجراءات القانونية حتى إن لم تكن رادعة”.
وتكمل يوسف وتحدد الأسباب الأخرى لانتعاش هذه المكاتب، وتقول “قد يكون طالب الدراسات موظفًا في إحدى الوزارات ومحكومًا بمدة زمنية معينة، فيضطر إلى اللجوء لهذه المكاتب لأن الشهادة العليا بالنسبة إليه هي لغرض تعديل المرتب الشهري لا لقيمتها المعرفية”.
ويجمع خبراء تربويون وأساتذة جامعيون ومسؤولون داخل وزارة التعليم العالي على أن وزارة بمهام التعليم العالي التي تعد ملاكات وطواقم صناعة مستقبل البلاد، خارج قدرة وزير التعليم العالي نعيم العبودي نتاج ميليشيا العصائب.
ويعترف مسؤولون في الوزارة بأن الواقع التربوي في البلاد يزداد سوءًا، وأن نسبة كبيرة من حملة الشهادات العليا في العراق يتخرجون بطرق وصفوها بالملتوية ومن بينها عمليات شراء البحوث والأطروحات الجاهزة.
ويقر العبودي القيادي بميليشيا العصائب بزعامة قيس الخزعلي باتباع ولاية الفقيه الإيرانية لخامنئي وسبق وأن قال في تصريح تليفزيوني “نؤمن بولاية الفقيه وبالنسبة لنا إن ما نؤمن به والعمود الفقري لنا ثقافيًا وعقائديًا هو ولاية الفقيه، أي أننا نؤمن بولاية الفقيه”.
وكانت الجامعة الإسلامية في لبنان التي قد منحت العبودي وعددًا من الشخصيات البارزة في حكومة الإطار التنسيقي ولاسيما رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان الشهادة، بعدما كانت حلقة بارزة في فضيحة تزوير شهادات علمية، كشف عنها موقع “المدن” الإلكتروني اللبناني في تشرين الثاني 2021.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى