بكامل الجدية: شكرا ترامب!
تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا، فقلب الدنيا على رأسه وبلاده وعلى الكيان الصهيوني، إذ أعلن عن نية بلاده “امتلاك غزة” أو “الاستيلاء على غزة” أو “استلام غزة من إسرائيل الصهيونية” وتهجير الشعب الفلسطيني من القطاع وإقامة ريفيرا في مكان البيوت التي دمرها الجيش الصهيوني بأسلحة أمريكية.
وهو إذ أراد ما أراد -وعلى بشاعته- فالرجل مشكورا أفاد القضية الفلسطينية ووفر كل سبل إعادة وضعها على جدول دول وشعوب العالم. ولو كان أراد تفعيل المواجهة ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني، ما كان قد فعل إلا ما فعل. ولو كان أراد الإساءة لبلاده وكشفها كدولة تهجير عرقي وديني، ما كان فعل أكثر مما فعل.
ولذلك وجب توجيه الشكر لترامب.
دعونا نرى الوجه الآخر لما تحقق بما قال. لقد قدم ترامب إثباتا أو قدم اعترافا، بأن جيش الكيان الصهيوني فشل فيما أراد تحقيقه طوال 15 شهرا من القتل والدمار، فلو كان جيش الاحتلال نجح في التهجير ما كانت هناك ضرورة لما أتى به ترامب. وقد وجه ضربة قاضية لإمكانية قيام الكيان الصهيوني باستخدام القوة مجددا لتحقيق مشروع أو جريمة التهجير، إذ تحدث عن تسلم غزة من الكيان الصهيوني. موجها ضربة لمشروع توسع الكيان الصهيوني، إذ حدد له حدوده لأول مره، فالكيان لم يحدد له حدود منذ عام 48 وحتى كلام ترامب هذا، الذي يعنى أن حدود غزة الشمالية، هي آخر حدود تمدد الكيان الصهيوني في الجنوب.
وهو في ذلك قد طرح طريقا آخر للتعامل مع غزة لا دور فيها لاستخدام القوة من قبل الجيش الصهيوني. وبغض النظر عن إجرامية ما طرحه من تهجير قسري، فهو يوقف خطة نتنياهو المتعلقة بالعودة للعمليات العسكرية بعد إنفاذ المرحلة الأولى من الاتفاق.
والأهم أن انتهى الأمر بعد يوم واحد من إطلاق تلك التصريحات، إلى أن الولايات المتحدة لا تنوى استخدام القوة العسكرية لإنفاذ جريمة التهجير. لقد حاول ترامب التلاعب بالكلمات حول إمكانية استخدام القوة العسكرية الأمريكية، لكن الامر صار واضحا الآن بأن لا استخدام للقوة العسكرية الأمريكية. وتحققت المعادلة الجديدة المهمة. الصهاينة لم يستطيعوا التهجير بالقوة العسكرية والجيش الأمريكي لن يتدخل عسكريا.
ولقد أعاد ترامب طرح الوضع القانوني لغزة، وجعله إشكالية كبرى تبحث عن حل. تحدث عن أرض فلسطينية يريد تهجير سكانها، ولم يتحدث عن أرض فضاء يريد السيطرة عليها، بما نزع صفة السيطرة الصهيونية عن تلك الأرض، ولذلك عاد وقال، أنه سيتسلم غزة من إسرائيل. وهو ما دفع دول في مختلف أنحاء العالم لا الدول العربية فقط، للحديث عن أن غزة جزء من الدولة الفلسطينية.
وبقدر ما أحدث الرئيس الأمريكي من ضجة بتصريحاته، فهو استنفر العالم كله ليقول لا للتهجير القسري، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة ومنهم بريطانيا وفرنسا، بل حتى ألمانيا. وإذ رفض الجميع مشروع التهجير الأمريكي، فالرفض في حالة تولى الكيان الصهيوني لتلك المهمة، سيكون أضعافا مضاعفة.
لقد وجه ترامب ضربة حقيقية لإمكانية قيام الكيان الصهيوني بارتكاب جريمة التهجير بالقوة العسكرية. ووفر فرصه تاريخية أمام الدول العربية والإسلامية وأمام الشعوب، لإعلان الرفض الكامل والشامل لفكرة التهجير، والعودة إلى الموقف الموحد بعد طول زمن الانقسام والتشرذم. وفتح مساحة أمام الدول التي يتنمر عليها ترامب منذ أن دخل البيت الأبيض، لمواجهته وإجباره على التراجع عن فكرته المجنونة، ردا على تنمره.
بعض مواقف الدول لا يتعلق فقط بحفاظها على القانون الدولي ولا بسابق مواقفها المطالبة بدولة فلسطينية. هناك دول يهاجمها ترامب ويهددها بالعقوبات ويطلب تسليم أرضها أو تغيير حكومتها، وجدت في سقطة ترامب فرصتها لترد الصفعات التي وجهها لها.
وأخيرا، فإذا كان مشروع سلفه جو بايدن بإقامة ميناء في غزة، لترحيل الشعب الفلسطيني باتجاه قبرص، قد ابتلعه بحر غزة، فكل ردود الفعل على تصريحات ترامب والسوابق التاريخية، تؤكد أن بحر غزة سيبتلع مشروع ترامب للتهجير أيضا. وقد لاحت المؤشرات على ذلك حتى من داخل الإدارة الأمريكية ذاتها، بل حتى من داخل الكيان الصهيوني. وقد وصل الأمر حد وصف وزير الدفاع الصهيوني السابق، إيهود باراك مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإعادة توطين نحو مليوني فلسطيني يقيمون في قطاع غزة بـ “الخيال”.
وقال هذه لا تبدو خطة درسها أي شخص بجدية. يبدو أنها مثل بالون الاختبار، أو ربما محاولة لإظهار الدعم لإسرائيل.
سيهزم مشروع ترامب وإن طالت المعركة معه، وستكون هزيمة هذا المشروع بداية تحول إستراتيجي تضعف بسببه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. أما ترامب، فسيظل يتحدث عن نجاحه الباهر وعن مدى إعجاب العالم كله بفكرته التي لم يسبقه أحد في إطلاقها .