عملية خان يونس مرحلة نوعية من حرب التحرير
تُصنّف عملية المقاومة الفلسطينية التي جرت أمس الأول في خان يونس، كعملية نوعية، وهي كذلك بلا شك، لكن الأهم في دلالاتها أن حرب التحرير الفلسطينية – التي بدأت بالهجوم الاستراتيجي في 7 أكتوبر 2023 – قد دخلت بهذه العملية أتون المرحلة الثانية من مراحل حروب التحرير. ولذلك، فالعملية نوعية كعملية هجوم على موقع تمركز لقوات الاحتلال، لكنها إعلان بمرحلة نوعية في حرب التحرير، حيث تتمكن المقاومة من الهجوم بمجموعات منظمة التشكيل ومتنوعة المهام، وقادرة على الهجوم والانسحاب، رغم كل التفوق الذي يتمتع به العدو.
تبدأ حروب التحرير بعد نجاح المحتل في احتلال الأرض وإسقاط النظام القائم، ويُؤرَّخ لبدايتها بانطلاق أول عمليات المقاومة. وتمر حروب التحرير بثلاث مراحل نوعية عامة في التوصيف “الكلاسيكي” لهذا النمط من الحروب.
في المرحلة الأولى، تظهر المقاومة كأعمال هجوم فردية أو لجماعات يُعد أبطالها على أصابع اليد الواحدة. تكون الأعمال الفدائية متفرقة، وتغلب عليها المبادرات الوقتية، فيما يكون الاحتلال قد أجهز على السلطة السياسية، وفكك جهاز الدولة السابق على الاحتلال، وبدأ في تشكيل نظام جديد ودولة جديدة تحقق أهدافه.
تلك المرحلة هي الأصعب على المقاومة، إذ يكون الشعب المحتل في وضع الجريح الذي يلملم جراح الغزو والاحتلال، وحيث يتطلب نشاط المقاومة إقناع الشعب بجدواها، والنجاح في صياغة مناخ وحالة وطنية عامة تُفسد مفاعيل الحرب النفسية للمحتل، وتُغير جدول الأعمال الذي يحاول المحتل فرضه على المجتمع بهدف إدارته داخل دورة الهزيمة.
وتطول تلك المرحلة زمنيًا، كما تحتاج إلى صبر عنيد. فكل عملية مقاومة يواجهها جيش الاحتلال بأعمال تنكيل عشوائية بالمدنيين في المناطق التي تشهد وقوع تلك العمليات. وقد يتمكن، لقلة خبرة المقاومين، من القضاء عليهم، وهي حالات شائعة في تلك المرحلة، إذ إن هؤلاء المقاومين لم يتدربوا من قبل على مثل تلك الأعمال القتالية. وفي تلك المرحلة، يُجرى تأسيس أولى لبنات المؤسسات السياسية والإعلامية. وتلك مسألة أساسية، إذ حروب التحرير هي حروب سياسية وإعلامية، رافعتها أعمال المقاومة.
ومن شروط تلك المرحلة تحوّل المجتمع إلى حالة الإيمان بضرورة المقاومة وجدواها، وإبداء قدرة معقولة على تحمّل جرائم العدو المحتل. والمحتل دومًا ما يقابل أعمال المقاومة بشن مزيد من عمليات الإبادة والقتل والتجويع والحصار ضد المدنيين. هو يعلم أن حروب التحرير هي حروب تُحسم عبر المجتمعات، لا عبر الأعمال العسكرية.
وشرطها الثاني، تحوّل أعمال المقاومة إلى حالة أعمق من التنظيم، وتطوير ونشر الرؤى السياسية، وتحقيق قدرة إعلامية متفوّقة في رسائلها وقدرتها على الوصول للمجتمع المحلي. وخلال تلك المرحلة، تكون الأعمال الهجومية للمقاومة – وكل أعمال المقاومة هجومية – موجهة لأهداف أكبر وأكثر تأثيرًا، كما تستطيع المقاومة السيطرة “المخفية” على مناطق في البلاد، والسيطرة ليس المقصود بها تحرير الأرض، حتى لا تتحول المقاومة إلى وضعية الدفاع القاتلة لها. وفي تلك المرحلة، تكون المقاومة قد نجحت في نقل المعركة السياسية والإعلامية إلى داخل مجتمع الخصم، لتفكيك إجماعه على الحرب، وقد حملت قضية الاحتلال إلى الرأي العام الدولي، وباتت تُشكل ضغطًا سياسيًا وإعلاميًا دوليًا، مضافًا إلى الضغط العسكري والإعلامي والسياسي الجاري في الدولة المحتلة.
وفي المرحلة الثالثة، يكون الاحتلال جيشًا وقيادة – والحكومة العميلة – قد أُصيبوا بالإنهاك، لتدور الدورة العكسية. وينتهي الاحتلال إلى الهزيمة.
ولذلك، حين ننظر لعملية خان يونس، نرى أنها تمثل نقلة نوعية للمقاومة الفلسطينية. العملية كانت هجومًا بعدد كبير من المقاومين. وقد ظهر خلالها الهجوم تقسيم عمل بين المقاومين، فكانت مجموعة اقتحام، وأخرى تتصدى لمجموعات المساندة والإنقاذ. كما تابعنا ظهور مجموعات مهمتها تغطية انسحاب المقاومين. وهي شهدت تخطيطًا فائقًا بُني على جمع معلومات دقيقة، بما مكن المقاومين من التجمع من مناطق متفرقة دون كشف العدو لهم، رغم سيطرته الجوية والأرضية، ومكنهم من تحديد توزيع وانتشار الجنود والقائد. وقد تمكن المقاومون من اقتحام مقر القائد ومبنى إقامة الجنود. وانتهت العملية بانسحاب من تبقى من المجموعة بعد انتهاء الاقتحام، وقتل الجنود الصهاينة، وتفجير آلياتهم.
وهي بهذا تمثل إعلانًا من المقاومة بوصولها إلى درجة من التخطيط والتنفيذ والاقتحام والانسحاب شديد التنظيم.
والأهم هنا، أنها إعلان بدخول المقاومة المرحلة الثانية من حرب التحرير، حيث الخصم بات في مرحلة دفاع عملياتي واستراتيجي، وبات غير قادر على حماية تمركزاته. وجاء الإعلان عن محاولة المقاومين أسر جنود وضباط خلال العملية، ليزيد من هلع قوات الاحتلال، كما دفع مواطنين صهاينة إلى الشوارع بأعداد غير مسبوقة مطالبين بوقف الحرب. وجاء كل ذلك، فيما القادة الصهاينة يتلقون الإدانات يوميًا من الرأي العام الدولي، وتُفرض عليهم وعلى كيانهم عقوبات من دول كانت في موقع المؤيد والمساند تاريخيًا.
هي إذن مرحلة نوعية. وهي تحمل كل ملامح المرحلة الثانية من حروب التحرير. وعدو المقاومة شاهد على ذلك.
فلقد شهدت المراحل الثانية من حروب التحرير – دومًا – اندفاع قيادة وجيش الاحتلال إلى تعميق مأزق الاحتلال عبر قرارات جنونية. قرار نتنياهو، الذي يتبرم منه الجيش الصهيوني والمعارضة الصهيونية، باحتلال مدينة غزة، هو شاهد. وما يتفوه به نتنياهو وأركان حكومته من المهووسين ضد قادة الدول الغربية الذين اعترفوا بالدولة الفلسطينية، هو شاهد ثانٍ على الانفلات العصبي الذي وصل إليه قادة الاحتلال.