ماذا وراء استبعاد العراق من الحرب؟
جرى اعتماد نموذج تجربة اغتيال قاسم سليماني في القصف الأمريكي على المفاعلات الإيرانية الثلاث، وفي الرد الإيراني بقصف القاعدة الأمريكية في قطر، والحمد لله أن لم يُصَب أحد من أشقائنا القطريين في القصف.
ولِمَ لا، وقد أثبت الطرفان جدارتهما وثقتهما بدقة تقديرات كلٍّ منهما تجاه الآخر خلال الصراع؟ ولِمَ لا، وقد أثبتت تجربة التخادم وتبادل المصالح – أو تقاطعها رغم اختلاف المصالح – خلال العدوان على العراق وبعد احتلاله؟ ألم يكن ذلك نموذجًا مبهرًا لقدرة البلدين على التعاون الاستراتيجي رغم الصراع والخلاف على المصالح بينهما؟
ألم تثبت التجربة أن إيران تعرف مدى قوة أمريكا، فلا تندفع لحرب معها، وأن أمريكا تعرف مدى حاجتها لإيران “العدوّة” التي تتصرّف ضدها بعقل وحكمة؟
لقد كان ترامب هو من أمر بقتل سليماني، وهو نفسه من تلقّى طلبًا إيرانيًا – عبر وسطاء – بقصف قاعدة أمريكية في العراق لحفظ ماء وجه النظام الإيراني أمام شعبه، حسبما قال هو عدة مرات، دون اعتراض أو رفض أو تكذيب من أي مسؤول إيراني. كان ترامب نفسه هو من وافق على أن تقصف إيران قاعدة أمريكية في العراق، بشرط ألّا تتسبب في وقوع أية خسائر بشرية، وهو ما التزمت به إيران. والرجل نفسه هو من كان قد أشاد بحكمة إيران حين أسقطت طائرة مسيّرة أمريكية، وتفادت إسقاط طائرة أخرى مأهولة كانت ترافقها.
إنه نمط عميق من الثقة رغم العداء المُعلن إلى درجة القصف!
انتهت الضربات، الأولى لأمريكا، والثانية لإيران. وخرج ترامب وقال إن بإمكان إيران أن تصدّر نفطها إلى الصين، وبات يتحدث عن مفاوضات خلال أسبوع. وحين حاول نتنياهو إعادة القصف، نهره ترامب بقسوة وأجبره على إعادة طائراته.
كان المشهد الختامي للضربات بين إيران والولايات المتحدة أسطوريًّا، ولا يمكن إلا لأمريكا إدارته. كان مشهدًا تتالت وقائعه بمنتهى الدقة في التوقيتات.
لقد جرت الوقائع وفق نمط تسريع المشاهد؛ فهكذا تكون مشاهد الختام دومًا، تتتالى المشاهد لتأخذ المتابع إلى حيث يُراد له أن يشهد النهاية بقلق وترقّب.
أبلغت الولايات المتحدة إيران – عبر وسطاء – أنها ستقصف المفاعلات، وتحركت الطائرات من الولايات المتحدة في مشهد مهيب، حيث كان الجميع يتابعها عبر الشاشات، مترقّبًا ما ستفعل. وفور أن ألقت حمولتها وغادرت الأجواء الإيرانية، خرج ترامب ليعلن إتمام القصف. وبينما المتابعون في انتظار الرد الإيراني المزلزل، جرى أخذهم إلى فقرات التحليل.
تحدّث من تحدّث عن الحرب الشاملة، وقال البعض إن مضيق هرمز سيُغلق، وسيكون النفط هو الضحية. وزاد عليه بعض آخر – وأبدع – إذ قال: ولا تنسَ بحر العرب كذلك. وتفلسف من تفلسف، وقال إن القواعد الأمريكية ستُقصف جميعها، وإن حزب الله والحوثيين وميليشيات إيران في العراق ستدخل المعركة. وهتف البعض: هي الحرب الشاملة!
وبينما الكل غارق في التخيل، جاء المشهد التالي مخيّبًا لكل التوقّعات. قصفت إيران قاعدة العديد في قطر لا غيرها، فسادت حالة الإحباط لدى المتابعين لفقرات التحليل. لكن الوقت لم يطل؛ ما كاد القصف ينتهي حتى خرجت الأنباء الواردة من واشنطن لتزفّ إعلانًا من الرئيس الأمريكي بقرار وقف إطلاق النار، بموافقة الطرفين الصهيوني والإيراني.
وهكذا، انتهى الجزء الأول من الحدث، وبدا أن الرئيس الأمريكي حقّق ما أراد؛ خرج منتصرًا، وحقّق الكيان الصهيوني نصف انتصار، وكذلك إيران.
كان هو من عرض التفاوض على إيران وألحّ عليه، وروّج لتقدّمه، فلمّا تعقّدت الأمور قرّر فتح الطريق لنتنياهو لإطلاق الضربات. وعند لحظة رآها مناسبة – تتعدّد بشأنها التحليلات – تدخّل عسكريًا ليكمل ما لم يتمكن نتنياهو من تحقيقه، ثم أعلن وقف الحرب وفتح الباب للتفاوض مجددًا.
وهو يتحدث ليل نهار الآن عن تفاوض مع إيران سيُجرى في غضون أسبوع. وهو يقصد التفاوض لتطوير نمط من العلاقات الاستراتيجية مع إيران، سيكون جوهره العلاقات الاقتصادية وتطوير ما سبق أن عرضته إيران على أمريكا بشأن إنفاق نحو تريليون دولار – وقيل أربعة تريليونات – في مشروعات استثمارية مشتركة. ولأجل ذلك، هو يصرّ على أن طيرانه أنجز مهمة إنهاء البرنامج النووي كليًا، كما يلوّح باحتمال العودة للقصف مجددًا في نفس الوقت.
لكن، سيكون هناك صراع تفاوضي من نوع آخر تزدحم فيه الملفات والأوراق، هدفه الضغط لإنجاز الاتفاق الذي يسعى إليه ترامب من المفاوضات التي أعلن عنها.
وفي هذا التفاوض – المخصّص للضغط وربما الإلهاء أيضًا – سيلمع نجم غروسي، رئيس هيئة الطاقة الذرية، إذ ستصبّ إيران نيران رفضها على عودة وكالته للتفتيش. وسيلمع نجم أوروبا التي ستتولّى الضغط لعودة غروسي ومفتّشيه، لا لسبب – الآن – إلا لتقديم تقارير استخبارية مدقّقة حول مدى الإصابات التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني من جهة، ولِيفتح الملف الشائك المتعلّق باليورانيوم المخصّب، سواء بدرجة 20% أو 60%. وسيتمترس الكيان الصهيوني عند فكرة العودة للقتال – بعد إكمال استعداداته – تحت عنوان إنهاء البرنامج الصاروخي الإيراني ومنع إيران كليًا من تخصيب اليورانيوم.
وفي كل ذلك، فالملاحظة البارزة والسؤال المسكوت عنه هو: لماذا حرصت أمريكا وإيران – بل حتى الكيان الصهيوني – على استبعاد العراق خلال كل تلك الأعمال الحربية؟
باختصار، لأن العراق أحد أهم أوراق التفاوض وتبادل المصالح الاقتصادية القادمة بين أمريكا وإيران من خلال المفاوضات التي يتحدث عنها ترامب.
وللحديث بقية.