أوروبا الرجل الطيب أم المريض
قبل أن يصفه بالديكتاتور غير المنتخب، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سعيدا جدا وهو يعلن أمام وسائل الأعلام بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعطاه رقم هاتفه!! هكذا مثل طفل سعيد بالحصول على لعبته المنتظرة.
بينما واقع الحال أن زيلينسكي لم يحصل غير توبيخ مذل من ترامب بعد وصفه بالديكتاتور، وفاقم من شدة الصفعة إيلون ماسك الذراع المتهورة لترامب عندما قال إنّ زيلينسكي “محتقَر من جانب الشعب الأوكراني”.
بعد كل ذلك لم يجد هذا الرئيس الذي أنهت بلاده سنتها الثالثة في حرب مع روسيا، غير إن يتهم ترامب بالعيش في “مساحة من التضليل الروسي”.
يمكن لنا هنا أن نستبدل زيلينسكي بأي رئيس أوروبي آخر لنجد أن ترامب لا يتوانى باختيار الأوصاف المفتقدة للكياسة السياسية بحقه، بمجرد أن يختلف مع طريقته التي تنظر للأمور بعين سياسية واحدة.
هكذا يبدو أن الاستخدام القديم لمصلح “أوروبا الرجل الطيب” لم يعد صالحا بعد الصدمة الكهربائية التي وجهها ترامب لأوروبا، أختر ما شئت من التسميات لأوروبا اليوم في مواجهة الولايات المتحدة الحليف التاريخي والعسكري لها، أوروبا الضعيفة، المريضة، الخانعة… كلها تسميات صالحة للاستخدام السياسي. فترامب قادر أن يدس السم علنا لأوروبا في أي مفاوضات يجريها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا، ويرغم أوروبا على تجرعه.
وهو الحال الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القول بأن عودة دونالد ترامب من شأنها إن تجبر أوروبا على تأمين مستقبلها وكذلك مستقبل أوكرانيا. ولم يقدم ترامب إلى ماكرون بعد لقاء في البيت الأبيض أي وعود. هكذا خرج الرئيس الفرنسي خالي الوفاض إلا من رسالة عرضها على وسائل الإعلام وهي “كن حذرا لأننا نريد شيئا كبيرا من أجل أوكرانيا، وليس اتفاقا ضعيفا”!
دعونا نترقب هنا التصادم المنتظر بين ماكرون وترامب، فلن يطول ترقبنا كثيرا!
قال ماكرون في حوار مع صحيفة فايننشيال تايمز مؤخرا “ما يقوله ترامب لأوروبا هو إن الأمر متروك لكم لتحمل العبء. وأنا أقول إن الأمر متروك لنا لتحمله”.
الاتحاد الأوروبي مصاب بصدمة منذ أسابيع ولا يعرف كيف يعالجها، عندما لم يتوقع هذا النهج القاسي من إدارة ترامب، وها هو يبحث عن مسار عقب الصدمة.
فقد الاتحاد الأوروبي مكانته كطرف فاعل بسبب استبعاده من محادثات السلام حول أوكرانيا، ويحتاج إلى الوقت لجمع شتات نفسه.
وهذا ما يصفه المحلل السياسي الألماني الدكتور
توبياس فيلا بأن الولايات المتحدة لم تعد شريكا موثوقا به لأوروبا. فترامب يصف نظيره الأوكراني زيلينسكي بـأنه ديكتاتور من دون انتخابات وينحي باللائمة على أوكرانيا في الحرب التي يتم شنها من قبل روسيا. ويعطى نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس الأوروبيين في ميونخ محاضرات عن حرية التعبير.
وهذه ليست سياسة واقعية حسب فيلا الباحث البارز في مكتب برلين لمعهد أبحاث السلام والسياسة الأمنية في جامعة هامبورج عندما يرى أن الإدارة الأمريكية أذلت الأوروبيين. ولم تظهر استعدادا لاتخاذ قرارات دون التشاور مع القادة الأوروبيين فحسب، ولكن أظهرت أيضا نية لتفكيك أوروبا من الداخل.
مقابل ذلك تكشف في ردود الأفعال الأوروبية تجاه ترامب مرة أخرى أن الأوروبيين منغرسون في علاقة غير متناسقة مع الولايات المتحدة. فبدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، كمن تستنجد بترامب لقبولها بصفهِ وليس زعيمة بلد مؤثر في الاتحاد الأوروبي، عندما زعمت أن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا ستظل وثيقة.
وقالت “يأمل خصومنا بأن ينأى الرئيس ترامب بنفسه عنا، ولكن من خلال معرفتي به كزعيم قوي وفعال، أراهن على أن أولئك الذين يأملون في الانقسامات سيكونون مخطئين”.
من المنطقي أن نسأل السيدة ميلوني عن خصوم الاتحاد؟ فإذا كان بوتين، فهو الآن أقرب إلى ترامب من زعماء الاتحاد أنفسهم؟
بينما تجمع النخب السياسية الأوروبية على أن الولايات المتحدة لم تعد تهتم بإخفاء مصالحها الذاتية القاسية تحت ستار المبادئ النبيلة للديمقراطية عندما ترك ترامب هذه المبادئ تحت أنقاض غزة وسيردمها أيضا تحت ركام أوكرانيا.