وانتهى عصر القطب الأمريكي الأوحد
يمكن تلخيص أهم ما جرى دوليًا خلال الشهور الأخيرة في جملة واحدة: ضياع هيبة أمريكا.
انتهت فكرة وحالة الهيمنة الأمريكية “المطلقة” على النظام والقرار الدولي.
لقد دخلت الولايات المتحدة في مواجهة مع الصين، وأثبتت التجربة أن زمن القطب الواحد، الذي يفعل ما يشاء، قد انتهى. فقد بات واضحًا أن هناك قطبًا دوليًا آخر، ندًّا للقطب الأمريكي، وقادرًا على مصارعته.
وكان الأشدّ أهمية أن جرى الصراع في مجال الاقتصاد والتطور التكنولوجي في أعلى مراتب الابتكارات الحديثة، فثبت أن قدرة أمريكا كدولة حاكمة ومتحكّمة في التطور العلمي والتقني، قد ولّت.
وكان لافتًا في تلك المواجهة أن حدث اضطراب كبير وخطير في الأوضاع الاقتصادية الأمريكية، على نحوٍ أكبر ممّا أصاب الأوضاع الاقتصادية للصين، التي نالت سمعة القوة القادرة على مواجهة أمريكا، بل التفوّق عليها في بعض المجالات. وقد أُصيبت سمعة الشركات الأمريكية إصابة بليغة، بعدما ظهر أن منتجاتها تُصنَع في الصين بأسعار متدنية، وتُباع كمنتجات أمريكية فاخرة باهظة الثمن.
ولا شكّ أن قيام ترامب بخوض تلك الحرب بعنجهية، وبشعورٍ، ووفق تقديرات الدولة المهيمنة –وهو ما ظهر في شنّ الحرب ضد أوروبا ومختلف دول العالم في التوقيت نفسه– قد زاد من وضوح حالة ضياع الهيبة الأمريكية أمام أطراف دولية متعددة.
وإذ دخلت الولايات المتحدة على خطّ حلّ أزمة أوكرانيا بعنجهية، فكان أن ظهرت محدودية قدرتها وضعفها أمام روسيا –استراتيجيًا– إذ قدّمت لها كثيرًا مما يحقق أهدافها من شنّ تلك الحرب، دون أن تحصل منها على شيء.
كان ترامب قد أطنب في الحديث عن قدرته –التي هي قدرة أمريكا، لا قدرته كشخص– على إنهاء الحرب الأوكرانية في ساعات أو أيام، لكن ثبت من بعدُ محدودية القدرة الأمريكية على الضغط على روسيا، بل حتى على أوكرانيا.
وحتى ما كان قد جرى الترويج له من أن ترامب يمنح روسيا ما تريد في أوكرانيا، في مقابل تفكيك العلاقات التضامنية بين روسيا والصين، انتهى هو الآخر إلى سراب، مع حضور الرئيس الصيني إلى روسيا، وحضور قوات صينية ومشاركتها في العرض العسكري في روسيا، بمناسبة الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية.
وكان الأهمّ أن تسببت خطوات ترامب –الاقتصادية من جهة، وبشأن الحرب الأوكرانية– في دفع أوروبا إلى مربع أبعد عن الولايات المتحدة، وأن باتت أوروبا مجبرة على التفكير المستقل، بحثًا عن مصالحها الذاتية، وربما انتقلت إلى مربع عدائي في التعامل مع الولايات المتحدة، بما أنهى ما كان متعارفًا عليه باسم “الغرب”.
كانت فكرة الغرب، بقيادة أو زعامة أمريكا، هي المعطى الذي منح الولايات المتحدة أعلى سلّم الهيبة والهيمنة على الصعيد العالمي، فضعفت فكرة “الغرب”، أو باتت في طريقها للانتهاء، بما بات ممكنًا الحديث معه عن عزلة أمريكا.
وجاءت الضربة الأشدّ أثرًا على معالم القوة الناعمة للولايات المتحدة من الداخل الأمريكي، لتنهي الهيبة الأمريكية المستمدة من نظامها السياسي، وقواعد وقوانين الحياة في المجتمع الأمريكي.
فالرئيس الأمريكي يُقيم استعراضًا عسكريًا في ذكرى عيد ميلاده، والرئيس الأمريكي أمر بنشر المارينز في مواجهة مظاهرات في ولاية كاليفورنيا، والرئيس الأمريكي بات متهمًا بالسير بالحكم في أمريكا إلى طريق الديكتاتورية، وبات يُعسكر الحياة المدنية، ويُعيّن في المواقع العسكرية العليا مَن يواليه وينفّذ آراءه دون قرارات مؤسسية.
بل إنّ الرئيس الأمريكي بات يواجه اتهامات قضائية لا عدّ لها ولا حصر، وهذه المرة بسبب التغوّل على مؤسسات الدولة، سواء في قرارات رفع الرسوم أو على صعيد استدعاء ونشر المارينز، وغيرها وغيرها.
هيبة أمريكا وهيمنتها تنتهي الآن أمام أعين الجميع.
ومهارة الساسة العرب والمسلمين تتلخّص، هي الأخرى، في جملة واحدة: كيف نستفيد من تراجع أمريكا ونستعيد ما فقدناه خلال مرحلة قوة أمريكا وانفرادها بإدارة العالم.