أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيتقارير الرافدين

منتقدو الأوضاع المتردية في العراق يتعرضون للملاحقة تحت غطاء “مكافحة المحتوى الهابط”

ناشطون عراقيون يعربون عن مخاوفهم من اتساع استخدام تهمة "المحتوى الهابط" بطريقة انتقائية من قبل أطراف السلطة لإسكات الأصوات الوطنية، سواءً على المستوى السياسي أو الصحفي بحجة الإساءة للآداب العامة.

بغداد – الرافدين
تواجه حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني، اتهامات بممارستها عمليات تضييق على الحريات العامة والرأي، خصوصًا بعد سلسلة قرارات وإجراءات اتخذتها خلال العامين الماضيين، خلال إطلاق ما عُرف بحملة “مكافحة المحتوى الهابط” التي يعدها مراقبون بأنّها مخالفة للقانون، وجرى تنفيذها بشكل انتقائي.
ويشكك ناشطون في دوافع الحكومة الحالية بمحاربة المحتوى الهابط في العراق بذريعة تأثيره على الذوق العام، في الوقت الذي تروج فيه أحزاب الحكومة للخطاب الهابط سواء بالأكاذيب والتلفيق المستمر أو عبر قنوات الأحزاب والميليشيات التي تروج للطائفية والتقسيم المجتمعي في أسوأ أنواع الخطاب الهابط والأكثر ضررًا على المجتمع العراقي.
وبحسب الناشطين فإن الحملة كما كل القوانين الأخرى في العراق تحولت على مدار عامين إلى سيف ذي حدين، بعدما لم تكتف بمحاسبة المسيئين فعلًا ممن يحظون بحماية جهات متنفذة، لتشمل أصحاب الرأي الحر الذين ينتقدون الأوضاع والفساد والمحسوبية في البلاد فضلا عمن يقدمون محتوى ساخراً أو سياسياً واجتماعياً ناقداً، إلى جانب عدد من شعراء والصحفيين.

لم تكشف وزارة الداخلية عن سقف زمني محدد لحملة مكافحة المحتوى الهابط أو عن حصيلة واضحة للاعتقالات التي نتجت منها

وأطلقت حملة “مكافحة المحتوى الهابط” في الثامن من شهر (شباط) 2023 من قبل مجلس القضاء الأعلى -المتهم بتكريس سياسة الإفلات من العقاب والتعامل بازدواجية مع العراقيين- بالتعاون مع وزارة الداخلية، التي شكلت لجنة خاصة لهذا الغرض.
وخصصت الوزارة منصة إلكترونية تحمل اسم “بلغ” لاستقبال شكاوى المواطنين حول المحتويات التي يرونها غير لائقة أو مسيئة على وسائل التواصل الاجتماعي في حين يؤكد كثر أن المنصة هي مجرد واجهة لفساد حكومي يعمل على قمع الحريات الشخصية.
ويقول التعريف المرفق للموقع إنه “منصة إلكترونية خاصة بالإبلاغ عن المحتويات الإعلامية المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي وتتضمن إساءة للذوق العام وتحمل رسائل سلبية تخدش الحياء وتزعزع الاستقرار المجتمعي”.
ولطالما أثار إعلان وزارة الداخلية الجدل بين الداعين لـ”حماية المجتمع” من تلك المنشورات “المسيئة”، والقلقين على حرية التعبير الذين يعتقدون أن وزارة الداخلية “غير مؤهلة” أو معنية بتقييم المحتوى على منصات التواصل.
وترى ناشطة من بغداد أن “الحكومة تستقوي على صناع المحتوى وتحاول فرض مفهوم الدولة القوية والمسيطرة من خلالهم”.
وأشارت إلى أن “فكرة إنشاء منصة بلغ تعد انتهاكًا كبيرًا ضد حقوق الإنسان والحريات الفردية في العراق.
وقالت الناشطة التي رفضت الكشف عن هويتها إن “السلطات تتعمد في إظهار قوتها وسلطتها على صناع المحتوى لتبث الرعب في قلوبهم، وتوظف هذه المنصة مفهوم الدولة القمعية التي تريد للمواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة، أن يمشوا على الصراط المستقيم أو تصبح السجون منصاتهم الجديدة”.
ولفتت إلى وجود مفارقة تتمثل في أن “يُعتقل أي شخص ألقى نكتة سياسية أو بث فيديو ينتقد فيه الخدمات السيئة بطريقة ساخرة، بينما يتم تجاهل ما يصدر على لسان السياسيين، وبما قد يتسبب بمشكلات كبيرة في البلاد، دون أن يخضع أي منهم لأية مساءلة قانونية على الرغم من خطاباتهم الطائفية والمحرضة، حتى على القتل أحيانًا”.
وأوضحت أن غاية منصة “بلغ” لم تكن يوماً مفهومة وواضحة، بالرغم من إطلاق كثير من المنظمات الإنسانية أسئلة لمعرفة ما مفهوم ومعايير “المحتوى الهابط” لحماية المدونين، وجمعت كثيراً من التوقيعات لإلغاء المنصة دون نتيجة.
وسبق أن أدانت منظمة إنهاء الإفلات من العقاب في العراق الحملة الممنهجة، التي تقوم بها السلطات لتقييد حرية التعبير تحت ذريعة ملاحقة ما سمته المحتوى الهابط.
وأوضحت المنظمة أن “مصطلح المحتوى الهابط هو مفهوم مطاط غير موصوف قانونيًا لذلك سوف يتم استخدامه بما ينسجم مع مصالح الأحزاب الحاكمة”.
وبينت المنظمة، عدم وجود خطوط واضحة للمقصود منه عند أحزاب السلطة، ولذلك “سيكون ذريعة لملاحقة أي شخص يقوم بانتقاد السلطة بأسلوب فكاهي أو ساخر”.
وخلال النصف الأول من شهر كانون الثاني الماضي اعتُقل اثنان من صناع المحتوى في العراق، بتهمة المحتوى الهابط من طريق منصة “بلغ”، أحدهما كان مستقراً في تركيا، لكنه قرر العودة إلى بلاده قبل أقل من عام
وذكر أحد معارفه الذي فضل عدم ذكر هويته أنه وقبل اعتقاله تطرق في أحد فيديوهاته إلى قضايا غسل أموال متعلقة بمحافظ البصرة أسعد العيداني ومرتبطة بشخصيات نافذة، قبل أن يحذف المقطع بعد اعتقاله.
وكانت وزارة الداخلية وعبر المتحدث الرسمي باسمها خالد المحنا أعلنت أنها تلقت 96 ألف بلاغ من مواطنين حول ما وصفته بـ “المحتوى الهابط” على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أقل من أسبوع على انطلاق منصة “بلغ” ومع ذلك لم تكشف الوزارة عن سقف زمني محدد للحملة أو عن حصيلة واضحة للاعتقالات التي نتجت منها.
وفي ما يتعلق بمعايير تحديد “المحتوى الهابط” اكتفى المحنا بالإشارة إلى أن الحملة تهدف إلى “تصحيح المسار وتشجيع المحتوى الإيجابي، وإرسال رسائل تعكس ماهية المجتمع العراقي والوجه الحقيقي للشباب العراقي”.
ونفى المتحدث أن تكون الحملة قيدت حرية الرأي داخل البلاد، مؤكداً أن “جميع الحريات مكفولة بموجب الدستور العراقي”.

ماجدة الكبيسي: السلطات الحكومية تروج للتمييز والطبقية بصورة صارخة في حملة المحتوى الهابط إذ إن جميع المعتقلين في السجون غالبًا ما ينتمون لمناطق سكنية معدمة أو أنهم يفضحون الحقيقة التي تخفيها الحكومة.

وتعتمد الجهات القضائية في الغالب على نص المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969 في توجيه التهم ضد المعتقلين المحالين إليها ضمن حملة مكافحة المحتوى الهابط.
وتنص هذه المادة على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن 200 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من صنع، أو استورد، أو صدر، أو حاز، أو أحرز، أو نقل بقصد الاستغلال، أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسومًا أو صورًا أو أفلامًا أو رموزًا أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة.
ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك، أو عرضه على الجمهور، أو باعه، أو أجره، أو عرضه للبيع، أو الإيجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعد ظرفاً مشدداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق”.
ويوضح المحامي والناشط المدني سليم الموسوي أن “الحملة غير قانونية، لكونها استندت إلى قانون عقوبات قديم عُدل خلال الثمانينيات وفي وقت لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، فالمادة القانونية لا تتحدث عن النشر الإلكتروني، بل عن الرقابة على الكتابة والمطبوعات والأفلام، وليس المحتويات الإلكترونية”.
ويرى الموسوي أن “الحملة ضد المحتوى الهابط ليست فقط قمعية، بل عشوائية”.
ويقول الموسوي إن “الحملة غير قانونية إطلاقاً لأنها تتنافى مع الدستور والقوانين النافذة أولاً ومع مادة مبادئ الديمقراطية التي كفلها الدستور ثانياً ومع مادة حرية الرأي والتعبير ثالثاً، ولا وجود لأية مادة قانونية صريحة يمكن الاستناد إليها لتنفيذ الحملة.
وأضاف أن “ما يحدث هو بث للرعب لا أكثر وتطبيع على الخنوع للسلطات وبعض المعتقلين اضطروا إلى تقديم اعتذارات علنية وأغلقوا صفحاتهم قبل أن يصلهم الدور ولم أجد أي مبرر منطقي لاعتقال شخص بسبب طبيعة مقاطع الفيديو التي ينشرها”.
واستشهد باعتقال علي حسن المعروف بلقب “عبود سكيبه” الذي اعتُقل فقط لأنه يتحدث بلكنة إنجليزية دون اللغة.
وعبود عامل بناء من إحدى أقضية محافظة ميسان جنوب العراق، عُرف بتقديم مقاطع فيديو فكاهية بلغة لا يتقنها.
وأثار اعتقاله موجة تضامن واسعة بين آلاف المدونين الذين طالبوا بإطلاق سراحه، مما أدى إلى الإفراج عنه بعد يوم ونصف اليوم نتيجة ضغط مجتمعي كبير.
وتباينت الآراء حول سبب اعتقاله، فبعض يرى أنه جاء بسبب تصويره للواقع العراقي إذ كانت مقاطع الفيديو التي ينشرها تظهر شوارع غير معبدة تعكس افتقار المنطقة للخدمات، وهو ما عُدَّ انتقادا ضمنيا -ولو بصورة غير مباشرة- لهذا الواقع، فيما رأى آخرون أن محتواه “لا قيمة له” أو “غير مفيد” وخرج عبود من السجن دون أن يعرف سبباً لاعتقاله.
وتعقيبًا على ذلك ترى الباحثة الاجتماعية ماجدة الكبيسي أن السلطات الحكومية “تروج للتمييز والطبقية بصورة صارخة في حملة المحتوى الهابط إذ إن جميع المعتقلين في السجون غالبًا ما ينتمون لمناطق سكنية معدمة أو أنهم يفضحون الحقيقة التي تخفيها الحكومة، كالحديث عن الخراب والعشوائيات والجوع والبطالة التي تطاول مجتمعاتهم، لكن وزارة الداخلية تكرم في مهرجاناتها أشخاصاً يملكون المؤهلات والشهادات ولهم وضع معيشي ممتاز، ويمثلون (العالم المثالي) المليء بالمطاعم الجميلة والشوارع القليلة المبلطة في المدينة”.
وتابعت الكبيسي “وبدلاً من محاولة احتواء الشرائح المهمشة التي وجدت منفذًا صغيرًا من خلال السوشيال ميديا للعيش والعمل، تعمد الدولة على إنهاء وجودهم وإقصاء أصواتهم”.
وأشارت إلى أن منصة “بلغ” تعاني نقصاً واضحاً في الشفافية في شأن الشكاوى والإجراءات المتخذة، وغالباً ما يظل الأفراد غير مدركين لوضعهم القانوني حتى لحظة اعتقالهم وأدت المنصة إلى تشجيع الإبلاغ بين الأفراد مما زعزع الثقة الاجتماعية وقمع التنوع والآراء المختلفة، وحوَّل النقاش العام إلى حال من الخوف والترهيب.

الميليشيات تشن حملات تسقيط وشيطنة لمناهضيها عبر الجيوش الإلكترونية

وتستغل الأحزاب وميليشياتها فوضى النشر والتراخي الحكومي، عبر الاعتماد على ما يعرف بالجيوش الإلكترونية والصفحات الوهمية التي تتخذ من أسماء الفتيات بالعادة ستارًا للتغطية على نشاطاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، لبث الأخبار المضللة وخطاب الكراهية والتحريض الطائفي، فضلًا عن نشر المحتوى الهابط.
وعلى الرغم من أن متابعة ما يصدر عن الحسابات الوهمية والجيوش الإلكترونية، يقع على عاتق ما يعرف بـ “جهاز الأمن الوطني” الذي يعمل بالتنسيق مع هيئة الإعلام والاتصالات كما يفترض، إلا أن هذا الجهاز لا يقترب من الصفحات الحزبية وتلك المعروفة بارتباطها بالمليشيات ويكتفي بملاحقة الناشطين المناهضين للحكومة قبل أن تتولى وزارة الداخلية هذا الأمر تحت ستار محاربة المحتوى الهابط.
ورصد بيت الإعلام العراقي في تقرير سابق له، تنامي ظاهرة الجيوش الإلكترونية وازدياد خطورتها لاسيما أن القائمين عليها لم يعودوا يجدون حرجًا في كشف خلفياتهم وداعميهم، إذ بدأت تساهم المئات من الصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام بآراء مغلوطة لا تخلو من الكراهية، ولم تقتصر على الميدان السياسي، بل طالت شخصيات عامة فضلًا عن الأفراد.
ويستند التقرير على متابعة ومراقبة أكثر من 200 صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي على مدى ثلاثة أشهر، أظهرت بشكل واضح كيف تدار هذه الصفحات وماذا تستهدف ومتى، وكيف لعبت أدوارًا سلبية في السلم والأمن المجتمعيين في البلاد من جهة، وساهمت في إقحام الجمهور في أزمات سياسية من جهة ثانية.
وكشف أن أموالًا طائلة تُصرف على المنشورات الممولة التي تحمل خطاب كراهية وأخبارًا وصورًا مفبركة، بعد مراقبة النطاق الزمني لتمويل منشورات معينة وحجم التفاعل معها، ومع حساب فترة تمويل منشورات التي وصل بعضها لأكثر من 15 يومًا وإحصاء التفاعلات التي جمعتها هذه المنشورات، فإن تمويل كل منشور يكلف أكثر من 500 دولار استنادًا إلى أجور وآليات الإعلان الموضحة من قبل شركة ميتا المالكة لموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى