أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيتقارير الرافدين

الاستحداث العشوائي للكليات الطبية الأهلية يغرق سوق العمل في مستنقع البطالة

يضطر خريجو التخصصات الطبية للانتظار سنوات عديدة قبل حصولهم على وظيفة في المؤسسات الصحية، وسط مخاوف حقيقية من وقوع الآلاف من خريجي كليات طب الأسنان والصيدلة في فخ البطالة خلال السنوات القادمة، لينضموا إلى ملايين العاطلين من التخصصات الأخرى.

بغداد – الرافدين
حذر أطباء وصيادلة وأكاديميون من تبعات ارتفاع أعداد خريجي كليات طب الأسنان والصيدلة في العراق والمستقبل المجهول الذي ينتظر دارسي هذا التخصصات جراء التخبط الحكومي في قطاع التعليم وعدم وضع آليات لاستيعاب الفائض منهم.
وحث الأطباء والصيادلة المواطنين على عدم تسجيل أبنائهم الطلبة في كليات طب الأسنان للعام الدراسي المقبل والأعوام اللاحقة، بسبب زيادة أعداد أطباء الأسنان في العراق فوق الحاجة السكانية الفعلية للبلاد ولاسيما في الكليات الأهلية.
وأكدوا أن الفوضى المتحكمة بقرارات الدولة، وغياب النظرة التي تعتمد المهنية في التخطيط لحاجة البلاد الآنية والمستقبلية، واستمرار الفاسدين والجهات المتنفذة في تحقيق الأرباح والأموال الطائلة عبر قبول المزيد من الطلبة في الجامعات الأهلية أشبعت هذه التخصصات حد التخمة.
ولفتوا إلى أن سوء تخطيط الحكومات المتتابعة وعدم إيلاء خطط القبول في كليات طب الأسنان والصيدلة الاهتمام المطلوب أثر سلبًا على تعيين خريجي هذه التخصصات الدقيقة وأدى إلى إغراق السوق الخاص في مستنقع البطالة، بسبب عدم اكتراث السلطات لما ستؤول إليه المهنة في المستقبل.
وبينما كانت الأوامر الوزارية تَصدر بتعيين نحو 30 ألفًا من خريجي الكليّات الطبيّة والصحيّة، خلال العام 2024، وتُصَدَّر على أنّها منجزات حكومية، كانت المؤسسات الصحيّة تغصُّ بأكثر من نصف مليون موظف وموظفة، جزء منهم لا يجدون حتى مكانًا للجلوس، وليست لديهم مكاتب أو أماكن مخصصة لهم.

أوساط علمية عراقية تحذر من الاستمرار في إبادة التعليم في العراق لحساب مصالح تجارية وحزبية ضيقة عبر استحداث كليات طب أهلية

ويُعيّن خريجو الكليّات والمعاهد الطبيّة والصحيّة مركزياً، بحسب قانون التدرج الطبي رقم 6 لسنة 2000، لكنّ هذا القانون كان في زمن غير هذا الزمن، وفي نظام غير هذا النظام، فحينها كانت الدولة تُبرر التعيين المركزي بنقص الطواقم وحاجة البلاد الفعلية للأطباء.
وشمل التعيين المركزي خريجي الكليات الأهلية عام 2018 وفقاً للقانون نفسه، ما سمح بالتوسع في إنشاء المزيد من الكليّات الأهليّة التي تمتلكها في الغالب أحزاب متنفذة، واستحداث أقسام طبيّة إضافية، أو توسعتها، وأصبحت الزيادة في أعداد الخريجين هائلة، من دون أن يكون هنالك حاجة فعليّة للمؤسسات الصحيّة، إلا بتخصصات وظيفية محددة، مثل الطب والتمريض.
ولا ينفق العراق سنويًا سوى 5 بالمئة من موازنته العامة على قطاع الصحّة، بمعدل قدره 154 دولاراً للمواطن الواحد، وهو معدّل وصفته هيئة الضمان الصحّي العراقية بأنّه أقلّ من معدل إنفاق الدول الفقيرة، والنسبة الأعظم من هذا الإنفاق تذهب لرواتب الموظفين والموظفات.
وبحسب بيانات لجنة الصحّة النيابية، فإنَّ عدد موظفي وزارة الصحة يبلغ 550 ألف موظف وموظفة وهذا رقم يفوق ما تحتاجه الوزارة من طواقم، وما يُخصص لهذا العدد الكبير من ميزانيّة، يكون على حساب تطوير القطاع الصحّي، المتهالك.
ومن إجمالي تسعة تريليون وسبعمائة مليار دينار عراقي، تمثّل قيمة موازنة وزارة الصحّة لعام 2023، تذهب خمسة تريليون و500 مليار دينار عراقي، لرواتب الموظفين.
وهذه الرواتب الضخمة تُغري الطلبة بالوظيفة، والكليات الأهلية بقسط الدراسة الطبيّة الخاصة، الذي يتراوح بين أربعة ملايين و12 مليون دينار عراقي، سنويّاً.
ووفقًا للتقرير الإحصائي السنوي لوزارة الصحة، فإنَّ عدد أطباء الأسنان ضمن ملاك الوزارة كان يبلغ أكثر من 22 ألف طبيب وطبيبة حتى عام 2022، وهو عدد ارتفع بعد ذلك؛ بسبب تعيين دفعة جديدة عام 2023.
أمّا الأعداد القياسية التي تمثل الاحتياج الفعلي للمؤسسات الصحيّة فتبلغ 4224 طبيباً وطبيبة فقط، طبيب أسنان واحد لكل 10 آلاف من السكّان، ما يعني وجود 17910 يعملون في الوزارة من دون أن تكون هنالك حاجة لخدماتهم مع الأخذ بالاعتبار أن العدد ازداد بعد تلك البيانات الخاصة بعام 2022.
ويُضاعف وزير الصحّة في حكومة الإطار التنسيقي صالح الحسناوي، في لقاء تلفزيوني، الحاجة لأطباء الأسنان، يقول إنّ الحاجة هي طبيب أسنان لكلّ 10 آلاف من السكان، ومع هذه الحِسبة، الخاصة بالوزير، يظلّ الفائض كبيراً، أكثر من عشرة آلاف طبيب أسنان.
ويقول طبيب أسنان يعمل في أحد مراكز الرعاية الصحيّة الأولية، بمحافظة النجف، إنَّ الزيادة الهائلة في أعدادهم لم تنعكس إيجابياً على جودة الخدمة الطبيّة المقدمة للمراجعين، نتيجة سوء التوزيع، أو نقص البنايات، والأجهزة الطبية، والمواد، والأدوية.
ويعتقد الطبيب الذي رفض الكشف عن اسمه أنَّ سوء توزيع هذه الأعداد الكبيرة من أطباء الأسنان يعود إلى التدخلات والوساطات التي تفرض نقل الكثير من الكوادر إلى أماكن قريبة من سكنهم، ومنها على سبيل المثال، مستشفى الحكيم، في مركز مدينة النجف، الذي يصفه بأنَّه “مكان VIP، دوام مرن ومراجعين قليلين”.
ويتابع “إضافة إلى ذلك؛ فإنَّ حجم البُنى التحتيّة لا ينسجمُ مع عدد الموارد المتاحة (ملاك المؤسسة)، “يوجد في المركز الصحي الواحد كرسي أسنان واحد، أو اثنين، بأقصى حد، لكن أحيانًا يعمل عليه 30 طبيب أسنان”، ويتضمن الملاك القياسي للمؤسسات الصحيّة تخصيص طبيبَي أسنان لكلّ كرسيّ واحد.
ويعاني القطاع الخاص أيضًا مثل القطاع العام، حيث يشهد تنافساً غير مسبوقٍ على مستوى عيادات ومراكز طبّ الأسنان، ويشكّل المستقبل مزيدًا من الضغط، نتيجة الاستمرار في قبول آلاف الطلبة في كليّات طبّ الأسنان الحكومية والأهليّة، كما أثار استمرار زيادة قبول الطلبة في كليات طبّ الأسنان استياءَ نقابة أطباء الأسنان أيضًا.
وتعاني المؤسسات الصحيّة من التخمة بالصيادلة أيضًا، ففي العودة للتقرير الإحصائي لوزارة الصحّة، لعام 2022 يتضح وجود أكثر من 25 ألف صيدلاني وصيدلانية يشكلون فائضاً عن حاجة المؤسسات الصحيّة، بحسب القاعدة الإحصائية القياسيّة الرسميّة، التي تخصص صيدلانياً واحداً لكلّ 20 ألف مواطن.
وهذا العدد لا يشمل الدفعات المعيّنة بعد عام 2022، حيث توقفت الوزارة عن نشر تقريرها الإحصائي السنوي على موقعها الرسمي.
ويقر وزير الصحة على غرار إقراره بما يتعلق بمهنة أطباء الأسنان، بوجود ما لا يقلّ عن خمسة آلاف صيدلاني فائض عن حاجة الوزارة، “كملاك قياسي عالمي نحتاج إلى عشرة آلاف صيدلي، ونستطيع تشغيل عشرين ألف”.
ويقول الصيدلاني علي التميمي إن “هذا العدد الكبير من الصيادلة في المؤسسات الصحيّة لم ينتج عنه أيّ تأثير إيجابي في تحسين مستوى الخدمة الطبية، لأنَّ عدد المؤسسات الصحيّة قليل، وسعتها السريرية قليلة.
وبين الصيدلاني علي التميمي الذي يعمل في أحد مستشفيات ديالى أن “غرفة الصيادلة بالمستشفى مساحتها 4*4 متر، ويتواجد فيها 8 صيادلة على الأقل، أي لا يوجد مكان كافي فيها للجلوس”.
واضطر التميمي إلى ترك العمل في القطاع الخاص، والتوجه نحو إنشاء مشروع مطاعم وجبات سريعة، وهو خيار اتخذه زملاء آخرون له أيضًا، بسبب الزيادة الكبيرة في أعداد الصيدليات، واحتكار الصيادلة القدماء لسوق الأدوية، الذي كان يُعدّ قبل سنوات استثمارًا مربحًا.
ولفت إلى أنه “ضمن النسب القياسية فكلّ 20-25 سرير في المؤسسة الصحيّة؛ يكون صيدلانيٌّ واحد هو المسؤول عن تجهيزها بالأدوية”، لكنّ المستشفى الذي عمل فيه التميمي قبل تركه على سبيل المثال، وهو أكبر مستشفيات ديالى، ويتسع لأكثر من 500 سرير؛ يضمُّ أكثر من 100 صيدلاني، وهو عدد يكفي للتعامل مع 2000 سرير تقريبا.
من جانبه يؤكد محمد الأعرجي، مسؤول المهن الصحية السابق في أحد مستشفيات بغداد أنه قبل عام 2018، لم تكن هنالك زيادة كبيرة في أعداد الطواقم الصحيّة والطبيّة، لكن في ذلك العام تحديداً، بدأت الحكومة بضمّ خريجي الكليّات الأهليّة للتعيين المركزي، وفقاً لقانون التدرّج الطبّي، مّا سمح بتعيين أعداد كبيرة من الخريجين حديثاً في مختلف مفاصل المؤسسات الصحية.
ويقول الأعرجي إن “الزيادة كانت في الأعداد لوغارتمية سنوياً، وهذا نمط غير معهود في المؤسسات الصحية، لأنّ الزيادات في السابق كانت طفيفة، ويستطيع المستشفى استيعابها”.
ويضيف، “بعض العناوين، مثل المختبريين، كان عددهم في بعض الردهات صفر، والممرضين يقومون بمهام سحب الدم ونقله للمختبر، لكن بعد سنتين أو ثلاثة، أصبح أحياناً في الردهة الوحدة 7 مختبريين”.
ويكشف الأعرجي أيضًا، عن الآليات التي تتبعها إدارة المستشفيات في التعامل مع الأعداد الفائضة، “غالباً ما تُستحدث منافذ إضافية، الهدف منها التخلّص من تكتّل الطواقم في مكان واحد، مثل استحداث نقاط إضافية لخفر الدفاع المدني، بالإضافة إلى امتلاء الردهات بالحد الأقصى الممكن من الطواقم”.
وعن تأثير زيادة الأعداد على مستوى الاهتمام بالمراجعين، أو سرعة الاستجابة لاحتياجاتهم يبين أنَّ “الاتكاليّة تزيد كلّما زادت الأعداد، كما أنّ وجود عشرات الموظفين في الردهة يعيق حركة الكوادر، وخاصة التمريضية والأطباء، لأنّ عملهم يتطلب حركة مستمرة، ومن الممكن أن يتسبب الزخم بنقل العدوى، أو حتّى حصول مشاجرات”.
وكانت نقابات وأكاديميات علمية عراقية قد حذرت من الاستمرار في إبادة التعليم في العراق والاستهانة بالمعايير الطبية والتفريط بصحة الإنسان لحساب مصالح تجارية وحزبية ضيقة، عبر استحداث كليات طب أهلية.
وعبر قرار استحداث كليات طب أهلية عن عدم الشعور بالمسؤولية التي يتميز بها وزير التعليم الحالي نعيم العبودي نتاج العقلية الشعبوية لميليشيا العصائب الذي يصفه العراقيون بـ”الميليشياوي الجاهل” في ظل انهيار التعليم منذ عام 2003 وخروجه من قوائم قياس الجودة العلمية.

الكليات الأهلية تخرج أعدادًا كبيرة من الأطباء والصيادلة لينضموا إلى ملايين العاطلين من التخصصات الأخرى ممن لا تبالي السلطات لمصيرهم

وسبق أن أدانت نقابات أطباء العراق والصيادلة والأسنان ونقابة الأكاديميين العراقيين، في بيان مشترك السابقة الخطيرة في استحداث هذه الكليات الطبية وطالبت رئيس الوزراء بالتدخل الفوري، لإيقاف استحداث كليات الطب الأهلية.
وذكرت النقابات في بيانها أن استحداث مثل هذه الكليات المخالفة للقانون سيخرج أطباء غير مؤهلين مع عدم الحاجة لهم، مما يشكل خطرًا جسيما على أرواح الأبرياء.
وفي مقابل الاستهجان والرفض الأكاديمي تمادت وزارة التعليم العالي في قرارها رافضة الاستهجان العلمي والأكاديمي والاستهتار بحياة الإنسان العراقي، وزعمت بأنها تطمئن “الرأي العام والمتابعين والمهتمين بأن جميع كليات وأقسام الصيدلة وطب الأسنان في الجامعات الأهلية جرى تأسيسها على وفق القانون النافذ وفي ضوء إجراءات علمية وفنية حاكمة”.
ونتيجة لهذا التخبط والفشل يُصنَّف العراق غالبا في مراتب متأخرة بتقارير مؤشرات جودة الرعاية الصحيّة، التي تصدرها المراكز البحثيّة حول العالم.
ففي عام 2024، احتلَّ العراق الترتيب 71، بقائمة أفضل الدول في تقديم الخدمة الطبيّة، وفقاً لمؤشر الرعاية الصحيّة، الصادر من مجلة CEOWORLD، وهذا ترتيب متذيّل.
كما صُنّف العراق ثالثًا في قائمة أسوأ الدول في مجال الرعاية الصحية الأوّليّة، وفقاً لموقع نومبيو، المختصّ بقياس المستوى المعيشي عالمياً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى