الغرب المنحط.. والدولة الفلسطينية
تكاثرت الإعلانات من القادة الغربيين حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وبدا في الظاهر أن الموقف الأمريكي هو الأشد رفضًا لهذا الحق الفلسطيني في حده الأدنى. لكن من يقلب في طبيعة مواقف القادة الغربيين الآخرين، يدرك مجددًا أنه أمام حالة انحطاط لا تقل كثيرًا عن انحطاط المواقف الأمريكية، وأن تلك المواقف المستجدة لا تستهدف تحقيق النذر اليسير من الحقوق الفلسطينية، بل هي مخطط التفاف جديد على تلك الحقوق الفلسطينية.وماذا نتوقع من تلك الدول، وحضارتها هي التي أبادت ملايين البشر، وهي من احتلت ونهبت خيرات الدول وسلبتها بقوة القتل والإرهاب والإبادة.
ترامب حين يتحدث بالرفض لتلك المناورة الالتفافية، فذلك لأنه لم يتربَّ في دهاليز الحكومات وسياساتها الخداعية. هو يتحدث بما يخفون. هو لا يعرف أي قيمة لارتباط الإنسان بالأرض ولا بالهوية، ولا يفهم أن الأرض إرث وتاريخ وحضارة. ترامب لا يعرف للأرض قيمة سوى بما يساويها من المال أو بما أُنفِق على الأعمال العسكرية من ميزانيات للسيطرة عليها وانتزاعها من أهلها. ولذلك سمعناه يتحدث عن طرد وتهجير الفلسطينيين من أرضهم في غزة، لكي يبني أبراجًا ومناطق سياجية، كما سمعناه يتحدث عن توسيع رقعة مساحة الكيان الصهيوني – لأن مساحته صغيرة – وكأنه يتحدث عن توسيع مساحة شقة سكنية.
هو يقول في العلن ما لا يقوله القادة الآخرون إلا في السر.
الآخرون لا يختلفون كثيرًا عن ترامب.
رئيس الوزراء البريطاني الذي تحدث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية – التي اعترف بها العالم كله من قبل، إلا الدول الغربية – تحدث بلغة التهديد للكيان الصهيوني، لا بمنطق الحق الفلسطيني. المتحدث باسم مجلس الوزراء البريطاني قال:
“المملكة المتحدة ستعترف بدولة فلسطين قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، ما لم تقدم الحكومة الإسرائيلية على خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروع في غزة، وتوافق على وقف لإطلاق النار، وتوضح نيتها عدم ضم أراضٍ من الضفة الغربية، وتلتزم بعملية سلام دائمة تؤدي إلى حل الدولتين”.
طيب يا سيادة رئيس وزراء بريطانيا، ألم يكن الأولى أن تتحدث عن حق الشعب الفلسطيني، ولو من بوابة الاعتراف بالذنب؟ أليست بلادك من ارتكبت تلك الجريمة، بدءًا من وعد بلفور وحتى الآن؟ وهي من تمنح الكيان الصهيوني السلاح الذي يُرتكب به الجرائم، ومن تمده بكل خلاصات نشاطاتها الاستخبارية؟ أليس واردًا حتى أن تطلق وعدًا محددًا، بعد كل تلك الجرائم ولو على سبيل الشعور بالذنب؟
هو لم يتحدث عن حق الفلسطينيين، بل أطلق تهديدًا وتحدث بلغة المستعد للتراجع عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذا وإذا… إلخ.
قد يمكن القول بأن مثل هذا النمط من العبارات هو محاولة للمرور الآمن من بوابة الموقف الغربي السابق، الذي كان يشدد على أن الدولة الفلسطينية لن تقوم قبل انتهاء المفاوضات – التي لا تنتهي – أي بموافقة الكيان الصهيوني. وقد يمكن تفسير الأمر بأن هذا الكلام هو جواز مرور داخل بريطانيا، التي تسيطر عليها نخب موالية للكيان الصهيوني، ويمكنها الإطاحة بحكومته.
لكن، إلى هذا الحد؟
يجعل مجلس وزراء بريطانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية تهديدًا – أو عقابًا – للكيان الصهيوني، ولا ينظر إليه كجزء من حق شعب انتُزعت أرضه، وقُتل منه مئات الآلاف، ويُجرى الآن تجويعه حتى الموت، ومهدد بالطرد مما تبقى من أرضه؟
أليس هذا انحطاطًا؟
وإذا ذهبنا إلى الاعتراف الفرنسي، نجد المسيو ماكرون يتحدث عن دولة منزوعة السلاح، بينما هي تعيش إلى جوار دولة نووية؟
ماكرون قال:
“إن الأولوية العاجلة الآن هي وقف الحرب في غزة وتقديم المساعدات الإنسانية لسكان القطاع المدنيين. السلام ممكن، ولتحقيقه لا بد من وقف إطلاق نار فوري، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وتقديم مساعدات إنسانية واسعة النطاق لأهالي غزة. ومن الضروري أيضًا ضمان نزع سلاح حماس، وتأمين وإعادة إعمار القطاع”.
هو يضع شروطًا لكي يقول من بعد إن الفلسطينيين لم يلتزموا. لم ينزعوا سلاحهم؟
أليس هذا انحطاطًا أيضًا؟
تلك المواقف وغيرها هي حالة انحطاط، وهي لا هدف لها سوى المناورة والالتفاف مجددًا على الحق الفلسطيني.
الحاصل أن الغرب وصل إلى خلاصة مفادها أن مصالحه باتت مهددة، وأن ما جرى من صمود في غزة بات يمثل نموذجًا خطرًا على كل الدور والنفوذ والوجود الغربي في العالم العربي والإسلامي.
والحاصل أن الكيان الصهيوني بات بين أيدي قادة مهاويس، لا يعرفون إلا لغة القتل والإبادة والتدمير – مثلهم مثل ترامب – بما يعرّي خطط الغرب ويفضحها في زمن انتهت فيه السيطرة على الإعلام، وصارت الصورة ولقطة الفيديو بألف مقال.
والحاصل أن الغرب – أوروبا خاصة – في حاجة ماسة للدور العربي والإسلامي في المواجهات الغربية الجارية مع روسيا، والصين، والبريكس، ودول ميثاق شنغهاي، وغيرها.
تلك هي القصة.
ولذا لا يجب أن ينخدع أحد، فتلك الدول هي من دمّرت العراق وأفغانستان، وهي من أبادت شعوبًا ودولًا عبر تاريخها وما تزال، وهي من أنشأت الكيان الصهيوني ولا تزال في كامل دعمها له، بل هي شريكة في القتل والتجويع والإبادة الجارية الآن.
المختلف هو طريقة تحقيق الهدف.