البنك المركزي يقدم صورة مغايرة عن واقع الاقتصاد العراقي المكبل بالعقوبات
واشنطن تضيق الخناق على نشاط إيران الاقتصادي في العراق بعد فرض عقوبات على خمس مصارف عراقية جديدة للحيلولة دون استغلال إيران للنظام المصرفي العراقي لتهريب العملة والتهرب من العقوبات الأمريكية.
بغداد – الرافدين
أكد باحثون اقتصاديون أن البنك المركزي دائمًا ما يحاول نفي المعلومات المتعلقة بالعقوبات المفروضة من قبل الخزانة الأمريكية على القطاع المصرفي قبل أن يضطر تحت وطأة الضغط الأمريكي للإعلان عنها لاحقًا بالتزامن مع تداول معلومات حول فرض واشنطن عقوبات على خمس مصارف عراقية جديدة.
وبينوا أن نفي البنك المركزي للمعلومات التي أكدتها وكالات أنباء دولية نقلا عن مصادر رسمية ما هي إلا محاولة فاشلة لضبط إيقاع الاقتصاد العراقي لكي لا ينزلق إلى التأثر بهذه العقوبات ما يؤثر على ارتفاع سعر صرف الدولار.
وأجمعوا على أن الإدارة الفاشلة في التعاطي مع أزمة تهريب العملة الصعبة لصالح إيران تسببت بخضوع القطاع المصرفي بالكامل لصالح الميليشيات الموالية لنظام المرشد الإيراني علي خامنئي وبالتالي تحول الاقتصاد العراقي إلى رئة يتنفس منها الاقتصاد الإيراني الذي يرزح تحت العقوبات القاسية.

وأعلن البنك المركزي في بيان يحمل صبغة إيجابية عن انتهاء أولى اجتماعاته الفصلية لعام 2025 مع وزارة الخزانة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتي عقدت في دبي.
ولم يتطرق بيان البنك المركزي للإشارة إلى العقوبات التي شملت خمس مصارف بحسب مصادر مطلعة مكتفيًا بالقول إن الاجتماعات “تكللت بإشادة للخطوات التي اتخذها البنك والحكومة في بغداد في إصلاح القطاع المصرفي”.
وأضاف أن الخطوات التي اتخذها العراق تضمنت “تطور نظام التوزيع النقدي للدولار الأمريكي في العراق”. وكذلك، حدوث “نقلة نوعية في عمليات التحويلات الخارجية”.
إلا أن وكالة رويترز نقلت في المقابل عن “مصدرين مطلعين” القول إن البنك المركزي العراقي سيحظر على خمسة بنوك محلية أخرى التعامل بالدولار، في خطوة تأتي بعد اجتماعات مع مسؤولين من وزارة الخزانة الأمريكية في إطار جهود مكافحة غسل الأموال وتهريب الدولار وانتهاكات أخرى.
وقال أحد المصدرين للوكالة إن الخطوة تأتي بعد اجتماعات دبي الأسبوع الماضي بين مسؤولين من البنك المركزي العراقي، الذي حظر بالفعل العام الماضي على ثمانية بنوك التعامل بالدولار، ومسؤولين من وزارة الخزانة الأمريكية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وكشفت المصادر أسماء البنوك الخمسة وهي كل من مصرف المشرق العربي الإسلامي والمصرف المتحد للاستثمار ومصرف السنام الإسلامي ومصرف مسك الإسلامي ومصرف أمين العراق للاستثمار والتمويل الإسلامي.
ولم يرد البنك المركزي على طلب للتعليق من رويترز، وفقا للوكالة.
من جهته علق الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي في تغريدة له على حسابه بمنصة أكس بالقول إن “البنك المركزي دائمًا ما ينفي ثم تظهر الحقائق عكس ذلك”.
وقال الهاشمي إن “العقوبات الامريكية وصلت بشكل رسمي للجهات العراقية المعنية (حسب مصادر داخلية) من قبل مكتب OFAC للاستخبارات المالية التابع للخزانة الأمريكية وهو المعني برصد ومتابعة ومعاقبة الكيانات والافراد الداعمين للإرهاب والنشاطات المسلحة والمعاقبة أمريكيا”.
وأضاف أن “المصارف العراقية المعاقبة هي من فئة المصارف الصغيرة والمتوسطة والتي يبدو انها كانت تنشط خلف الكواليس بنشاطات مؤذية للاقتصاد العراقي ومخالفة لنظام العقوبات الأمريكية والدولية، تسرب وتهرب الدولار العراقي المخصص للتجارة الخارجية”.
وبين أن “التحرك الأمريكي المباشر من خلال أقوى وأخطر مكتب استخباري مالي أمريكي يؤكد جدية الخزانة الأمريكية في سرعة إنفاذ وتطبيق الأوامر التنفيذية للإدارة الأمريكية الجديدة دون تأخير”.
وخلص بالقول إن “العقوبات الأمريكية تكشف حقيقة سوء إدارة وضعف أسلوب المركزي العراقي في تنقية النظام المصرفي العراقي من عمليات التهريب المالي التي تتسبب بضياعات مالية هائلة من أموال العراق، والتي لم تساهم في تخليص العراق من المصارف الاحتيالية التي استمر اصحابها في الاعتياش على الدولار العراقي”.
وتعمد إيران على استغلال النظام المالي في العراق من أجل التحايل على العقوبات الدولية، وإيجاد منفذ هام للحصول على العملة الصعبة وتهريبها إلى طهران.
ومنذ مطلع عام 2023، دخلت واشنطن على خط أزمة تهريب الدولار لخارج العراق، وفرضت شروطًا على البنك المركزي، أبرزها خضوعه لنظام سويفت العالمي، وتقليل مزاد العملة، حيث تراجعت مبيعاته من 300 مليون دولار يوميًا إلى نحو 30 مليون دولار فقط في بداية الأزمة، قبل أن تعاود الارتفاع مؤخرًا.
وكشفت الأرقام الضخمة لمبيعات البنك المركزي من العملة الصعبة حجم الاستنزاف المالي الذي تعرض له الاقتصاد العراقي لصالح إيران، بعدما بلغت المبيعات أكثر من 81 مليار دولار خلال العام 2024 مقارنة مع نحو نصف هذا المبلغ من عام 2023 الذي بلغ حينها قرابة 41 مليار دولار.
وتكشف هذه الأرقام والزيادة في المبيعات عن نشاط محموم لإيران وأذرعها في استغلال هيكلية الاقتصاد العراقي في تدفق مليارات الدولارات لصالحها بعدما ذهبت غالبية هذه المبالغ لتغطية تمويل التجارة الخارجية، بسعر الصرف الرسمي الذي حدد بـ 1305 دنانير مقابل كل دولار.
وسبق أن كشف النائب الجمهوري، جو ويلسون، في وقت سابق من شهر شباط الجاري أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أصدر توجيها دعا فيه إلى اتخاذ خطوات فورية لضمان عدم استخدام النظام المالي العراقي من قبل إيران من أجل التهرب من العقوبات أو تجاوزها.
وأوضح ويلسون في منشور عبر منصة إكس أرفقها بصورة من القرار الذي وقعه ترامب، أن هذه الخطوات يجب أن تضمن عدم استخدام إيران للنظام المالي العراقي للتهرب من العقوبات، أو تجاوزها، وعدم استخدام دول الخليج كنقاط إعادة شحن لصالح طهران.

وفي وقت سابق جرى فرض عقوبات على نحو 28 مصرفًا، ومنعها من التعامل بالدولار وحجب دخولها لمزاد العملة، بسبب تورطها بتهريب الدولار.
وفرض البنك المركزي العراقي تحت وطأة الضغوط من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي سلسلة عقوبات على مصارف وشركات خاصة كان آخرها حظر 197 شركة من الدخول إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
ووجّه البنك المركزي في الثاني من حزيران 2024 كتابًا حمل توقيع نائب محافظ البنك، عمار حمد خلف، إلى المصارف المجازة كافة، يبلغها بقرار إيقاف دخول الشركات إلى نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية.
وعلى الرغم من حظر العديد من المصارف والشركات إلا أن البنك المركزي العراقي متهم بمنح مصارف خاصة تمتلكها الميليشيات والأحزاب الولائية تسهيلات للحصول على العملة الصعبة عبر مزاد العملة بطرق احتيالية تتجاوز العقوبات الأمريكية ومساعي واشنطن في تجفيف موارد إيران من العملة الصعبة.
ويعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي همام الشماع، أن “البنك المركزي لم ينجح في ضبط تهريب الدولار، بل أسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في هذا التهريب”.
وأشار الشماع، إلى أن “طرح نحو 270 مليون دولار يوميًا في مزاد العملة، أمر خطير، فهو رقم كبير خاصة أن مصير هذه المبالغ مجهول، مع أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أكد سابقًا أن 50 مليون دولار تكفي لسد حاجة السوق”.
ولفت إلى أن “هذه الحوالات إذا كانت تذهب للتجارة والاستيراد، فأين الحصيلة الكمركية وهل تتطابق هذه الأرقام مع المواد التي تدخل إلى العراق”.
وخلص الباحث في الشأن الاقتصادي بالقول إن “موضوع الدولار غامض وإجراءات البنك المركزي صعبت من الأمر ولم تسهل، خاصة مع تعدد هذه الإجراءات والتغيير المستمر فيها”.
ويصنف العراق في قائمة الدول المستوردة لأغلب منتجاتها، في اعتماد كبير على الدولار الذي يُعد عملة ثانية في البلاد، ما يعني أن أي تغييرات في سعر الصرف، تنعكس بشكل مباشر على السوق والحركة التجارية.
وبسبب الاعتماد الكبير على استيراد البضائع تحول البلد على مدار عقدين إلى معبر لعمليات تهريب كبيرة “للدولار” تحت غطاء الاستيراد الذي بات بحسب مراقبين “ثقبًا أسودًا” لاستنزاف الأموال الصعبة وتحويلها إلى دول مثل لبنان وإيران عن طريق “مزاد بيع العملة”، في خطوة منظمة تهدف إلى كسر الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية على إيران ودعم حزب الله في لبنان.
بدوره يؤكد عضو اللجنة المالية البرلمانية، النائب جمال كوجر أن “الآليات التي تتبعها طهران في العراق تستهدف المؤسسات الرسمية مثل البنك المركزي، أو البنوك الخاصة التي يعد بعضها واجهات لأحزاب سياسية عراقية”.
وتابع كوجر أن “من بين أبرز الطرق التي تتبعها إيران باستغلال القطاع التجاري يتمثل في استيراد بضائع يتم تضخيم فواتيرها، وعلى سبيل المثال قد تكون الصفقة بقيمة مليون دولار، لتصبح على الورق بقيمة أربعة ملايين دولار”.
وزاد أن الطريقة الثانية التي بدأت تنتشر بإنشاء مصانع إيرانية في الداخل العراقي، ويتم بيع منتجاتها في السوق، والإيرادات يتم تحويلها لإيران عبر شبكات متخصصة.
وحتى أن بعض المبالغ النقدية يتم إرسالها بشكل مباشر عن طريق أفراد يعبرون الحدود إلى إيران، خاصة مع تراخي المنافذ الحدودية في تتبع أو منع تهريب العملة.
وخلص بالقول إن “المعادلة معقدة في العراق، إذ أن العديد من القوى السياسية مرتبطة بإيران، وأي فك لارتباط مع طهران سيواجه رفضا كبيرا.
وتحتاج إيران إلى عملة الدولار من أجل استقرار اقتصادها المتدهور، الذي تضرر بشدة من العقوبات الأمريكية، بينما فقدت العملة الإيرانية المضطربة الكثير من قيمتها في الوقت الذي تستغل فيه البنك المركزي العراقي في امدادها بمعظم ما تحتاجه من الدولارات.
وسبق أن كشف موقع “إنتلجنس أونلاين” عن قيام السلطات الأمريكية بفرض فريق من الخبراء الماليين لما أسمته “تنظيف” البنك المركزي العراقي من الفساد.
وذكر الموقع الفرنسي المعني بالشؤون الاستخباراتية عن تواجد فريق من المسؤولين السابقين في وزارة الخزانة الأمريكية لإصلاح البنك بعد حملة ضغوط على حكومة محمد شياع السوداني لمنع تهريب العملة إلى إيران.
ويرأس الفريق الأمريكي تشيب بونسي المدير السابق لمكتب السياسات الاستراتيجية لتمويل الارهاب والجرائم المالية، ويدير شركة “كي 2 إنتيجريتي” في واشنطن وله اطلاع شامل بملفات العراق المالية وما يتعلق منها بما يسمى بـ “نظام الصرف الصحي لبيع العملة” وهو أكبر ملفات الفساد في تهريب العملة إلى إيران.
وذكر الموقع أن مهمة بونسي في البنك المركزي العراقي تتلخص بمناقشة التغييرات التي طرأت على القطاع المالي إلى جانب القيام بتنظيف بنك الرافدين، الذي كان محور تحقيقات فساد كبرى على مدى العام الماضي.
ولطالما منحت الولايات المتحدة العراق إعفاءات من تطبيق العقوبات بدفع أموال لإيران مقابل إمدادات من الكهرباء، على أنه لا تستخدم طهران هذه الأموال إلا في “معاملات غير خاضعة للعقوبات” مثل شراء السلع الإنسانية ومنها المنتجات الغذائية والزراعية.
وألغى ترامب في وقت سابق من شهر شباط الجاري، الإعفاء الممنوح للعراق لاستيراد الكهرباء والغاز من إيران فيما قرر أيضا منع طهران من “استغلال أموال بغداد”.
ويعد ملف الكهرباء حساسا في العراق، فسكانه البالغ عددهم 45.4 مليون نسمة يعانون بشكل يومي انقطاعًا متكررًا للكهرباء قد يصل إلى 10 ساعات ويزيد الأمر سوءًا ارتفاع درجات الحرارة حتى الخمسين خلال الصيف.
وتعتمد المحطات الكهربائية العراقية بشكل كبير على الغاز الإيراني، لكن بفعل العقوبات الأمريكية على طهران، لا يمكن لبغداد أن تدفع مستحقات استيراد الغاز من إيران في الأشهر القادمة.
ويتوقع خبراء اقتصاد أن يكون للخطة التنفيذية الأمريكية التي انطلقت مراحل لاحقة بعد العقوبات الأخيرة لتشمل بنوكًا أخرى ضمن الجهاز المصرفي العراقي فضلًا عن إيقاف واردات الطاقة من إيران بشكل كلي.