وهم نتنياهو من التطبيع إلى التركيع!
أظهر نتنياهو جرأة غير عادية حين تحدث في هذا التوقيت عن حلم إسرائيل الكبرى. تحدث نتنياهو في الأيام الأخيرة عن أنه يحمل مهمة تاريخية وروحية، وأنه متمسك جداً برؤية إسرائيل الكبرى، التي تشمل – كما هو معلن – الأراضي الفلسطينية كاملة، ومناطق من الأردن ومصر والعراق، أي من النيل إلى الفرات.لحديث نتنياهو مضامين واتجاهات استراتيجية عديدة. لكن السؤال الأهم هو: هل يملك الكيان الصهيوني القدرة على تحقيق حلم أو وهم نتنياهو؟
هناك تفسيرات كثيرة حول أسباب حديث نتنياهو الآن وفي هذا التوقيت.
منها أن نتنياهو يؤسس بهذا الكلام لمشروع برنامج يخوض على أساسه الانتخابات الصهيونية القادمة. تلك الانتخابات لن تكون عادية، فهي انتخابات ستُجرى والكيان الصهيوني عالق في حروب، ومصاب بخسائر كبيرة وغير مسبوقة خلال العدوان على غزة، واليمين الصهيوني-الديني، الذي ارتكن عليه نتنياهو في تشكيل حكومته الحالية، تواجه شعبيته تراجعاً حاداً حسب استطلاعات الرأي.
يعيد نتنياهو تعويم هذا اليمين مجدداً عبر مشروع يحمل المعاني الاستراتيجية والتوراتية.
ونتنياهو يقدم نفسه كبطل لليهود في العالم لمواجهة التحولات التي جرت بسبب جرائمه في غزة، إذ كثير من يهود العالم قد نددوا بمجازره، وباتوا ضمن حراك دولي واسع ضد ممارسات نتنياهو، وهو حراك بات يُضعف دور اللوبيات الداعمة للتطرف الصهيوني اليميني الذي يمثله نتنياهو. هو يقفز على ما يجري، ويغيّر جدول الأعمال، بتقديم حلم يحاول من خلاله إعادة تجميع القوى. وبطبيعة الحال، فنتنياهو يحاول حماية نفسه، إذ كيف “لبطل قومي وديني، صاحب دور وخطط لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى”، أن يُقدَّم للمحكمة الجنائية على الصعيد الدولي؟
ونتنياهو يشن بكلماته تلك حملة تخويف استراتيجية ضد دول الجوار التي تعرقل مواقفها تنفيذ خطة طرد الفلسطينيين من غزة والقطاع. هو يُخوِّف باحتلال تلك الدول أو أجزاء منها، كضغط عليها لتُغيّر أو لتُخفف مواقفها الرافضة لطرد ومرور وتوطين المهجّرين، وكأنه يقول للدول العربية: عليكِ القبول بأهون الشرين.
ونتنياهو يحاول القفز على ما يواجهه الجيش الصهيوني من مأزق متعدد الأبعاد. حديثه هذا هو محاولة لحث اليهود الحريديم على التجنيد في الجيش الصهيوني، باعتباره سيخوض حرباً ذات طابع روحي واستراتيجي. الجيش الصهيوني يعاني من نقص الأعداد، والمجتمع تتصاعد في داخله نزعة رفض قرارات استدعاء الاحتياط، بسبب وجود فئة – هي المسيطرة على قرار الحرب – لا تقبل بالتجنيد في الجيش. وحديثه هذا هو محاولة لتمرير خطته العسكرية لاحتلال غزة، التي تتصاعد الاحتجاجات المجتمعية والسياسية ضدها. هو يقفز فوق حرب غزة عبر مداعبة الأحلام الصهيونية. وهو يحاول رفع معنويات جنوده، بطرح قضية ومهمة كبرى للجيش، تبرر الخسائر والاستنزاف الذي لم يتعرض له الجيش من قبل أو منذ إنشاء الكيان الصهيوني. وهو كذلك يستهدف محاصرة حالة الرفض المتنامية بين قيادات الجيش لخططه، عبر إظهار من يقف ضد خططه بأنه يخرج على الأحلام والأهداف الدينية لحروبه.
وهناك من يرى أن نتنياهو ينتقل الآن من خطة التطبيع عبر المشروعات والاتفاقات، إلى فرض التطبيع بالتركيع تحت التهديد باستخدام القوة، بعدما حققه الجيش الصهيوني خلال الحرب على غزة ولبنان وسوريا وإيران وغيرها.
وهناك من يمكنه القول إن نتنياهو يقفز في الهواء جراء ما يواجهه من ضغوط خارجية وداخلية، ويُشبه ما يقوله الآن بما أصاب هتلر في سنوات الحرب الأخيرة التي لاحت فيها ملامح الهزيمة، فكان يواجهها بالاندفاع للأمام دوماً، فيزداد انفصاله عن الواقع. إذ يُطرح تساؤل حول حسابات نتنياهو تلك التي تجعله يدخل في صدامات كبرى، فيما هو معزول داخلياً وخارجياً، إذ كيف لمحاصر أن يتحدث عن معارك استراتيجية كبرى على هذا النحو؟
لكن الأهم: هل لدى الكيان الصهيوني القدرة على تحقيق ما قاله نتنياهو؟
واقع الحال أن ملخص الأعوام الأخيرة من حروب نتنياهو أن الكيان الصهيوني قد أظهر محدودية قدراته، إذ لم يستطع تحقيق انتصار حاسم في أي حرب شنّها.
في كل تلك الحروب التي خاضها الجيش الصهيوني ما تزال أصول أسباب الحرب كما هي، كما لم يتم تركيع أية قوة أو دولة جرى شن الحرب عليها. هذه الحالة تذكرنا بما جرى في حرب عام 67، حين توسع الجيش الصهيوني في الحرب إلى درجة كشفت محدودية القدرات الاستراتيجية الصهيونية، وعدم قدرته على البناء الاستراتيجي عليها، وانتهى الأمر إلى ما يواجهه الكيان حالياً من حروب وصفها نتنياهو بأنها حروب وجود.