دروس أوكرانية لمن يعتبر
انقلبت أحوال أوكرانيا. لقد قال الرئيس المصري السابق حسني مبارك: من يتغطى بالأمريكان، هو عار، فليتها اعتبرت وليت غيرها يعتبر!
أصبحت أوكرانيا عارية إستراتيجيا بعد يوم وليلة، وانتهى الأمر لروسيا التي تكسب إستراتيجيا ويتقدم جيشها تكتيكيا دون توقف.
وإذ يتحدث الأوربيون عن الاستمرار في دعم أوكرانيا، فهم لا يهتمون إلا بأنفسهم، لا أكثر ولا أقل، وهم لا هم لهم إلا إكمال توريط أوكرانيا لضمان أمنهم، وعند لحظة ما سيفعلون ما فعلته أمريكا.
انقلبت الأحوال، فإذ كان جو بايدن من دفع أوكرانيا دفعا للحرب مع روسيا، وبناء عليه تحول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكىي إلى بطل فيلم كرتون متكرر في كل وسائل الإعلام ومتحدث يومي أمام برلمانات الغرب، كما كان حال تيدروس أدهانوم غيبريسوس
رئيس منظمة الصحة العالمية في زمن كورونا، فقد أصبح زيلينيسكي موضعا للهجوم اليومي من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لم يوفر تهمه، من الفساد إلى الديكتاتورية إلى عدم الشرعية، إلا واتهمه بها.
بات زيلينيسكي في موضع المطاردة ومطالبا تحت ضغط هائل، بالتنازل عن الأراضي التي احتلتها روسيا. بل حتى بالتنازل عن ثروات بلاده للولايات المتحدة.
كان الأخطر في الأيام الأخيرة، أن أرسل الرئيس الأمريكي من يطلب من زيلينيسكي التوقيع على عقد للتنازل عن أهم ثروات أوكرانيا للولايات المتحدة، لتسديد ثمن الأسلحة والذخائر التي كان سلفه بايدن قد قدمها لأوكرانيا، للقيام بأوسع عملية استنزاف روسيا لمصلحة الولايات المتحدة وأوروبا.
وانقلبت أحوال أوروبا التي كانت تستند إلى دعم الولايات المتحدة في معركة أوكرانيا، ولم يكن يمر يوم إلا وتطلق فيه تهديداتها ضد روسيا، أصبحت عارية هي الأخرى من الغطاء الإستراتيجي الأمريكي، وفي وضع المرتعش، إذ تحول الدعم والحماية الأمريكية لها إلى هجوم عليها.
لقد اختار الأمريكيون مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي كان عنوانا لموثوقية التحالف بين ضفتي الأطلسي والإشادة بتجربتها، لشن هجمات غير مسبوقة على القادة الأوروبيين والديموقراطية الأوروبية، حتى أن رئيس المؤتمر كريستوف هيوسغن لم يغالب دموعه تحت الشعور بالقهر والإذلال الأمريكي لأوروبا. إذلال وخسائر إستراتيجية كبرى لأوكرانيا وأوروبا
والدروس عميقة.
الدرس الأول، ألا يجب اعتماد إستراتيجية يتوقف عليها مصير وطن، بناء على تقدير باستمرار دعم الآخر، فالمصالح تتغير، وحسابات القوى الكبرى تقوم على اعتبار الدول الصغرى مجرد أوراق صراع بينها، إذ لا يتحدد مصير الدول الكبرى على الهزائم الصغرى. الآخر هو عامل مساعد، أما الإستراتيجيات فلا تبنى إلا على المقدرات الذاتية.
قامت إستراتيجية أوكرانيا على أن الولايات المتحدة وأوروبا سيدعمونها حتى النهاية، وعلى أن خوض أوكرانيا لمعركة تحقق مصالح الغرب، يجعل الغرب في موضع يمكن الاعتماد عليه بلا قلق ولا توجس.
لم تتصور أوكرانيا يوما تتغير فيه السياسات ويأتي للحكم رئيس أمريكي يقلب كل شيء ويغير كل شيء، ويصل حتى للمطالبة بإقالة الرئيس الذي حوله سلفه إلى أيقونة الصمود والتحدي في الدفاع عن القيم الغربية.
يجب أن تعرف موقعك بدقة في صراعات الكبار.
والدرس الثاني، هو ألا تخوض صراعا مع الأقوى منك وفق نفس الخطط التي يعتمدها هو. المتفوق له قدرات أعلى منك، فاختر أنت ما يناسب قدراتك. كان وهما أن يتم تصوير الجيش الأوكراني أن بإمكانه دحر وهزيمة الجيش الروسي وفق ذات خطط الحرب النظامية.
والدرس الثالث، أن مثل تلك الحروب، تستدعى حضورا دائما وقويا للشعوب، لا للحكام والجيوش فقط. حضور الشعوب ما يحقق الاستدامة في المعارك المصيرية مهما طال زمنها، وهو ما يمنح الحكومات والجيوش قوة لا تنفذ، ومن يعظم قوة الضعيف ويجعله قادرا على مواجهة اختراقات النخب، من قبل الأعداء والحلفاء.
والدرس الرابع، أن حروب الضعفاء لا يجري تحقيق النصر فيها، إلا باعتماد خاص لدوران ساعة الزمن، يجب أن يحدد دور الزمن بدقة متناهية.
إطالة الزمن في حالة الضعف هو إحدى أهم أدوات تحقيق النصر، الذي لا يتحقق عبر هزيمة الخصم بأدوات القوة المباشرة في الميدان. الزمن هو ما يحقق النصر عبر إنهاك الخصم. الزمن القصير هو مصلحة الخصم القوى. وفي بعض الأحيان –كما في حالة أوكرانيا- اعتمد الخصم عامل طول الزمن لمصلحته لسبب وحيد أنه وجد الخصم يصارعه بنفس أدواته في الحرب. هنا يلعب الزمن لمصلحة صاحب القدرة الاستراتيجية الأكثر اتساعا واستدامة. وقد كان على أوكرانيا أن تغير نمط إستراتيجيتها ليعمل الزمن في صالحها.
الدرس الخامس، ألا تتحول إلى الهجوم الإستراتيجي أبدا، إلا إذا ضعفت قدرات الخصم.
لقد كان الهجوم الأوكراني -هجوم الربيع- الذي دفع الغرب أوكرانيا دفعا لشنه، أشد تأثيرا على قدرة الجيش الأوكراني حتى من قوة الجيش الروسي في المواجهة. هاجمت أوكرانيا قبل أن تحقق إنهاك الجيش الروسي، فأوقعت بجيشها خسائر كبرى غيرت الموازين وأفقدته القدرة على مواصلة واستدامة الحرب.
الدرس السادس، أن تدير أنت معركتك، ولا تترك للآخرين قيادة معركتك.
لقد أدارت الولايات المتحدة وبريطانيا المعركة إستراتيجيا، فيما اكتفت أوكرانيا بقيادة المعركة تكتيكيا.
هذا الذي جرى في أوكرانيا هو نفس ما فعلته ميليشيا حزب الله في لبنان التي سلمت لإيران قيادة معركتها إستراتيجيا. وهو ما لم تفعله المقاومة الفلسطينية -رغم ضعفها- فكان عاملا حاسما من عوامل تحقيق النصر.