أخبار الرافدين
طلعت رميح

الرافدين إبداع حضارة ورؤية للحياة

أدركت منذ اللحظة الأولى، أن هدم العراق هو قرار إستراتيجي أمريكي صهيوني ذو بعد حضاري وتاريخي إنتقامي، وأن الأمر لا يتعلق بنظام الحكم؛ بل ببقاء العراق.وقلبت في توازن القوى، والوضعين العربي والإقليمي، وفحصت الوضع الدولي؛ فوصلت إلى خلاصة مفادها أن الغزاة المهاجمين إختاروا اللحظة الأخطر في تاريخ المنطقة والعالم؛ ليرتكبوا أبشع جرائم الإبادة، وأنهم أرادوا أن يكون المستقبل في إتجاه آخر، مما صنعه التاريخ.
نظرت لغزو وإحتلال العراق كعملية ذات دلالات كبرى، رأيتها عملية عدوانية قصد منها تدمير ما تشكل في شخصية المجتمع والإنسان العراقي خلال العملية التاريخية، التي نسجت ملامح الحضارة والدولة الإسلامية.
رأيتها حسابًا على التاريخ، ورأيتها عملية مخططة لكسر واحدة من أهم مرتكزات الحفاظ على بقاء الأمة ودورها ستتبعها تغييرات إستراتيجية كبرى.
رأيت في العدوان إنفاذًا لمخططات جرى وضعها منذ إقامة الكيان الصهيوني؛ بل هي حرب وهدم للعراق كامتداد لحروب الفرنجة على الأمة.
لكنى أدركت أيضا أن الصفوة التي جسدت تاريخ حضارة العراق؛ ستقاوم، وأن مقاومتهم ستكون الأسرع اندلاعًا في التاريخ، والرؤية هي ما تحدد المواقف، والمواقف لا تكون بالكلمات؛ بل بتقديم التضحيات.
كان يوم دخول قوات الاحتلال الأمريكي بغداد، اليوم الأشد ألمًا في مسيرة حياتي، ولم يأت من بعده يوم مثله، إلا ما يعيشه الشعب الفلسطيني الآن؛ لكن الألم لا يعني انكسار النفس.
ويوم دخول قوات الاحتلال إلى بغداد كتبت على الفور: بغداد احتلت ولم تسقط.. إني أرى المقاومة قادمة.
ويوم رأيت شعار الرافدين رأيت المقاومة تكتمل كالشمس في كبد السماء، فمقاومة الشعوب هي حالة شاملة مكتملة الأركان، والإعلام في زمننا هو ركن أساس في المقاومة.
كنت موقنًا –وما زلت– بنصر العراق؛ فالحضارات لا تخلف الآثار المادية فقط؛ بل الأصل فيها ما ترسمه من شخصية للإنسان.
وكل من قابلت من بعد، من عراق المقاومة، كانت الملامح وبناء الشخصية ترسم أمام عيني وفي وجداني، كامل التعبير عن ملامح الحضارة العراقية-الإسلامية المحفورة في قسمات الوجوه.
كنت وما زلت مشدوهًا بقسمات التاريخ في شخصية أبناء العراق، كان كل منهم تاريخ وحضارة تمسك بالأرض، كان عقل كل منهم خلاصة وعي بثته الحضارة العراقية وثبتته في أعماق النفس، وكانت المقاومة والدفاع عن الحضارة رؤية ومنهج للحياة؛ لا مجرد واجب فرضه الغزو والاحتلال.
ما أن علمت بأمر قناة الرافدين، حتى تقدمت ملحًا للمشاركة، كنت مدفوعًا بالرغبة في التعبير عن رفض الخذلان الذي تعرض له من وقفوا صامدين في مواجهة أعتى حالات الدمار.
وكنت متلهفا لأدفع ما يعلق في النفوس جراء هذا الإجرام الامريكي، فلم أجد إلا كادرًا إعلاميًا مقاومًا في الميدان؛ ما ثبّت نفسي وزاد قدري بالالتحاق بالرافدين.
كنت دارسًا لكل تجارب المقاومة الشعبية والمجتمعية، التي صمدت في وجه لصوص ثروات شعوب العالم وقادة التدمير عبر التاريخ، ووجدت نفسي ضمن الرؤية التي توصلت إليها منذ رأيت حشود العدوان تتجمع لغزو وإحتلال العراق.
وكان أشد ما لفت نظري هو قدرة الشخصية العراقية على الصمود والصبر والحركة العميقة بلا ضجيج. وتلك الرؤية الواضحة بلا أحاديث متحذلقة. كان العراق بتاريخه وحضارته ومقاومته ظاهرًا ولامعًا في كل ملامح شاشة الرافدين، وكانت الكلمات عنوانًا للوعي واليقين بالنصر.
والآن حين أقلب الأيام أشعر أني كنت أعيش وقائع قدر الالتحاق بقدر العراق، وما أنا إلا على قدر ضئيل ومبسط من وقائع تلك التجربة الهائلة من الصمود والقدرة والفاعلية والصبر.
كنت موقنًا أن الرافدين القناة، هي حالة إعلامية منحوتة من مفردات تاريخ العراق، وأنها علامة قوة الوعي بقدر الأمة وقوة حضورها المستقبلي، وعنوان على قدرتها على مواجهة الغزو والاحتلال.
وما زلت أرى الرافدين عنوانًا للمستقبل، حتى وهي تتعرض إلى ما تتعرض له الآن؛ فالأمة التي صنعت كل هذا التاريخ ونضجت تجاربها وتجددت؛ لن تخفت لها تجربة مقاومة، وأن من الأمة من سيقول: أنا لها، فعطر روح مقاومة أمة لا يجب أن يغيب.
والآن إذ أرى غزة بصمودها أقول بثقة: هي أمة لا تنكسر مهما كانت غطرسة وجبروت وإجرامية القتلة الذين لا يعيشون إلا على دمار الحضارات.
ما أحوج أمتنا لإستمرار صرح العراق المقاوم، في تلك المرحلة من عمر صراعها، وما أحوج أمتنا المتوسعة جغرافيًا والضاربة في عمق التاريخ؛ أن تدرك أن لا نصر في مثل ما نعيش، إلا بمعارك ننتصر فيها هنا وهناك، فذلك ما يشكل منظومة عودتها كامة القوة والقدرة.
هي أيام تلوح فيها بوادر الانتصار، هو المربع الأخير، هكذا أرى وقائع ما يجري. والمربع الأخير في الصعود هو الأصعب دومًا.
فمن له أن يرفع راية النصر سوى الرافدين.
من له أن يعود ليتحقق من استمرار (المجريين)، سوى الرافدين.
من له القدرة على التعبير العميق عن عودة العراق إلى دورة في تحقيق النهضة، سوى الرافدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى