عمليات دفن مريبة لعشرات الجثث “مجهولة الهوية” في النجف وصلاح الدين
تتهم مراصد حقوقية الميليشيات المرتبطة بإيران بعمليات تصفية مدنيين بدوافع طائفية وأخرى سياسية قبل أن يتم دفنهم في مقابر جماعية في النجف وصلاح الدين وبابل على شكل "جثث مجهولة الهوية".
النجف – الرافدين
أثار الإعلان عن دفن 33 جثة في مقبرة مخصصة لمجهولي الهوية في النجف تساؤلات عن هوية الضحايا وظروف وفاتهم وسط مخاوف من وجود علاقة بين هذا الإعلان والتسويف الحكومي لمصير المغيبين في المدن المنكوبة.
وذكرت مصادر مطلعة في محافظة النجف بأن مقبرة النجف النموذجية شهدت دفن 33 جثة لأشخاص مجهولي الهوية مع مطلع شهر شباط الجاري.
وبينت المصادر أن مراسم الدفن جرت في المساحة التي خصصت مجانا للمتوفين مجهولي الهوية، وبإشراف دائرة الطب العدلي.
وأظهرت صور نشرتها حسابات المقبرة على مواقع التواصل الاجتماعي، عمليات الحفر والدفن الجماعي في المقبرة، في مشهد أثار مشاعر حزن وتعاطف انعكست في تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
وسبق أن أعلنت مصادر عن دفن نحو ضعف العدد المعلن دفنه من الجثث في النجف هذا الأسبوع في محافظة صلاح الدين لما قيل إنها جثث مجهولة.
ففي الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني من عام 2024 جرى الإعلان عن دفن 60 جثة لمجهولي الهوية في مقبرة السيد محمد في محافظة صلاح الدين.
وبينت المصادر من صلاح الدين، بأن الفريق الوطني للمقابر الجماعية في وزارة الصحة الحالية، نقل الجثامين إلى مقبرة جماعية جنوب شرقي المحافظة.
وقالت المصادر إن “هذه الرفات كانت قد تم العثور عليها في مقبرة جماعية في منطقة الكبان في ناحية الاسحاقي في العام 2019 وكانت محفوظه من قبل صحة المحافظة”.
وتعد عبارة “مجهولة الهوية”، “مجازية” عن أشخاص تم اختطافهم وتعذيبهم وقتلهم بدم بارد ثم الإلقاء بهم على قارعة الطريق إلى حين مراجعة ذويهم دوائر الطب العدلي.
وعرف العراقيون ظاهرة الجثث مجهولة الهوية بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق وسيطرة الأحزاب الموالية لإيران على السلطة وسيطرة الميليشيات الطائفية على الملف الأمني حيث كانت مئات الجثث المشوهة يعثر عليها في الأنهار والأماكن المهجورة.

وتتفاوت أعداد ضحايا القتل التي تكشف عنها الجهات الحكومية على الرغم من الإعلان عن استقرار الوضع الأمني، وتقول مصادر حقوقية وأمنية متطابقة أن نحو 10 جثث يُعثر عليها شهريًا.
ورصد قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في تقرير صدر حديثًا العثور على مائة وسبعَ عشرة جثة خلال العام 2024، في مناطق مختلفة من العراق ولاسيما مناطق شرقي العاصمة بغداد والمحافظات التي تسيطر عليها الميليشيات.
ولفت القسم في تقريره السنوي لحالة حقوق الإنسان في العراق 2024 الذي جاء بعنوان “واحد وعشرون عامًا من الموت والخراب والفساد وتفكيك البلاد” إلى أن استمرار ظاهرة الجثث مجهولة الهوية تشير للعديد من الدلالات وإلى وجود أزمة إنسانية وأمنية خطيرة.
وبين القسم إن “العثور على الجثث مجهولة الهوية يعد مؤشرًا واضحا على استمرار الجرائم مثل القتل خارج نطاق القانون، التعذيب، أو تصفية المعارضين السياسيين، حيث يتم التخلص من الجثث من دون تحديد هويتهم لمنع المحاسبة”.
وقال القسم إن ” الأمر يرتبط أيضًا بحالات الاختفاء القسري، حيث يتم إخفاء الضحايا قسرًا بواسطة السلطات أو مجموعات مسلحة تابعة لها أو تعمل بترخيص منها، ومن ثم العثور على جثثهم لاحقًا”.
وأشار قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين إلى أن “هذا الوضع يعكس الضعف الممنهج للمؤسسات الأمنية والقضائية في العراق، مما يسمح بارتكاب الجرائم دون محاسبة أو تحقيق”.
وقال إن “تكرار العثور على جثث مجهولة قد يكون نتيجة صراعات داخلية، مثل النزاعات الطائفية أو العرقية، حيث تتم تصفية الأشخاص بسبب انتمائهم إلى فئة معينة”.
وأضاف القسم في تقريره السنوي عن حالة حقوق الإنسان أن ” العراق الذي يعاني من منهجية الانفلات الأمني وفوضى السلاح، يكون العثور فيه على جثث مجهولة هو نتيجة مباشرة لفقدان السيطرة الأمنية، مما يؤدي إلى انتشار العنف”.
وعن استمرار دفن هذه الجثث في مقبرة مخصصة لمجهولي الهوية في محافظة النجف يؤكد القسم في تقريره أن هذا الأمر يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان بحد ذات ويعد ضعفًا كبيرًا في الرقابة والمساءلة الحكومية، ودليلًا على قمع النظام وعدم اهتمامه بالعدالة أو حقوق الضحايا لأن هذه العملية تعد وسيلة لإخفاء الأدلة على الجرائم التي ارتكبت وطمس الحقائق ومنع تحديد هوية الضحايا، مما يجعل من الصعب محاسبة المسؤولين.
وأكد القسم في تقريره الذي يعد مرجعًا توثيقيًا لحالة حقوق الإنسان في العراق أن ” هذا النوع من التعامل مع الجثث يُعد استمرارًا للأساليب القمعية التي تمارسها الحكومة ضد المعارضين أو الأفراد الذين يعتبرون تهديدًا للنظام، مما يعكس استراتيجية في التضييق على حرية التعبير والحقوق المدنية”.
وانتهى التقرير قوله بما يخص هذا الأمر إن “قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين يجدد تأكيده أن استمرار ظاهرة العثور على جثث مجهولة الهوية يعكس تهديدًا خطيرًا على حقوق الإنسان ويستدعي تحقيقات عاجلة وحاسمة لضمان المحاسبة وتحقيق العدالة”.
وربط إعلاميون ومعنيون بالشأن العراقي تكرار دفن الجثث مجهولة الهوية، بملف المغيبين والمختطفين على يد الميليشيات والذين مضى على اختطافهم سنوات عديدة.
وتعود ظاهرة انتشار الجثث مجهولة الهوية إلى الواجهة من جديد بالكشف عن عشرات المغدورين سنويا في مختلف مدن العراق من غير أن تصدر السلطات الحكومية أي توضيح بشأن هذه الجثث أو الجهات المتورطة في القتل، مع تعتيم على دفن هذه الجثث.
وأعاد إعلان دفن الجثث مجهولة الهوية في النجف وصلاح الدين للأذهان تورط ميليشيا الحشد في دفن جثث المئات من أبناء جرف الصخر ومناطق شمال بابل على وجبتين عام 2019.
وأظهرت وثائق رسمية صادرة عن مديرية صحة بابل، ومديرية بلدية الحلة، حصول موافقة على دفن الجثث والأشلاء البشرية “مجهولة الهوية” بعد تجاوزها المدة القانونية لحفظها في ثلاجة الموتى، “دون أن يتفقدها أحد من ذويهم”.
وجرى تداول مقاطع مصورة قبل هذا الإعلان، ظهر فيها شخص يدعى رعد الشوك معلنا تكفله بدفن الجثث مجهولة الهوية التي عثر عليها شمال بابل ضمن “مبادرة إنسانية بعد ان بقيت جثثهم خمس سنوات دون ان يتعرف عليها أحد”.
وتسبب تداول هذه المقاطع ومقاطع أخرى للشخص المعني بعملية الدفن الذي تبين أنه في صفوف ميليشيا الحشد وسبق أن قاتل في المدن المنكوبة، عاصفة من ردود الأفعال السياسية والشعبية رأى أغلبها أن القضية صادمة وأن المغيبين المختفين منذ خمس سنوات في حينها عقب العمليات العسكرية في 2014، ربما يكون مصيرهم ذات المصير ما بين منتظر بثلاجة الموتى وما بين آخر دفن تحت التراب دون أن يعرف ذووه بمكانه أو يعرفون مصيره قبل ذلك.

وأثارت عمليات الدفن العشوائية وقتها غضب مراصد حقوقية جراء التعتيم الحكومي على هذا الملف لغياب التحقيق الفعلي في هذا الملف، خصوصًا في الحالات التي تتورط فيها ميليشيات الأحزاب الحاكمة.
وأجمعت المراصد الحقوقية على أنه ليس من المنطق أن تستمر عمليات العثور على جثث “مجهولة الهوية” وعمليات دفنها دون أن يعرف مرتكبو هذه الجرائم.
وانتقد مرصد أفاد بشدة “تجاهل الحكومة للضوابط الصحية والشرعية والقانونية التي تلزمها ببيان أصل تلك الجثث ومكان العثور عليها وضرورة التحقق منها قبل الدفن إن تعذر معرفة هويتها فعلاً، ناهيك عن ضرورة نشر تلك المعلومات عسى أن يتعرف ذوو المفقودين على أبنائهم، في ظل شكاوى سابقة قدمت من عدد كبير من العراقيين عن فقدانهم أبناءهم في مناطق معروفة بعينها”.
وتابع المرصد الحقوقي أن “ملف ما يسمى الجثث مجهولة الهوية ليس بجديد على سلوكيات شاذة مارستها جهات رسمية خلال السنوات الماضية، حيث تم الإعلان عن دفن نحو 500 جثة في عام 2020 ونحو 400 جثة عام 2019 تحت هذا المسمى فضلًا عن عشرات أخرى غير معلنة، دفنت بشكل سري يفتقر للآليات الواجب اتباعها وفق الأعراف الدولية”.
وأشار المرصد في بيان وقتها إلى “تقاعس الحكومة عن محاربة عصابات الجريمة المنظمة وفشلها بإخضاعهم للقانون لارتباطهم بجهات مسلحة خارجة على القانون”.
وشدد على أنه “ليس من المنطق أن تستمر عمليات العثور على جثث مجهولة الهوية ومقابر جماعية تكشف بين الفينة والأخرى منذ سنوات، دون أن يُعرف منفذو الجريمة، ولا عائدية الجثث، ناهيك عن خطورة تسليم ملف دفن الجثث لمتبرعين قد يتهمون بجريمة الاتجار بالبشر بالتواطؤ مع جهات حكومية، وهو ما قد يفتح الباب أمام رفع دعاوى أمام المؤسسات القانونية الدولية لمعاقبة كل المسؤولين المتورطين بهذه الملفات”.
وجاء الإعلان المتكرر عن دفن الجثث مجهولة الهوية بعد أن أقر رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي الذي أقصي من منصبه بتهم تتعلق بالتزوير في تصريح صادم بتصفية آلاف المغيبين العراقيين الذين جرى اقتيادهم من قبل ميليشيات طائفية بين 2014 و2016، إبان نزوحهم من مناطقهم.
وقال في تصريحات تلفزيونية مثيرة للجدل وقتها إننا “يجب أن نصارح الناس بحقيقتهم، ونغير اسمهم أولًا إلى المغدورين وليس المغيبين، مغدورين فارقوا الحياة، ويجب على الدولة إنصاف ذويهم وشمولهم عائلاتهم بقانون ضحايا الإرهاب، بالتعويض أما الاستمرار بتضليل عائلاتهم منذ 2014 ولغاية الآن، فغير صحيح… غيبوا وتم اغتيالهم”.
وتوجه الاتهامات لميليشيات منضوية في الحشد الشعبي، أبرزها كتائب حزب الله، والعصائب وبدر، وسيد الشهداء، والإمام علي، والخراساني، ورساليون، والنجباء، وجماعات مسلحة أخرى، بالوقوف وراء عمليات تصفية النازحين بدوافع القتل على الهوية.
ويقدر عدد الضحايا بأكثر من 55 ألف عراقي في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى والتأميم وحزام بغداد، وسط صمت حكومي عن هذه الجرائم وعدم فتح أي تحقيق بشأنها.
ومن ضمن هؤلاء المغيبين من تمت تصفيتهم أو بيعت أعضائهم البشرية من قبل الميليشيات، وهناك من تمت مساومة ذويهم من أجل تسليم جثثهم، فيما تقف السلطات الحكومية متفرجة، ليس لها أي دور تجاه هذه الأعداد من المغيبين.
ووفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن العراق يتصدر النسبة الأكبر من الأشخاص المفقودين بالعالم، بحسب اعتمادها على بيانات حكومية، حيث تقدر السلطات العراقية أن عدد الأشخاص المختفين خلال عقود من النزاع وانتهاكات حقوق الإنسان يمكن أن يتراوح بين 250 ألفًا وأكثر من مليون.
غير أن منظمات المجتمع المدني العراقية ترى أن الأرقام الحكومية أقل بكثير من الواقع، وأن حكومة بغداد لا تبالي بآلام أسر المغيبين، لأنه بمجرد فتح هذا الملف تدين نفسها كما ستكشف دور الميليشيات في عمليات تغييبهم وتصفيتهم الممنهجة.