رسالة عاجلة من سوريا للعراق
الأصل هو المجتمع. والمجتمع هو القادر على فرض الإرادة في مواجهة أيّ كان في الداخل والخارج. والمجتمع الذي واجه نظام بشار – المدعوم من الغرب وروسيا وإيران – وصمد وقدم كل التضحيات على مدار كل تلك السنوات، هو نفسه من تقدم حين جرى قصف صهيوني لقوات ومقر الحكم الجديد، وهو من أعاد التوازن، وهو من دافع عن وحدة الأرض تحت سلطة الحكم الذي هو في بدايات تشكيل الدولة.
لقد افتعلت مجموعات موالية للكيان والمشروع الصهيوني أزمة في جنوب سوريا، وتحركت ميليشياتها قتلًا وأسرًا وتشريدًا لسوريين آخرين في محافظة السويداء، ووصل الحال حدَّ طرد السكان على أساس الهوية. وإذ كان لزامًا أن تتدخل الدولة والحكومة الوليدة بقواتها لمواجهة هذا العنف الانفصالي والطائفي المرتبط بالمخططات الصهيونية بشكل مباشر ومعلن، وصل حد رفع العلم الصهيوني، فقد تحركت قوات الأمن والجيش الوليد لمواجهة تلك الفتنة وهذا التمرد. وجاء الرد من الكيان الصهيوني، إذ قامت قوات جيشه بقصف القوات السورية في عين المكان، وأرسلت رسالة أخطر، إذ قصفت مقر وزارة الدفاع وبوابات القصر الجمهوري.
باتت الأزمة أمام توازن مختلف، ومختل.
فالعصابات الطائفية لم تعد تتحرك بقوتها – وبتسليحها وتمويلها الصهيوني فقط – بل تحت غطاء سلاح جوّ الجيش الصهيوني. والقوات المسلحة السورية لا تملك أسلحة قادرة على مواجهة الطيران الصهيوني. والغطاء العربي والإسلامي للحكم والدولة الجديدة ليس جاهزًا لمواجهة عسكرية دفاعاً عن تلك التجربة.
استفحلت الأزمة، ولم يعد هناك خيار تكتيكي أو استراتيجي.
وظهر من قال: تفككت سوريا. وأن الساحل في انتظار الإشارة للانقضاض على وحدة سوريا من الغرب. وقيل إن الفرقة الرابعة من جيش بشار، التي كانت قد تبخرت من قبل، هي الآن محتشدة تقاتل مع هؤلاء الانفصاليين، ضباطًا وجنودًا. وظهرت بوادر ومؤشرات على قرب تحرك الميليشيات الكردية الانفصالية، وقيل إن الكيان الصهيوني بدأ أولى خطوات تشكيل “ممر ديفيد” الذي سينقل الدور والنفوذ والوجود العسكري الصهيوني من جنوب شرق سوريا إلى شمال شرق سوريا.
باختصار، كانت ليلة سوداء.
وكم من هؤلاء الذين دعموا التغيير في سوريا عادوا لمراجعة تقديراتهم بشأن إمكانية النجاح في مواجهة تحديات ما بعد إطاحة الأسد.
هنا حضر المجتمع بقوته التي لم يستطع أحد الوقوف أمامها. لا الكيان الصهيوني، ولا تلك الميليشيات المدعومة صهيونيًا.
تحرك المجتمع، وقلب كل المعادلات.
كان عنوان حركة المجتمع هو العشائر العربية، والفزعة العربية. وكان لافتًا أن جرت الفزعة ضمن إطار الدفاع عن وحدة الأرض، وعن قوة الدولة، وعن فرض وبسط سيطرة الحكم على الأرض. وتأكيدًا لكل تلك المعاني والمضامين، كان واضحاً التزام حركة المجتمع، ممثلة في فزعة العشائر، بقرار الحكم والدولة. وإن كان هناك من حدد الإطار الاستراتيجي لما يجري: فالحركة والدم الذي يُقدَّم هو لدعم الدولة، لا لمصلحة العشائر، ولا للتفكيك. هو لمنع تفكيك المجتمع، ومواجهة محاولة إضعاف الدولة.
وكل تلك المعاني هي رسالة من أهل سوريا إلى أهل العراق.
رسالة سوريا للعراق، أن الوقت وإن طال، فلا مناص من حدوث النصر، وأن المحتل الأجنبي، مهما كان جبروته، ستأتي لحظة ويجد نفسه مجبرًا على التسليم. وأن المحتل الأجنبي، وإن تعددت أسماء دوله، ستأتي لحظة ينتهي فيها الأمر إلى تغيير السياسات، واضطراب التحالفات – فلكل دولة قدرة مختلفة على الاحتمال – وأن التضحيات التي تُقدَّم، مهما بلغت، ومهما مرّ عليها من الوقت، لا تذهب سدى. هي تقف صامدة في تشكيل الوعي، وفي لحظة واحدة، تنتج النصر الذي يأتي حيث لا يكون متوقعًا.
أثبتت الأحداث أن قدرات المجتمع بلا حدود، وأن قدرته على الإبداع تفوق خيال كل المفكرين والمخططين والمثقفين. وأن المجتمع هو من بيده القرار، وأنه قادر على إنهاء الظواهر المتفلّتة أو الانفصالية أو المتعاونة مع المحتل الأجنبي. وأن حركته تغيّر المعادلات، وتقلب التوازنات، ولا تستطيع أية ميليشيات الصمود أمامها. وأن المحتل الأجنبي لا يستطيع المواجهة المباشرة مع مجتمع محتشد على قرار وطني.
سوريا قالت لأهل العراق – للمجتمع العراقي – من قبل: إن النصر قادم رغم أنف الأميركي والإيراني – وكلاهما كان حاضرًا في سوريا وإن تبدلت الأدوار – وأن توحيد موقف أغلبية الشعب العراقي قادر على تغيير كل المعادلات التي يبدو للبعض أن تغييرها مستحيل.
وسوريا تقول للمجتمع العراقي: إن فزعة واحدة قادرة على تغيير التوازنات، وإعادة صياغة المشهد الوطني العراقي، وإنهاء الاحتلال، وهزيمة ميليشياته.
وسوريا تقول للعراق: إن السلطة التي يشكلها المحتل ويحميها لن تبقى وإن طال الزمن. وإن المجتمع قادر على حماية السلطة الوطنية التي تعبّر عن المجتمع.
وإن المجتمع قادر على منع التفكيك، مهما طالت فترة الاحتلال، ومهما حاول، ومهما شكّل من ميليشيات.
تلك رسائل عاجلة من سوريا للعراق.